مجلة الرسالة/العدد 11/نظرة في نظام بيعة
→ أدب اللفظ وأدب المعنى | مجلة الرسالة - العدد 11 نظرة في نظام بيعة [[مؤلف:|]] |
خواطر في الشعر العربي ← |
بتاريخ: 15 - 06 - 1933 |
الخلفاء
النمو الثاني.
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
- 2 -
هل استطاع التاريخ أن يصدر حكمه في ثورة الفرنسيين؟ إن هذه الثورة قريبة العهد، فحوادثها قريبة الحدوث وأكثرها مدون في وقته، مضبوط التاريخ وحكومة اليوم قائمة على تلك الثورة، ومن أكبر الجرائم في دولتها أن يعمل أحد على مس نظام الجمهورية الذي وضعته تلك الثورة، ومع ذلك فأنّا نجد الأفكار مقسمة مضطربة إذا تناولت ذكرها وحوادثها. فقوم من المؤرخين يتشيعون لها ويتغنون بكل ما كان فيها. وقوم آخرون ينكرون عليها فعالها، ويزوّرون من قاموا بها وآزروها.
وهل يستطيع العرب ألاّ أن يكونوا كذلك؟ فأن ثورتهم في مدة الخليفة عثمان لم تكن ثورة من كل الناس، وان اشترك فيها كل العرب بالرأي والقول، وتناولوها بين منكر ومنتصر. ولسنا بسبيل هؤلاء أو أولئك، ولكننّا نرى إنها مثل الثورة الفرنسية، ان اختلفت فيها الآراء فأن الكتّاب جميعا متفقون على انها كانت ظاهرة اجتماعية طبيعية. فلندع الخوف في هل كانت تلك الثورة حقا أم كانت باطلة، وحسبنا من القول أن يقال إنها كانت ثورة طبيعية، وإنها كانت خطوة في سبيل بناء الدستور العربي. وهي وان لم يشترك فيها كل العرب قد كان فيها ممثلون للأنحاء المختلفة من بلادهم، فقد كان فيها جماعة من مصر وجماعة من مصري العراق، كما اشترك فيها الأعراب من أنحاء جزيرة العرب. وقد جمعت جماعة من الزعماء كما ضرب فيها العبيد بسهم فعدد الثائرين كان محدودا، ولكن فكرة الثورة كانت شائعة، وكانت رقعتها كذلك محدودة، ولكن مدى الاشتراك فيها كان يشمل حدود الدولة العربية إذ ذاك. لسنا نقصد أن نقول إن العرب جميعا كانوا يريدون سفك دم الخليفة الشهيد، فقد كان هذا أبعد شيء عنهم، بل أن الفكرة ذاتها لم تكن في نفوسهم من أول الأمر، ولكن الثورة كانت في نفوس الجميع. وكانت ثورة طبيعية لا هي وليدة تدبير ولا هي بنت حادثة، بل كانت نتيجة فكرة اختمرت في النفوس حتى صارت عقيدة، ثم كان من الأمر ما كان عن عقيدة.
كان انتخاب سيدنا عثمان كما سبق القول نتيجة اختيار واسع الرقعة وكان كذلك قائماً على تعهد وبرنامج، ثم جرت حوادث على مرّ الأيام لاحظها العرب وأحصوها في نفوسهم، وإذا قلنا العرب فإنما نقصد جميع العرب سواء في ذلك من كانوا في قلب الجزيرة والحجاز ومن كانوا في الأمصار. وهل كان أهل الأمصار يتركون الأمر يسير كما يشتهي فئة من قريش وهم جنود الدولة الذين يوفرون له الفيء والأموال، ويعودون عليها بالنصر والفتح. ولسنا في حاجة إلى هذا التساؤل فحسبنا أن نتذكر أن اختيار عثمان كان قائما في ناحية منه على رضا جنود الأمصار، فإذا لاحظ هؤلاء الجنود كيف يذهب فيئهم في غير وجوهه انقلبوا ينتقدون رئيس الدولة الذي يسمح بمثل هذا، وإذا رأوا مشيختهم يُعزلون عن البلاد التي فتحوها لكي تسلم القيادة إلى فتية لا غناء لهم ولا تحيط بهم ذكريات المجد والفتح أحاطتها بالزعماء المعزولين نفرت نفوسهم وطفقوا يحصون على الوالي الجديد أعماله ويسيئون تأويلها أو يزيدون تأويلها قبحا. ومنذ بلغ الحال هذا المدى بدأ النقد يتخذ شكل الشكوى. ونطقت الألسنة بما دار في النفوس من التهم.
