الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 111/النهضة التركية الأخيرة والموسيقى الشرقية

مجلة الرسالة/العدد 111/النهضة التركية الأخيرة والموسيقى الشرقية

مجلة الرسالة - العدد 111
النهضة التركية الأخيرة والموسيقى الشرقية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 19 - 08 - 1935


بقلم عبد الحميد رفعت شيحة

قرأت بشغف عظيم ما خطه يراع الأستاذ القدير الدكتور عبد الوهاب عزام عن (النهضة التركية الأخيرة) وما تناوله من بحث ونقد أبرز الإصلاحات الكمالية بقلم نزيه مخلص يظهر منه بجلاء الأسف الشديد الذي يشاركه فيه كل شرقي يعتز بشرقيته على ما قام به الترك من قطع كل ما يصلهم بالشرق، وتجنبهم كل ما يدنيهم منه كما يتجنب السليم الأجرب. .! معتقدين أنهم بذلك يضمنون عطف الغرب عليهم، في حين أنهم لن ينالوا إلا سخرية تلك الأمم التي تقدس الشخصية والجنس

ولما لم يشر حضرة الأستاذ الدكتور إلى حملة الكماليين على الموسيقى الشرقية رأيت أن أتناول هذه الناحية بهذه الكلمة:

للموسيقى الشرقية تاريخ مجيد لم يبق خافياً على أحد. إلا أنه من الإنصاف أن نعترف بفضل الأتراك وخدمتهم لها. . فإننا لم نعد نقرأ فقط ما استحدثوه من علوم وفنون فيها، ومن اشتهر بينهم من أعلام الموسيقى، بل حفظوا لنا ثمارهم الفنية بتدوينهم لها بعد استعمالهم (النوتة الغربية)

وهم وإن كانوا إلى وقت قريب يستعملون التدوين الموسيقي على أخطاء كثيرة، إلا أنهم على كل حال قد صانوا ثروة فنية عظيمة يحق لنا أن نفخر بها أمام الموسيقى الغربية

هذب الأتراك الموسيقى الشرقية وأحدثوا بها فنوناً لم يكن للشرق عهد بها، وتبحروا في علم الأنغام ووضعوا لكل نغم شروطاً دقيقة تميزه وتظهر شخصيته بجلاء، ولهم في هذا الميدان جولات موفقة، حتى أنهم استنبطوا كثيراً من الأنغام الشائعة بيننا، ووجهوا عنايتهم كذلك إلى علم الإيقاع ووضعوا لأوزانه طريقة حديثة تدون بها، كما أن لهم فضلاً لا يستهان به في ابتكار جملة ضروب زادت من جمال الموسيقى الشرقية. هذا إلى اهتمامهم بضبط مسافات السلم الموسيقي الشرقي وعدم تركهم كبيرة ولا صغيرة في الموسيقى النظرية أو العملية إلا قتلوها بحثاً وتمحيصاً

إنه حق وفضل لا ينبغي إنكارهما. . وقد كنا إلى عهد قريب نعترف فخورين بزع فلما قامت (النهضة التركية الأخيرة) تهللنا بشراً وقلنا لا بد أن القوم لن يقنعوا بما وصلت إليه موسيقاهم من تقدم ونجاح، وسيدأبون على البلوغ بها إلى أوج المجد والعظمة. . ولكن أحلامنا اللذيذة لم تلبث طويلاً عندما فوجئنا بقرارات الكماليين القاسية التي منها: استعمال الحروف اللاتينية بدل العربية، وهجر ألفاظ لغة الضاد، والترحيب بالمصطلحات اللاتينية و. . . وأخيراً. . عدم استعمال الأرباع الشرقية، وإلغاء الموسيقى التركية وإحلال الغربية محلها. .!

نزلت علينا تلك القرارات نزول الصاعقة وهدمت ما كنا نبنيه من آمال. . وظهر لنا ما يضمره الكماليون من إسراف في هجر الشرق والشرقيين، ومن رغبة في الفناء في الغرب والغربيين. .!

