مجلة الرسالة/العدد 110/وقفة بالعقيق!
→ مأساة قضائية شهيرة | مجلة الرسالة - العدد 110 وقفة بالعقيق! [[مؤلف:|]] |
عاقبة سليمة ← |
بتاريخ: 12 - 08 - 1935 |
للأستاذ على الطنطاوي
وقفة بالعقيق تطرح ثقلاً ... من دموع بوقفة في العقيق
ماثل بين أربع ماثلات ... ينزع الشوق من فؤاد علوق
البحتري
تتمة ما نشر في العدد الماضي
وأرى عروة وقد أقبل من سفره، فدخل القصر، وحار الناس كيف ينعون إليه محمدا، حتى جاء عيسى بن طلحة فدخل عليه، فقال عروة لبعض بنيه: اكشف لعمك عن رجلي ينظر إليها، ففعل
فقال عيسى: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا أبا عبد الله! ما أعددناك للصراع ولا للسباق، ولقد أبقى الله لنا منك ما كنا يحتاج إليه: رأيك وعلمك
قال عروة: ما عزاني أحد عن رجلي مثلك
قال: فإني معزيك بمحمد!
فوثب فزعا يقول: ما له؟
قال: لقد لقي الله
فاصفر عروة ثم جلس يسترجع ويقول:
اللهم أخذت عضوا وتركت أعضاء، وأخذت ابنا وتركت أبناء، فإنك إن كنت أخذت لقد أبقيت، وإن كنت ابتليت لقد عافيت!
ويتبدل المنظر فإذا أنا أرى قصر سعيد بن العاص الذي يقول فيه عمرو بن الوليد:
القصر فالنخل فالجماء بينهما ... أشهى إلى النفس من أبواب جيرون
وأرى فيه حركة وازدحاما، وأرى على الوجوه سحابة من غم، وعلى الجباه سطورا من كآبة، فأغشى القوم أسألهم وأعلم علمهم فإذا هم واجمون، لأن سعيد بن العاص يحتضر! وأي نبأ في المدينة أروع من موت سعيد؟ وفيه يقول الفرزدق:
ترى الغرّ الججاجح من قريش ... إذا ما الأمر في الحدثان غ قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنهمُ يرون به هلالا
وأدخل القصر فأسمع عمرا ابنه يقول له: لو نزلت إلى المدينة!
فيقول له سعيد: يا بني إن قومي لن يضنوا علي بأن يحملوني على أعناقهم ساعة من نهار، فإذا أنا مت فآذنهم؛ فإذا واريتني فانطلق إلى معاوية فانعني له، وانظر في ديني، واعلم أنه سيعرض قضاءه فلا تفعل، ولكن اعرض عليه قصري هذا، فإني إنما اتخذته نزهة وليس بمال
وما هي إلا أن يموت فيحمله الناس من قصره حتى يدفنوه في البقيع. ورواحل عمرو بن سعيد مناخة، فيعزيه الناس على فبره ويودعونه، ويمضي من ساعته إلى معاوية فيكون أول من ينعاه له. فيتوجع له معاوية ويقول: هل ترك دينا؟
فيقول: نعم، فيقول معاوية: هو علي
فيقول: قد ظن ذلك وأمرني ألا أقبله منك، وأن أعرض عليك بعض ماله فتبتاعه، فيكون قضاء دينه منه
فيقول: اعرض علي
فيقول: قصره بالعرصة
فيقول معاوية: قد أخذته بدينه
قال نوفل أبن عمارة: وكان دين سعيد ثلاثة آلاف ألف درهم، فاشترى معاوية القصر بألف ألف درهم، والمزارع بألف ألف، والنخيل بألف ألف درهم
فيقول عمرو: هو لك على أن تحمله إلى المدينة، وتجعلها بالوافية.