ولسنا نقصد أن نذكر الحوادث أو نسرد ما كان من الخطوات التي أدت إلى الثورة، فذلك معروف متداول، ولكننا نذكر أمرين لا غنى عنهما: الأمر الأول أن رؤساء العرب في المدينة اقتنعوا اقتناعا كبيرا بحق الشاكين ووجوب إزالة ما يشكون منه وبدأت نفوسهم تنحرف عن عثمان عندما رأوه لا يبدي الجد في إحقاق الحق وكان جديرا به أن يكون عند الحق مقيدا. والأمر الثاني أن الذين كانوا يأتون للشكوى لم يكونوا من أهل الفساد والعبث بل كانوا رجالات من الزعماء أتوا وقلوبهم موغرة تملؤها الشكوى، وما كانوا يقصدون سوى أن تزال مواطن تلك الشكوى بعد أن بثوها مرارا.
وما كانوا مدفوعين إلاّ بعامل واحد وهو الإصلاح. وكان أبعد شيء عنهم أن يفكروا في قتل الخليفة، ويثيروا بذلك المشكلات والعداوات أو أن ينقضوا بناء الدولة الذي كان لهم الفضل في بنائه فضلاً عن انهم من جنود الدولة الحريصين على الدفاع عنها وبسط سلطانها. وإذا كان لابد من ضرب المثل للتدليل على صدق مذهبنا في هذين الأمرين فأنّا نذكر القراء بما كان من عبد الرحمن بن عوف وهو كما نعلم صاحب اليد في اختيار عثمان. فأنه غير متهم إذا هو قام يذكر عثمان بما وجب عليه. ولقد بلغ به الأمر أن خاصم عثمان وحلف ألا يكلمه بكلمة حتى يفرق بينهما الموت، وقد بر بقسمه فقد قيل إنه لمّا حضرته الوفاة دخل عليه عثمان عائداً فأدار وجهه إلى الحائط ولم يكلمه. وذلك موقف كان يدعو إلى ترك الخلاف لو لم يكن الأمر قد بلغ حداً لا يرتاح الضمير إلى التساهل فيه. وإذا شئنا أن نكرر الأمثلة التي تدل على انحراف زعماء الصحابة عن عثمان في آخر الأمر لم نضق بالأمر، فقد غضب طلحة حتى كان فيمن يحرض على عثمان تحريضاً شديداً، وغضب عمار بن ياسر وبلغ الأمر بأبي ذر الغفاري أن نفي من المدينة، ولكنه لم يكن راضياً وإن لم يظهر شيئاً من غضبه بأكثر من كلمات قالها لعثمان أو لبعض أهله. ولقد كان علي (رض) في أشد المواقف فأنه كان في حيرة بين واجبه نحو صديق آخى بينهما رسول الله (ص)، وبين واجبه نحو العدل وهو بقية العهد الأول من عهود الإسلام، وهو البطل الذي ما كان يرضى بالحيد عن العدل مهما كان في سبيل ذلك من الأخطار. على انه كان مع ذلك يحاول أن يحمل الخليفة على الإصلاح لكي يتحاشى النكبة التي لاحت في الأفق.
