مجلة الرسالة/العدد 109/حديث
→ فرقة الخوارج | مجلة الرسالة - العدد 109 حديث [[مؤلف:|]] |
من مشاهد الشرق ← |
بتاريخ: 05 - 08 - 1935 |
بقلم الأديب أحمد الطاهر
نفض يديه الشريفتين من غبار الحرب وجلس إلى أصحابه وقال: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.) قول على سهولة وضعه، وبساطة لفظه، يدل على فهم وثيق للحياة، وإدراك عميق لأسرارها، ووزن صحيح لحقيقتها. وهو يدل من ناحية على عظمة هذه النفس النبوية التي وازنت بين جهاد الغزو، وكفاح الحرب، - وفي ذلك ما فيه من كرب وبلاء - وبين جهاد الإنسان في الحياة تلقاء ما يلقى من خطوبها، وأحداثها، وصروفها، واعناتها، وما يفرض عليه فيها من حقوق لا مندوحة عن أدائها، فأدرك رسول الله وقال إن الحرب جهادها أصغر، وإن الحياة جهادها أكبر، وإن جهاد الأبدان هين يسير، وجهاد النفوس شاق عسير، وإن جهاد الغزو محدود بوقته قصر أو طال، وجهاد الحياة يبدأ بالحياة وينتهي بانتهاء الآجال
وفي كلمة رسول الله تحديد لما بين النفوس والأبدان من صلة تجعل للنفوس على الأبدان سيطرة وسلطاناً، وتسخر الأبدان للنفوس فيما توجهها إليه من غايات ومقاصد
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
وكلما علت النفوس سمت أغراضها، وجلت مآربها، فاشتد الجهاد والنضال بينها وبين ما يتكاءدها في سبيل الحياة من عقبات وحوائل، حتى يصبح جهادها عنيفاً حاراً يهون إلى جانبه جهاد الغزو على ما فيه من سفك للدماء
ولا جدال في أن صاحب السلطان والأمر ومن اضطلع بتدبير شؤون الرعية والقيام على حقوقها، والذود عنها يلقى عناء ومشقة وعسراً، يتضاءل أمامها ما يلقاه أوزاع الناس وعامتهم ممن ليس عليهم من الأمر إلا أن يسخروا أبدانهم لنيل غرض أو بلوغ مقصد
أدرك رسول الله أنه وقد خرج من ميدان الغزو ونفض عن نفسه وعن أصحابه نقع الحرب، سيلقى ميدان جهاد أوسع وأرحب وأكثر عناء وأشد بلاء، أليس عليه بعد هذا الغزو من أعباء الدنيا والدين، ما لا يقوم به إلا أولو العزم المتين؟
أليس عليه أن يقر هذا النصر الذي أحرز، ويرجع الأمور إلى نصابها في السلم بعد أن نبت بها مواضعها في الحرب؟ أليس عليه أن يواصل السير في تبليغ الرسالة التي أؤتمن عليها، وأن يسوس بالعدل والرحمة الأمة التي بعث إليها، وأن يثبت بين الناس شرعة قد نشر لواءها، ويسلك بهم ودياناً قد مسح غثاءها؟
أليس عليه أن يؤدي لله شكراً على هذا النصر والتأييد؟ وأداء هذا الشكر لا تعرفه إلا هذه النفس العظيمة التي لا ترضى فيه بما دون الغاية، ولا تنتهي فيه إلى نهاية؟
أليس في ذلك من العناء والجهد ما يهون بجانبه عناء الحرب وجهادها؟
وأهون ما يهون به عناء الحرب وجهادها أن رسول الله المؤيد بروح الله، ليس عليه إلا أن يستنفر الناس فيسعوا إليه زمراً تخضع لآرائه، وتنضوي تحت لوائه؛ وأما جهاد السلم الذي ألممنا ببعض نواحيه إلماماً فمكتوب عليه وحده، يضطلع بالأمر فيه، ويحيط بأسراره وخوافيه، وهو في هذا الجهاد أعزل أكشف لا عدة له إلا نفس عظيمة في صدره، ووعد من الله بنصره!
وسوق الناس إلى الحرب ليس بالأمر الشاق العسير: فساعة الحرب تسبقها أحداث وخطوب وإحن وحفائظ: تستنهض الهمم، وتستنفر النفوس، وتستثير العزائم. فما هو إلا أن يستنفروا فينفروا وينساقوا إلى الحرب ورداً، يؤزهم الحماس أزا، حتى إذا (حميت وشب ضرامها) رخصت الأرواح وهان الموت: فما ترى الناس يفكرون أو يترددون، ولكن إلى حياض الردى يتدافعون: لا يصدهم عنها صاد ولا يتكاءدهم في سبيلها عقبة، وأنى لهم أن يترددوا والحافز لا تفتر همته، والدافع لا تهن عزمته. وهم لا يستشعرون عناء للحرب، ولا يرون خطراً للقتال، ولا يفكرون في بلاء الغزو. لأنهم لا يجدون متسعاً لأن يشعروا أو يبصروا أو يفكروا
أما في السلم فما أشق الرسالة وما أخطر الجهاد! الناس هادئون وادعون، يجدون من الوقت والطمأنينة متسعاً للتخاذل والتفكير، والتردد والتدبير، والاختلاف والمحال، والتنكر والجدال، أليس شاقاً جهاد الرسول: وهو يدعوهم إلى دين لم يعرفه آباؤهم، وخلق لم تألفه طباعهم، وحياة غير التي ألفوها؟
على أن رسول الله حين أشار إلى الجهاد الأكبر، جهاد الحياة، لم يكن يحدث الناس بما سيلقاه وحده من نصب وإعنات، وإنما أراد أن يذكرهم بما كتب عليهم جميعاً من جهاد في الحياة. فما كتب الجهاد على الزعماء دون الدهماء، ولا كتب على القواد دون الأجناد، ولا على الرعاة دون الرعية، ولا على الكبير دون الصغير، إنما جهاد الحياة فرض يستقبل الناس حين يستقبلون الحياة، ولا ينصرف عنهم حتى تنصرف عنهم الحياة
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه ... بما سوف يلقى من أذاها مهدد
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأفسح مما كان فيه وأرغد
وهذا الطفل إذا اشتد جاهد في الحياة جهاداً يتسق مع شأنه في الحياة، ولا يزال ينمو ويخطو في حياته، ونصيبه من الجهاد ينمو ويخطو ألزم له من ظله حتى مماته. وجهاده في مراحل حياته يعتريه من الأعراض والصور وما يعتري كل كائن حي في أطوار حياته من نمو وقوة ونشاط وضعف وعجز وفتور وغير ذلك
فالرضيع لا يجاهد إلا فيما يشعر به من ألم أو حاجة. ولذا يكون جهاده (ذاتياً) محدوداً، يستعين فيه بأعضاء بدنه؛ فإن ألح عليه الألم والحاجة استعان فيه بالبكاء حتى يغاث فيظفر، أو يعي فينام فيقهر. ثم ينمو الطفل فيدرك معنى (الملكية) فيجاهد في الاحتفاظ بما ملك ويسعى لملكية ملا يملك، فيزداد جهاده، ويشتد ويحول إلى غير ما كان عليه جهاد الرضيع
والشاب في شبابه يدرك معنى الحياة فيستشرف إلى نعيمها وملذاتها، وتتعدد حاجاته ومطامعه، ويسعى حثيثاً للاستمتاع بالنعيم واللذة، ويعد نفسه لما تفرضه عليه سنن الحياة، فيجاهد في ذلك جهادا عنيفاً، ويلقى في جهاده نصباً
والكهل يسعى وراء الرزق: يدبره لنفسه، ويدر أخلافه على أهله وأبنائه، ويدخر منه لعقبه وأخلافه. وإنه لواجد في سبيل الرزق عقبات وعوائق. وإنه لجاهد مجاهد في تذليلها، والتغلب عليها، وإن جهاده لشديد، وإنه لأكثر بلاء وعناءً
والشيخ الفاني الذي نفض يديه من الدنيا، تنتابه الأمراض والعلل، ويلح عليه الفناء، وتخذله قواه؛ فيجاهد في الحياة الباقية له جهادا عنيفاً جباراً، ولكنه خافت صامت؛ يكسر من حدته صبر الشيوخ وأناتهم، وضعف آمالهم واستسلامهم
أولئك جميعاً تفرض عليهم الحياة فروضاً، وتلوح لهم بمطامع وهم يبسطون إليها آمالاً: ثم تقيم لهم في السبيل عقبات، وتنصب بينهم وبين مطامعهم حجاباً، وتجعل أمانيهم سراباً، وهم لا ينفكون يجاهدون: تنزل بهم البأساء، فيطمعهم الرجاء، وتنقطع بهم أسباب الأمل، فيغريهم طول الأجل
حتى الرجل الذي لا تشغله الدنيا بزخرفها. والذي يصدف عن مطامعها، والذي يؤثر الآخرة على الأولى: ذلك جهاده قوي حاد. فهو أبداً في جهاد مع نفسه ولنفسه: يروضها على الزهد والاستغناء، ويدفع عنها عوامل الأغراء، ويسوقها إلى الفضيلة، ويباعد بينها وبين الرذيلة، وهو جهاد لا يهون، ولا يصبر عليه إلا القليلون
وأهون الناس شأناً في الحياة وأقلهم تقديراً لشأنها وأكثرهم استخفافاً بها لا محيد له عن الجهاد فيها: أليس عليه أن يجاهد الحر والبرد والمطر والشمس والعلل والأمراض؟ ذلك جهاد على سذاجته شاق وعسير
ما أصدق رسول الله فيما قال، وما أبعد نظره فيما رأى.
اليوزباشي أحمد الطاهر