الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 107/حافظ بك إبراهيم

مجلة الرسالة/العدد 107/حافظ بك إبراهيم

بتاريخ: 22 - 07 - 1935


اثر حياته في أخلاقه وشعره

بمناسبة ذكراه

بقلم السيد احمد العجان

تمهيد

لست أحاول التحدث عن نواحي الدراسات المختلفة في أدب حافظ، فان مباحث شعره المتعددة لا تأتى عليها لمحة سريعة ووقت قصير؛ ذلك لان العاطفة في رثائه موضوع دراسة، وتداعي المعاني في خمرياته موضوع دراسة، وظرفه وفكاهته ومدحه ووصفه كلها محل بحث وتناول وتحليل. ولقد تكلمنا عن حافظ (الشاعر الوفي لمصر) في ذكراه الثانية، وسنتكلم اليوم عن ناحية جديدة لها متين الصلة بالمجتمع، وكبير الأثر في حياتنا العامة، وهي اثر حياته في أخلاقه وشعره.

- 1 -

نشأ حافظ إبراهيم - رحمه الله - نشأة شعبية قد زخرت بألوان العيش تقلبت بين متع دنيا لم تشبعه، وبؤس زمان غلب عليه، وعاش مسكيناً وبائساً في مجموع حياته، لا نستطيع أن نحدد صفوه ونعيمه بشهر معلوم، ولا بسنة، ولا بفترة من الزمان طويلة؛ فانه قد يكون في اليوم الواحد شقياً وسعيداً، بائساً وغياً، إلا انه في المجموع متغلب البؤس، متداني الرزء، غير مجدود

وما النعيم لديه إلا فترات يخلقها ما فيه من ظرف ومرح، وتبعثها مداعباته وفكاهته، ويولدها تفاؤله بالمستقبل، ويقينه في الظفر، ثم ما يراه في العلم والفضيلة من تقريب للسعادة، وسمو بالروح.

وهذا القدر من الظرف والمرح هو الذي هيأ لحافظ عطفاً على فقره، وولد فيه حناناً من بؤسه، وحببه إلى الصحاب والعارفين، ودفعه إلى مواساة البائسين، ومشاركة المحزونين، فلئن صح ان في البؤس ذلة وانكساراً؛ فان في الحنان ميلاً إلى البر، واندفاعاً إلى الصدقة.

كان لهذه النشأة اكبر الأثر في صدق شعوره وإحساسه بالآلام، وتعبيره عنها أدق تعبير، ورسمه صوراً شفافة واضحة لألوان البؤس التي يكتوي بنارها الشعب، ويقاسي بسببها العذاب وجدير بنا أن نتساءل: أكان مدفوعاً إليه بنفسه، مطبوعاً في حنانه؟ أم هو البيان يثيره والشعر يحفزه؟ أجاب حافظ - رحمه الله - بما يقطع كل شك ويقضي على كل تأويل:

ذقت طعم الأسى وكابدت عيشاً ... دون شربي قذاه شرب الحمام

فتقلبت في الشقاء زماناً ... وتنقلت في الخطوب الجسام

ومشى الهم ثاقباً في فؤادي ... ومشى الحزن ناخراً في عظامي

فلهذا - وقفت استعطف النا ... س على البائسين في كل عام

ولقد عرف إحساسه خلق كثير: عرفه صديقه الجليل الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري، فقال في المرآة،: (على انه ما فتئ طوال أيامه يشكو البؤس. . . ولعل هذا من انه نضجت شاعريته في باب (شكوى الزمان)، وقال فيه ما لم يتعلق بغباره شاعر، فهو ما يبرح يطلب البؤس طلباً، ويتفقده تفقداً) ولا ينبئك مثل صديق

وعرفه كل من خالطه وعاشره، بل عرفه كل من قرا شعره، وتصفح ديوانه الذي هو صورة من نفسه

(قد دروا أن الشعر في كل ارض ... هو من نفس أهلها منزوع)