وأما الأمر الثاني وهو حسن نية الثوار فليس أدل عليه من أنهم لم يرضوا بترك الأمر فوضى بعد قتل الخليفة، بل كانوا يعرضون الأمر على الزعماء. ويظهرون لهم وضوح حجتهم في ثورتهم، ولم يفكر أحدهم في أن يذهب إلى مصره ليضرم فيه النار، أو أن يهرب إلى بلده قبل أن يستقر الأمر ويتدارك ما كان من الخطب، فلم يكونوا بالمجرمين الذين متى تمت جريمتهم فزعوا هاربين من ضوء الشمس يحاولون أن يدخلوا في غمار الناس حتى لا تنالهم معرة فعلهم. فكانوا أشبه الناس بأصحاب يوليوس قيصر عندما قتلوه وقاموا بين الناس معترفين بما أتوه، وبأنهم إنما فعلوا فعلتهم دفاعاً عن الحق والحرية.
قتل الخليفة ولكن قتله كان غير مدبر تدبيراً محكماً نتيجة تفكير طويل، بل جاء عندما فزع الثوار إذ بلغهم أن الجيوش الموالية له تتحرك نحوهم لتبطش بهم من أنحاء الأمصار. وقد ذهب الخليفة ضحية الظروف القاسية التي كانت تخيم على دولة العرب والتي كانت تحتاج إلى رجل له عقلية غير عقلية عثمان. عقلية محضة لا تردد فيها بين العواطف المختلفة، ولا تنازع فيها بين جانبي العدل والميل الطائفي، فأمّا أن تكون عقلية دنيوية محضة تسير على الميل الطائفي والأثرة ولكنها تسير قُدُماً بغير تردد، وأما أن تكون عقلية عادلة محضة تسير مع العدل قدماً بلا تردد، وأما عثمان فقد كان قلبه مملوءاً بفكرة العدل، ولكنه كان لين العاطفة يصل قرابته، ولا يستطيع إلاّ أن يكون مائلاً نحو من لهم به مساس من رحم. فتردد بين الدافعين المتضادين، وكانت الكارثة من وراء هذا التردد.
ولما تم الأمر عاد الثوار إلى أنفسهم وكأنهم يريدون إنقاذ الموقف فقضوا أسبوعاً يبررون فعلهم، ويعرضون الخلافة على الزعماء. وقد أرادوا ألاّ يبعدوا عن السنن التي اختطها السلف وألاّ يحيدوا عمّا سار عليه العرب في بناء دستورهم منذ كانت دولتهم، فرأوا أن يرجعوا إلى آخر خطوة من خطى ذلك الدستور قبل الثورة، ألا وهي خطوة الشورى. ولم يكن الوقت ليسمح لهم بالسير بعد ذلك خطوة أخرى جديدة في سبيل تقدم ذلك الدستور وهي الخطوة التي كانت تنتظر لبلوغ نظام كفيل بتمثيل العرب واختيار أليقهم للخلافة إذ أنّ ذلك كان يستلزم الهدوء والاستقرار. فلمّا لم يستطيعوا السير إلى الأمام عادوا إلى حيث كانوا ورجعوا إلى المرشحين للخلافة بعد مقتل عمر. وكان بعضهم قد لحق بربه مثل عبد الرحمن بن عوف وكان بعضهم بعيدا عن المدينة، وهو الزبير. فعرض الخلافة على طلحة فأبى وكره أن يتقدم في مثل هذا الظرف خوفاً من التهمة، إذ كان ممن ظهر منهم التحريض الصريح على عثمان، وأمّا سعد بن أبي وقاص فقد كان أخرج نفسه منها منذ حادثة الشورى وأبى أن يعاود نفسه في ذلك الأمر، فلم يبق من المرشحين للخلافة من أهل الشورى إلاّ علي (ع). وقد عرض الثوّار الخلافة عليه فلم يرض بادئ الأمر، وأبى كل الإباء أن يقبلها.
