مجلة الرسالة/العدد 111/صورة وصفية
→ إلى الأستاذ محمد كرد علي | مجلة الرسالة - العدد 111 صورة وصفية [[مؤلف:|]] |
من مشاهد الشرق ← |
بتاريخ: 19 - 08 - 1935 |
عبد السميع
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان كل امرئ يعرفه - أهل الحي، وزوّار الأمام الشافعي، والأجانب السياح الذين يجيئون إلى هذه الناحية، ليروا مقابر الخلفاء والمماليك ومدافن (الباشوات). وكان (عبد السميع) - كاسمه - سميعاً، ولكنه غير بصير؛ وكان له حجر عال عريض يقعد عليه، ولا يريمه، في الشتاء والصيف؛ ولم يكن يبالي لا الشمس ولا الرياح، ولا المطر ولا التراب؛ وكان يظل نهاره على هذا الحجر، فإذا غابت الشمس ودخل الليل، اختفى، كأنما ابتلعته الأرض، أو انشق له الحجر فغاب فيه، فكل ما يعرفه الناس من أمره أن هذا مكانه قبالة المسجد، وأن كل راكب يميل إليه ويترجل عنده، ويضع بين أصابعه زمام دابته، حتى يفرغ من الصلاة في المسجد أو غيرها مما جاء له، فينقده القرش أو المليم ويتناول منه العنان ويحييه ويمضي. وكان (عبد السميع) يعرف كل رجل وامرأة وطفل في الحي، وكل غريب ألقى إليه بزمام حماره أو بغلته أو فرسه أو مهره، من صوته؛ وكان من عجائبه أنه يعرف - وهو ممسك بالأعنة - حمار من الذي نهق، وأي هذه الدواب تعلك لجامها، وأي البغال مزنوقٌ فيرفه عنه ويرخي له الرباط الذي تحت حنكه، وأي حمار تفلتت الشكيمة من فمه، فينهض إليه ويردها إلى مكانها من فيه، وأي الأفراس انحل إبزيم منطقته فيعقده، أعني يدخل لسانه في طرفه الآخر. وكان كثيراً ما يشير على أصحاب الدواب باتخاذ المراشح تحت لبد السروج لتنشيف العرق، أو بتضمير الفرس إذا وجدها سمينة، أو برفع المهماز إذا أحس بيده آثار وخزه في جلدها، أو بتغيير السرج إذا وجد له عقراً بظهرها، فقد كان رحيماً رقيق القلب
وكان يأبى أن يتخذ عصاً يتوكأ عليها، ويجس بها الأرض ويقدر لرجله موضعها قبل الخطو، فكان يمشي مطمئناً واثقاً، كأنما يرى الطريق، ويلقي التحية إلى الناس بأسمائهم، في دكاكينهم حين يبلغها، بل كان يعرف المرء من دبة رجله على الأرض، فيقول له: (مالك مستعجلاً يا فلان؟ خيراً، إن شاء الله!) وكان - ولا يزال - هناك طريق أعلى من الميدان الذي أمام المسجد يؤدي إليه سلم، درجاته متهدمة، فكان إذا بلغها يرقى فيها كأنه صبي في العاشرة من عمره؛ ولكن أعجب من هذا كله أنه كان يركب الخيل والحمير والبغال، ويركضها في الطرق والسكك التي ألفها، فإذا اعترضته زحام أو قطيع من الغنم، حبس الدابة، ثم أرخى لها اللجام، وتركها تتخلل الزحمة حتى إذا أحس خلو السكة نقرَ بها، ليزعجها ويستحثها؛ فقد كان كما أسلفت شديد الرفق بالحيوان، لا تطاوعه نفسه حتى على نَكْزِه بقدمه العارية
وكان دائم البشر، لا يتجهم ولا يكتئب، ولا يبدو للناس إلا طلق المحيا، ضحوكاً، طيب النفس، حلو الدعابة؛ ولكن غزله كان فيه بعض العنف، فقد كان إذا داعب فتاة لا يحلو له إلا أن يقبض على شعرها ويجذبه إليه بقوة فينتف بعضه؛ وكانت الفتيات يحذرن ذلك ويتقين أن يكن منه بحيث تنالهن يده
وجاء الشتاء، وجاء معه طبيب عيون ألماني، فأدار عينه في الصحراء فرأى على جبل المقطم شيئاً كالبناء فأشار إليه وسأل عنه فقالوا هذا قبر الجيوشي - أمير الجيوش - فرجا منهم أن يكون أحدهم دليله إليه، فقالوا: (بل يكون دليلك عبد السميع) وجاءوه به، فتعجب، ولو كان يعرف العربية معرفتها لتمثل بقول القائل:
أعمى يقود بصيراً، لا أبالكم ... قد ضل من كانت العميان تهديه
ولكن عبد السميع لم يضله، ولم يندم الطبيب على ثقته به واطمئنانه إليه، ووجد في صحبة هذا الدليل الغريب كل ما طالعه به وجهه الصبيح من الأنس، فنشأت بينهما بعد هذه الرحلة صداقة فريدة، فكان الطبيب يزوره كل بضعة أيام، ويجلس إلى جانبه على حجره العالي، ويراعيه وهو يحرس الخيل والحمير لأصحابها؛ ووقع من نفسه رفقه بها وحسن تعهده لها، فقال له يوماً - بعربيته المحطمة - إنه يريد أن يعمل له في عينيه شيئاً، وإنه يرجو أن يرد بذلك بصره عليه، فضحك (عبد السميع) وقبل. وكان قد ألف أن ينظر الأطباء في عينيه وأن يسمعهم يتلاغطون بما لا يفهم، ثم يمضون عنه ويبقى هو على حجره
وجاء يوم نظر فيه الناس فإذا الحجر خال، ولا (عبد السميع) هناك، فصارت الأعنة تلقى إلى صبيان يشدونها إلى مسامير في الحائط، وينامون ويتركون الحمير تترافس
وكان (عبد السميع) راقداً على سرير نظيف في مستشفى، وعلى رأسه ووجهه - إلى أرنبة أنفه - الضمادات، وهو ساكن لا يقول شيئاً، ولا يبدي ألماً أو ضجراً، ولا يدع شكه يغلب بشره أو شكره لصديقه، وكان من العسير أن يعرف أحد في أي شيء يفكر هذا الراقد المعصوب الرأس. ولعله - لطول صمته على خلاف عادته - كان يجاهد أن يتصور الدنيا الجديدة التي سيرثها حين يفتح عينيه عليها ويبصرها لأول مرة؛ ولعله كان يستهول أن يبصر كل ما عرفه وألفه بحواسه الأخرى، وكان كل ما يجيب به الطبيب حين يحدثه وهو يغير له الضمادات (إن شاء الله! إن شاء الله!) ثم يتحرك كالقلق المضطرب على هذا الفراش الناعم تحت الملاءة النظيفة
وكان الطبيب واثقاً من نجاحه، فجمع إخوانه - زملاءه - في صباح يوم، وحل الأربطة بعناية وحذر، ثم ترك ضوءاً خفيفاً يدخل في الغرفة، وتناول يد (عبد السميع) برفق، وهو أشد ما يكون اضطراباً وسأله (أترى شيئاً؟) فقال عبد السميع - وعلى فمه ابتسامته التي لا تزايله - (صبراً، صبراً)، فصبر الطبيب لحظة ثم فتح النوافذ فغمر النور الحجرة وملأتها الشمس ورقدت أشعتها على السرير والجالس عليه، والأطباء حافون به، منحنون إليه، يحدقون في وجهه وأنفاسهم مسرعة، وقلوبهم في حلوقهم، و (عبد السميع) ساكن، ووجهه الباهت من طول الرقاد، إلى النافذة التي تطل على النيل؛ ثم تحركت يداه، وارتفعت كفه إلى محياه، وجعلت أصابعه المرتعشة تتحسس عينيه، فأدرك القوم أن الطب أخفق، وتوجع الطبيب الألماني وارفض دمعه، فغطى وجهه بكفيه ليحبس عبراته أو يكتم نشيجه، وسمع (عبد السميع) ما يتردد من البكاء المكتوم فنهض، وعلى وجهه ابتسامة رزينة، وتحسس طريقه إلى صديقه المحزون، ومد يده الخشنة فلمست لحيته المبللة، فنقلها إلى كتفه وقال بصوت لا يشي بما عسى أن يكون مطوياً تحت ضلوعه
(لا تبك يا صاحبي! ازجر عينيك، إنه قضاء الله، ولا حيلة لنا فيه، ومن نكون نحن حتى ندفعه أو نغيره!) ثم تلفت، فأقبلوا عليه يسألونه هل يريد شيئاً؟ قال: (نعم - صبي يعود بي)
وعاد إلى حجره، وخيله وحميره، فلم يغب عنها بعد ذلك مرة أخرى، ولم يقل لأحد أين كان
إبراهيم عبد القادر المازني