فيحملها له إلى المدينة، فيرقها عمرو في غرمائه، وكان أكثرها عدات وعدها سعيد، فيأتيه شاب بصك فيه عشرون ألف درهم بشهادة سعيد على نفسه، وشهادة مولى له عليه، فيرسل عمرو إلى المولى فيقرئه الصك، فيبكي حين يقرؤه ويقول: نعم، هذا خطه وهذه شهادتي عليه
فيقول عمرو: ومن أين لهذا الفتى عليه عشرون ألف درهم؟ وإنما هو صعلوك من صعاليك قريش.!
فيقول المولى: أنا أخبرك: مر سعيد بعد عزله فاعترض له هذا الفتى، ومشى معه حتى صار إلى منزله، فوقف له سعيد وقال: ألك حاجة؟
قال: لا. إلا أني رأيتك تمشي وحدك، فأحببت أن أصل جناحك
فقال لي سعيد: ائتني بصحيفة، فأتيته بهذه، فكتب له على نفسه هذا الدين، وقال: إنك لن تصادف عندنا شيئا فخذ هذا، فإذا جاءنا شيء فأتنا
فيقول عمرو: لا جرم والله لا يأخذ إلا بالوفية، يا غلام! أعطه إياه، فيعطيه عشرين ألف درهم وافية
ويجيئه مولى لقريش فيقول: إني أتيت أباك بابن مولاي (فلان)، وقد هلك أبوه ليزوجه. فقال: ما عندي، ولكن خذ ما شئت في أمانتي
فيقول له عمرو: كم أخذت؟ فيقول: عشرة آلاف
فيقبل عمرو على القوم فيقول: من رأى اعجز من هذا؟
يقول له سعيد: خذ ما شئت في أمانتي، فلا يأخذ إلا عشرة آلاف، والله لو أخذ مائة ألف لديتها
ويتبدل المنظر، فأرى العقيق قد ازدحم بالناس حتى كأنه المحشر، وانتقلت إليه المدينة حتى لم يبق فيها كهل ولا غلام، ذلك أن خبرا سرى في المدينة سريان الأمل في النفوس اليائسة، فترك الناس ما هم فيه وأقبلوا على قصر سعيد يسمعون منه ما يسمعوا. . . وإذا ابن عائشة وهو أضن خلق الله بالغناء، وأسو الناس فيه خلقا، ومن إذا قيل له غن: قال: ألمثلي يقال هذا وإذا ابتدأ بغناء وقيل له أحسنتن قطع الغناء مغضبا وقال: ألمثلي يقال أحسنت؟ وإذا هو يغني أطيب غناء وأطربه، فلا ينتهي من صوت حتى يشرع في آخر، لا يسكت ولا يستريح، حتى عدوا عليه مائة صوت، وإذا خبره أن العقيق طغى وازداد ماؤه، فاعتصم ابن عائشة بقصر سعيد بن العاص فملأ الماء عرصة القصر، فصعد على قرن البئر ورآه الحسن بن الحسن، وكان قادما على بغلة له وخلفه غلامان أسودان كأنهما شيطانان، فقال لهم: امضيا رويدا حتى تقفا بأصل القرن الذي عليه ابن عائشة؛ فخرجا حتى فعل ذلك، ثم ناداه الحسن: كيف أصبحت يا ابن عائشة؟ قال بخير! فداك أبي وأمي، قال: انظر إلى من بجنبك، فنظر فإذا العبدان؛ قال: أما تعرفهما؟ قال: بلى، قال: فهما حران لئن لم تغني مائة صوت لآمرنهما بطرحك في البئر، وهما حران لئن لم يفعلا لأقطعن أيديهما. فغنى فلم ير الناس أحسن يوما منه
ثم أرى فتيانا من فتيان المدينة فهم يونس الكاتب وجماعة ممن يغني قد خرجوا إلى واد يقال له رومة من بطن العقيق، فغنوا، فأثار غناؤهم أهل الوادي، فاجتمع إليهم الرجال والنساء حتى كان حولهم مثل مراح الضأن؛ وأرى محمد بن عائشة مقبلا معه صاحب لهو، حتى يرى جماعة النساء عندهم فيأخذه الحسد، وتحز في نفسه الغيرة، فيقول لصاحبه: كيف بك إذا فرقت هذه الجماعة؟ فيسخر منه صاحبه، فيهيج ابن عائشة فيأتي قصرا من قصور العقيق فيعلو سطحه، ويلقي رداءه، فيتكئ عليه ويغني بشعر عبيد بن حنين:
هذا مقامُ مُطَرَّدٍ ... هدمت منازله ودوره
نمت عليه عداته ... كذباً فعاقبه أميره
ولقد قطعت الخرق بع_د الخرق معتسفاً أسيره
حتى أتيت خليفة الر - حمن ممهوداً سريره
حييته بتحيّة ... في مجلس حصرت صقوره
فلا ينقضي الصوت إلا والنساء كلهن تحت القصر الذي هو عليه، وقد تقوض مجلس يونس ولم يبقى فيه أحد!
وأرى غلاما خلاسيا، مديد القامة أحول، قد ارتقى صخرة في العقيق منفردة، فاضطجع عليها ضجعة خفيفة، ثم هب فزعا وهو يغني غناء ما سمع مثله السامعون، يزعم أن الشيطان أجراه في مسامعه وهو نائم، ويعيد الغناء وهو يتصيد الطير بحبالة في يده، فيمر به شيخا مغني مكة ابن سريج والغريض، وقد أقبلا على بعيرين لهما يزوران المدينة ويتعرضان لمعروف أهلها، ويلقيان من بها من صديقهما، فيسمعان ثم يستعيدان الصوت:
القصر فالنخل فالجماء بينهما ... أشهى إلى النفس من أبواب جيرون
فيعيده، وهو مشغول عنها بصيده، فيقبل أحدهما على صاحبه فيقول: هل سمعت كاليوم قط؟ فيقول: لا والله! فيقول: فما هو رأيك؟ فيقول: هذا غناء غلام يصيد الطير، فكيف بمن في الجوبة؟ أما أنا (فثكلته أمه) إن لم أرجع!
فكرا راجعين
وكان الغلام (معبد) سيد من غنى صوتا في الحجاز! ويتبدل المنظر فأرى حميدة بنت عمر بن عبد الرحمن بن عوف، وقد خطبها رجل عبشمي من أهل الشام، فلما أزداد أن يرتحل بها وحف بهما الناس يودعونهما سمعت رجلا يغني بشعر أبي قطيفة:
لا ليت شعري هل تغير بعدنا ... جنوب المصلى أم كعهدي القرائن
وهل ادؤر حول البلاط عوامر ... من الحيّ أم هل بالمدينة ساكن
إذا برقت نحو الحجاز سحابة ... دعا الشوق منى برقها المتطامن
ولم أتركنها رغبة عن بلادها ... ولكنه ما قدر الله كائن
فتسقط وقد أغمي عليها، فيعالجونها كيما تفيق، فإذا أفاقت سمعته يغني:
ألا ليت شعري هل تغير بعدنا ... قباء وهل زال العقيق وحاضره
وهل برحت بطحاء قبر محمد ... أرهط غرّ من قريش تباركه
لهم منتهى حبي وصفو مودتي ... ومحض الهوى مني وللناس سائره
فتغشت بين النساء وسقطت ميتة. . . . . .
. . . واضطربت الصورة وتضاءلت، ثم توارت واختفت، وإذا صفحة الماء بيضاء ليس فيها صورة، وإذا المجد والجلال، والعطر والنور، وإذا الدور والقصور، والأنس والحبور؛ كل أولئك قد غطى عليه الفناء، وابتلعه هذا السيل الدفاع، ثم عاد يجري بين الآكام الجرداء، وله خرخرة وله دردرة. . .
وإذا كل ما بقي من هذه الدنيا الواسعة، قهوة قامت على جذوع النخل، وبئر نصبت عليه سانية، وجماعة قد تحلقوا يشربون الشاي، ويطربون، وما بهم لو حققت من طرب؛ وإذا قصر سعيد أنقاض ماثلة، وإذا سائر القصور تلال من الرمل الأحمر. . . . .
وإذا المجد والجلالة والجا - هـ كما يطرس السطورَ البنان!
دمشق
علي الطنطاوي