وكان عليّ عند مقتل عمر (رض) أول المرشحين للخلافة، ولولا أنّه أبى أن يقيد نفسه بغير كتاب الله وسنة نبيّه، ورفض أن يحرم نفسه الاجتهاد على هذين الأساسين فيما يقابله من مسائل الدولة لكان هو الخليفة بعد عمر. ولمّا رأى الثوار أن كل أهل الشورى لا يواتونهم فيما يطلبون عادوا إلى عليّ وغيروا لهجة عرضهم وخاطبوه بما وجد في قلبه موقعا. وذلك أنهم بدءوا يظهرون لهم حال الدولة الإسلامية، وقد مضى عليها أسبوع بغير خليفة، وحدودها ممدودة إلى أعداء كثيرين. وإذا استطال الأمر بها لم يؤمن عليها من الضياع والانفراط. وهل كان عليّ يترك دولة الإسلام في مثل هذا المأزق ويتردد في قبول حمله والاضطلاع به؟ لقد كانت المشكلات واضحة لكل ذي عينين، وكان كل من عرضت عليهم الخلافة يرفضونها، وهم يخشون ما وراء قبولها من العقبات والأخطار والمتاعب. فلم يكن الأمر أمر خلافة وسلطة وسيادة بل كان الأمر أمر شقاق، وكان على الخليفة أن يحاول القضاء عليه، وأمر دولة تريد أن تنهار ويجب الاحتفاظ بها وحفظها من الضياع، وأمر شهوات وأغراض يريد أصحابها أن يصلوا إليها متسترين بالثأر، والواجب حماية المجتمع والدولة الإسلامية منها. وقد كان عليّ من بناة الدولة وأول أبطالها الذين تعرضوا للموت مرارا في سبيل بنائها، فلمّا أن جاءه الثوّار من ناحية ما يحيط بها من الأخطار ثار قلبه ونسي كل ما يمكن أن يلقى في سبيل الدفاع عنها، وقبل ما يعرضه الثوّار، وكان عن الخلافة راغبا. وقال عند ذلك كلمته القصيرة الكبيرة الدلالة: (قد أجبتكم لما أرى، وأعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وان تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلاّ أني أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم).
على أن هذه الثورة وإن كانت في مظهرها هدماً قد كانت في الحقيقة بناء له خطر عظيم في دستور الدولة العربية. فقد أظهر العرب بعنف أن الخليفة إذا قبل شرط المبايعة كان لزاما عليه أن يفي بما تعهد به، وانّه إن لم يفعل كان للشعب أن يعزله. فإن أبى أن يعتزل أو يعتدل كان للشعب أن يثور عليه. وإذن كان على الخليفة الذي يلي أمر العرب بعد ذلك أن يحتاط ويحترس في السير على منهاجه الذي بايع عليه. وبذلك تم بناء الدستور العربي الأول على أسس واضحة صريحة، فقد كان اختيار الخليفة في ذلك الدستور من حق العرب جميعا، ولكن السنّة التي سار عليها خلفاء العرب الأوائل جعلت اختيار الخليفة محصوراً، فما كان الخليفة ليختار إلاّ من قريش. وكان الخليفة يختار ممن تتوافر فيهم شروط الرجولة التامة والعدل الذي لا يعرف ميلا، وكان أساس الاختيار أن يعمل الخليفة بمقتضى برنامج صريح قائم على أحكام الكتاب والسنة والاستنارة بسنن الخلفاء الماضين. وكانت المبايعة من جانبين: جانب الشعب وجانب الخليفة فإذا خالف الخليفة شروط المبايعة كان للشعب أن ينقده ويطلب إليه الرجوع إلى المنهاج القويم وإلاّ كان له أن يثور عليه. ولم يقف نمو هذا الدستور بعد ذلك لنقص في القوة الحيوية في الشعب العربي. بل قد تكلّف خلفاء بني أميّة وبني مروان شيئاً كثيراً من العناء وارتكبوا جرائم كثيرة وخاضوا الحروب والمخاطر قبل أن يستطيعوا أن ينقضوا أسس ذلك الدستور.