مجلة الرسالة/العدد 111/سعد باشا زغلول
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 111 سعد باشا زغلول [[مؤلف:|]] |
أيها البحر! ← |
بتاريخ: 19 - 08 - 1935 |
بمناسبة ذكراه الثامنة
كان رحمه الله كالبحر! لا تطالعه من أي جهاته إلا غمر نفسك بجلال العظيم، وشغل رأسك بخيال الشاعر، وأخذ حسك بروعة المجهول! لم يكن إنساناً كسائر الناس عظمته موضع الشذوذ في بشريته، وعبقريته بعض الكمال في نقصه، وقوته عَرَض منتقل في ضعفه؛ إنما كانت العظمة أصلاً في طبعه، والعبقرية فطرة في خَلْقِه، والقوة جوهراً في إرادته. وإذا كان النبوغ قوة في مَلَكَةٍ على حساب ملَكات، وارتفاعاً في جهة بانخفاض جهات، فأن نبوغ سعد باشا كان نظاماً عدلا في نوعه: ظهر في كل موهبة من مواهبه بمقدار واحد، وبهر في كل أثر من آثاره بشعاع ممتاز. فهو في صرامة المنطق مثله في لطافة الشعر، وفي جرأة القلب مثله في رقة الشعور، وفي بلاغة اللسان مثله في براعة الذهن، وفي كيد الخصومة نفسه في شرف الرجولة، وفي قيادة الجمعية التشريعية عينه في قيادة الأمة المصرية!
سعد زغلول ومحمد عبده هما الآية الشاهدة على سمو الجنسية المصرية الخالصة، والحجة القائمة على فضل الثقافة العربية الصحيحة. نشأ كلاهما قرويين لم يَشُبْ دماءهما عنصر دخيل، أزهريين لم يشلَّ تفكيرهما تقليد عاجز؛ ثم مضيا على إلهام الجنس، ورسم التاريخ، وهدى العقيدة، يدعو أحدهما إلى إصلاح الدين، ويدعو الآخر إلى إصلاح الدنيا، برجولة الخلق، وفحولة التفكير، وبطولة التضحية؛ حتى كان من أثر جهادهما المباشر ما نحن والشرق فيه من انتباه العقل وانتعاش الوجدان وثورة الحميّة.
كانت معجزة الرجلين في رسالتهما الإنسانية، من نوع معجزة الرسول في رسالته الإلهية: رجولة قاهرة وفصاحة ساحرة وخلق عظيم. وتلك هي عناصر الشخصية الجبارة التي تأمرك وكأنها تستشيرك، وتقودك وكأنها تتابعك، وتتطامن إليك وأنت منها كما تكون من البحر أو الجبل أو العاصفة!!
إذا شئت أن تختصر رسالة في كلمة فهي (الدفاع عن الحق)؛ تطاوع له منذ شب بدافع من غريزته الحاكمة وطبيعته الناقدة؛ فكان في كل مرحلة من مراحل حياته يذود عنه طغيان القوة، وسلطان الهوى، وعدوان الرذيلة. عُيِّن بعد خروجه من الأزهر محرراً في الوقائع المصرية مع أستاذه الإمام، فكان يكتب في الاستبداد والشورى والأخلاق، وينتقد الأحكام التي كانت تصدرها يومئذ (المجالس الملغاة)؛ ثم عين ناظراً لقلم قضايا الجيزة، وكان حكمه حكم القاضي الجزئي، فنزل الحق من عدله وعقله في حمى أمين؛ ثم أصغى لصرخة الحق في الغضبة العرابية ففصل من وظيفته، فزاول المحاماة، وهي يومئذ حيلة الباطل وخصيمة العدل وآفة الخلق؛ فأنقذها من هذه المراغة، وطهرها من ذلك الرجس، وردّها إلى طبيعتها مجلوة الصدر عفيفة الأديم، تساعد القانون وتؤيد الحق.
وكان سعد أفندي زغلول أول محام أقرته المحاكم الأهلية في مصر، فجعل دستور هذه الحرفة النبيلة هذا الجواب الجامع الذي أجاب به ممتحنه وقد سأله عن واجبات المحامي فقال:
(درس القضية، والدفاع عن الحق، واحترام القضاء).
ثم اختير نائب قاض في محكمة الاستئناف، ويومئذ درس الفرنسية ونال إجازة الحقوق، فبرع القضاة الأوربيين بالذهن الغواص، والدرس المحيط، والتوجيه النزيه، والاستدلال الصحيح، والاستنباط الدقيق، والحكم الموفق. ثم انتقل من القضاء إلى وزارة المعارف، وكان لدنلوب فيها استبداد الطاغية، وفساد المستعمر، وعناد القدَر؛ وكان لهذا الفاجر صرعى كثيرون أولهم اللغة العربية والكرامة المصرية؛ فطأطأ سعد بسطوة الحق علو المستشار، وأعز جانب العربية في وطنها فجعلها لغة الثقافة، ووضع الأقدار في مواضعها فرفع بذلك من قدْر الكفاية. ثم انتخبته الأمة نائباً في (الجمعية التشريعية)، فكان بشخصيته الغلابة ولهجته الخلابة وحججه المُلزمة وأجوبته المفحمة رهبة الوزراء، ودهشة النواب، ومُتجه الأفئدة؛ وكان مناهجه فيها قوله المأثور:
(الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة)
ثم أُعلنت الهدنة ووضعت الحرب العامة قضية العالم كله على مكاتب الغالبين في (فرساي)، فدوى في سمعه صوت الحق الصريع، وعصفت في رأسه نخوة الشعب المستذَل، فنهض للغاصب المزهوّ نهضته المعروفة، فحيّس بها أنف الجبار العنيد، وفتح بفصلها الدامي تاريخ مصر الجديد.
وهكذا اصطفى الله سعداً لرسالة الحق، في أمة سَفِهَتْه في نفسها فلا تأخذه ولا تعطيه، ثم ركَّبه على الصورة التي أرادها لتبليغ هذه الرسالة، ثم هدى به قافلة قومه إلى طريق السلامة، وجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة!
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات