مجلة الرسالة/العدد 108/قلعة الرمل
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 108 قلعة الرمل [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 29 - 07 - 1935 |
بقلم حسين شوقي
كانا يسيران على الشاطئ غير معنيين بما حولهما وهما يتبادلان هذا الحديث:
هو - عزيزي، إني آسف إذ تأخرت عن موعدك؛ ولكن صديقاً حميماً لم أره من زمان طويل اعترضني في الطريق استوقفني ملياً. . .
هي - لا عليك من ذلك، فثمة ما يدعو للاعتذار
هو - ولكن لماذا أجدك وحدك؟ لم لم تذهبي إلى السيدة (س) لتأنسي برفقتها؟
هي - أني أوثر العزلة، كي أشهد في سكون تلك الصفحة الزرقاء العجيبة المنبسطة أمامي. . .
هو - ولكن البحر ثائر اليوم، إني لا أحبه في مثل هذه الحال؛ إنه ليشبه وجه عجوز قد غضنته السنون
هي - أنت تراه كذلك؟. . . أحسبك زعمت لي مرة أنك تحب البحر وهو هائج، لأنه يشبه قطيعاً من الخراف البيضاء اللطيفة!. . .
هو (في حيرة) - هل. . . هل ينزل البحر؟
هي - نعم، وأنت؟. . .
هو أنا سأنتظرك في المقصف، لأني على موعد هناك؛ أتأذنين لي في الذهاب؟
هي - الآن؟. . .
هو - أجل. . . .
هي - لك ما تشاء!. . . (ثم افترقا)
الفتاة في هم شديد، لأن صاحبها لم يعد يحبها؛ إنها لا تشبهك في أنه بدأ يملها، فقديماً لم يكن يسمح لها أن تنزل إلى البحر وحدها وهو كذلك مضطرب مائج، وهو لم يلاحظ ثوب البحر الجديد الجميل الذي كانت تلبسه، مع انه نال إعجاب جميع الذين شاهدوها تخطر به على الشاطئ. . . تنهدت الفتاة قائلة: (آه! لماذا لم تخلق القلوب البشرية متشابهة كلها؟ لماذا خلق كل قلب يعيش من عواطفه في دنيا وحده؟)
وبينما الفتاة غارقة في هذا التفكير، إذ وقع نظرها على أطفال يبنون قلعة من الرمل، وه يهللون ويلغطون فرحين. بدد هذا المنظر البهيج خواطر الحزن التي كانت تستبد بالفتاة، فوقفت ترقب في اهتمام عمل الصغار، ولما انتهى بناء القلعة وضع الأطفال في كل ناحية منها قطعة من الخشب على شكل مدفع، ثم اختلفوا على جنسية العلم الذي يرفع على القلعة، إذ كان كل منهم يحاول أن يرفع رايته؛ وبعد جدال ومداولة، اتفقوا على رفع راياتهم جميعاً عليها ونال كل منها حظه من المجد. عندئذ صاحت الفتاة في دهشة: ولكن ملك أي دولة هذه القلعة؟ فأجابوا ملك جميع الدول
فقالت الفتاة: آه ما أمهركم في السياسة أيها الصغار! لو أن آباءكم لم يعرفوا الأثرة لأراحوا العالم من مشاكل عدة! ليت رجال السياسة ظلوا أطفالاً. . .! ولكن، هاهي ذي موجة عظيمة تطغي على الشاطئ فتبتلع القلعة بمدافعها وراياتها؛ فوقف الأطفال لحظة واجمين، ولكن كم كانت دهشة الفتاة عظيمة حينما رأت هذا الوجوم ينقشع بغتة، ثم هو ينقلب إلى ضحك ومرح ونشاط، إذ استقر رأيهم على بناء قلعة أخرى من فورهم، تكون أروع وأفخم من القلعة الأولي. . كم كانت الفتاة تغبط هؤلاء الصغار على تلك السرعة التي سلوا بها أشجانهم، أنها تعطي كل ما تملك لكي تتمكن نمن أن تستبدل بقلبها الكليم أحد هذه القلوب الغضة! ثم أخذت تتذكر طفولتها السعيدة أيام كانت آلامها النفسية لا تدوم أكثر من لحظة. .
الفتاة حزينة، حزينة جداً، لأن حبها في دور النزع، فها هو ذا حبيبها يتأخر عن مواعيده، وهو ذا بدأ يتعلل بالمعاذير؛ فهل يكون ذلك إلا المقدمات المألوفة للفراق. . .؟ الفتاة تذكر في حسرة وألم مقدار ما كان تعلق حبيبها بها في بداية حبهما. . وتذكر كيف كان لا يقوى على فراقها لحظة، حتى أن أحد أقاربه الأعزاء قد مات فلم يشترك في جنازته حتى لا يفرق ذلك بينهما وقتاً ما. .! وكم زعم لها أن وجودها بجانبه ضروري له ضرورة الماء للسمك. . والآن، الآن، هو يتلمس الأعذار ليبتعد عنها. .!
ما أغلظ قلب هذا الفتى! إن هذه الأمواج الصاخبة لأرق قلباً منه، وإنها لترحب بالفتاة على حين يفرمنها! كم تود الأمواج أن تضم إلى صدرها تلك الدمية الجميلة ذات الجدائل الذهبية! أتذهب الفتاة إلى لقاء صاحبها في المقصف لا! إنه سوف يستقبلها بتلك الابتسامة المصطنعة البغيضة! وإن لقاء الأمواج لأحب إليها من لقاء هذا الحبيب. . اصبري أيتها الأمواج؟ إن الفتاة الجميلة ذات الجدائل الذهبية تراود نفسها أن تهب لك هذا الجسم الغض، وما أراها ستمتنع عليك، وما أراها ستكون لغيرك. . . . . . وكان انتظار الفتى صاحبته في هذا اليوم وبعد هذا اليوم عبثاً. . .
حسين شوقي