تتأثر موسيقى كل أمة - كما يتأثر أي فن - بعوامل شتى: منها الجو والأخلاق والعادات وغير ذلك. فليس من السهل أن نبدل بقرار ذوق أمة في غمضة عين، لأنها لم تكتسب هذا الذوق إلا بمرور الزمن وبفعل مؤثرات البيئة التي تعيش فيها. فقرار التركي الأب (أتاتورك) إلغاء الموسيقى التركية لا محالة خاطئ لأنه يجبر الأتراك على موسيقى لم يتذوقوها ولن يتأثروا بها مطلقاً. . فإذا سمع التركي مثلاً قطعة حماسية غربية فلن تهز مشاعره بقدر ما تفعل فيها قطعة تركية، لأن الأولى لم تصل إلى طريقة استفزاز شعور التركي، ولم تصدق في التعبير عن نفسيته، بعكس الثانية؛ وإذا كان الألماني مثلاً لا يتأثر بموسيقى الفرنسي أو الروسي كما تؤثر موسيقاه، فكيف بالتركي، والفرق شاسع جداً بين تقارب أمزجة هؤلاء وبُعد هذا الأخير عنهما. .!

كان الأجدر لو أريد قتل الموسيقى التركية أن تشجع الموسيقى الغربية ويشجع الاقتباس منها والتطعيم بها؛ فعلى مر الزمان تزول تلك الموسيقى التي لا نصير لها، بدل هذا التصرف الذي استعملت فيه الطفرة. ولكن من يجرؤ منهم على إعلان هذا الرأي يكون نصيبه شراً مما نال الأستاذ المدرس بالجامعة في المؤتمر اللغوي، وحسين جاهد، وقد أشار إليهما حضرة الدكتور عزام في إحدى مقالاته القيمة. .!

من هذا نلاحظ أن الديوان الموسيقي الغربي مكون من أصوات كاملة وأنصافها؛ بينما الديوان الشرقي يتكون من أصوات كاملة وأنصافها وأرباعها أيضاً. . ولكنهم مع ذلك آثروا الديوان الأول لأنه غربي قبل كل شيء. .!

فإذا كان الديوان الغربي موجوداً بتمامه ضمن الديوان الشرقي، وبذا يتسنى عزف أية قطعة غربية على أية آلة موسيقية شرقية، مع أنه في كثير من الآلات الغربية لا يمكن عزف أغلب القطع الشرقية. . . وإذا كانت الأرباع الشرقية تتيح ثروة جديدة في علم الأنغام زيادة على الثروة التي نحصل عليها من الأنصاف وحدها، وبذا يتسع المجال أمام الملحن ويمكنه أن يعبر بلحنه عما يشاء. . . . فهل من الحكمة أن نلجأ إلى الديوان الناقص ونترك الديوان الكامل. . .؟

إن كل مزايا الديوان الغربي موجودة في ديواننا الشرقي، وفوق ذلك فإن لديواننا مزايا أخرى عندما نستعمل الأرباع الصوتية، فلا شك حينئذ في أن قرار الحكومة التركية إلغاء الأرباع الشرقية في الموسيقى لم يكن لعيب في هذه الأرباع بل إتماماً للخطة التي رسموها من البعد عن كل ما هو شرقي أو يمت للشرق بصلة. .

الآن. . وقد ظهر للملأ تصرف الحكومة الكمالية وتنصلها من كل ما يقربها من الشرق سواء كان ذلك في الدين أو العلم أو اللغة أو الفن أو الأخلاق والتقاليد، فليس من الخير أن يقتصر موقفنا على مراقبة أعمال هذه الحكومة وعلى مناشدة الكتاب والمفكرين أن يتعاونوا في هذه السبيل (حتى يجلوا عن الأمة هذه الغمة، ويدفعوا عنها هذه الفتن المدلهمة، والشُّبه المضلة، ثم يسيروا بها على المحجة البيضاء إلى الغاية المجيدة) كما يتمنى الأستاذ الفاضل الدكتور عزام، بل يجب أن نفكر تفكيراً جدياً في نقل الفنون الشرقية من تركيا كي نحافظ عليها قبل أن تعفو ويطويها البلى

فإلى مفكري الشرق العربي أرسل هذه الصيحة راجياً أن يولوها حقها من الاهتمام، وأهيب بوزارة المعارف المصرية أن ترسل إلى تركية بعثة من طلبتنا النجباء كي يدرسوا فنون الموسيقى الشرقية الصميمة، وينقلوا لنا كل ما تصل إليه أيديهم قبل أن تتلاشى هذه الفنون ويتم حلول الموسيقى الغربية محلها، وذلك أسوة بالبعوث التي ترسها إلى أوربا؛ وهناك يتشبع الطلبة بالموسيقى الغربية ولا يكونون في المستقبل حرباً على الموسيقى الشرقية التي من العار أن تنهض على حساب الموسيقى الغربية أو تتلوث بدماء دخيلة فيتعكر صفاؤها. .

إسكندرية

عبد الحميد رفعت شيحة