- 3 -

إذن كان حافظ يتطلب البؤس والبائسين تطلباً، ويتفقدهم تفقداً، وكانت لديه رغبة قوية صادقة في مشاركة البائسين آلامهم، ومشاطرته احزانهم، (والرغبة الحق هي تلك القوة الروحية التي توحي إلى الشخص القيام بالشيء بهمة لا تعرف الكلل، ولا تقف دونها عقبة: رغب (ابراهام لنكولن) في تحرير العبيد يوم ذهب مع بعض العمال إلى السوق، فوجد جارية تباع وتشترى، فتألم لبيع الإنسانية وشرائها الألم كله، وتمنى أن لو أعطى سلطة حتى يضرب على الاسترقاق بيد من حديد، فأعطى الفرصة بعد زهاء ثلاثين عاماً، بانتخابه رئيساً للجمهورية في ولايات أمريكا المتحدة، فكان من أوائل اعماله، العمل على تحرير العبيد وان شدة الرغبة في الإصلاح الاجتماعي هي التي جعلت (شارلز ديكنز) اكبر كاتب ومصلح اجتماعي بانجلترة في القرن التاسع عشر.

وان الرغبة في أعمال الآلات هي التي جعلت (اديسون) اكبر مخترع في القرن العشرين. والأمثلة كثيرة لا حصر لها) وهذه الرغبة كانت قوية لدى الحافظ، تهزه ويجيش بها صدره، صادقة غاية الصدق، أراد بها إنقاذ الشعب من ذله، وتحريره من إساره وعبوديته؛ فلست احسب رجلاً وهبه الله إشفاقاً على البائسين، وحناناً على صرعى الفقر، وضحايا الإملاق، ومنكوبي الزلازل والغرق والحريق كشاعرنا العظيم؛ فهو يرسم ببيانه الذي يطاوعه صوراً ناطقة تكاد تتجسم أمامك، وتمثل بين يديك، تسمعك أنينها وتوجعها، وتبثك آلامها وتفجعها، وتحرك فيك ما كمن من عطف واستتر من حنان. فما سنحت فرصة إلا غرد بالألم، ولا حانت مناسبة إلا دعا إلى الرحمة.

- 4 -

ولهذا نراه شديد الولوع بقصص المرزوئين وروايات المعدمين. شغف (بالبؤساء) فترجمها، وهام بها فنقلها إلى لغة قومه، لان فيها إرواء لعاطفته، وغذاء لنزعته، وتعبيراً صادقاً عن خلجات فؤاده، ولأنها منتجع خاطره، ومهوى قلبه. واختار لها من الألفاظ والأساليب ما يذيب قسوة الصلد رقة وليناً، ويخترق إذن الأصم فيضحى سميعاً. ولأنها تمثل لوناً من الإنسانية المعذبة، وطائفة من أسرى العوز، وضحية من ضحايا تتكرر على الدوام ولا تنقطع، تتكاءدها الهموم، وتمثل بها خطوب الزمن، وتنهشها أفاعي الضنك على مرأى من السراة وأولي الأمر؛ فلا يخلصها منقذ، ولا يدافع عنها نصير.

- 5 -

ثم لهذا نرى الغزل في شعره قد توارى واختبأ، ولا نستطيع أن ننسب حافظاً إليه، لأنه أحس بما يشغله عن تتبع المرأة، ويصرفه عن طلابها

وقد يكون ذلك لضيق اليد، وخلو الجيب، إذ من شان الاتصال أن يتطلب المال، والوقت، والثراء. ولكني ارجح الأول؛ لسمو غايته، ونبل مقصده، وموافقته لحياة شاعرنا ثم لهذا أيضاً بكى كل مصاب ومفجوع، وناح على كل ضائع وشريد، واستبكى المحسنين معه ليستدر عطفهم ويستميل قلوبهم

- 6 -

وإذ أحس أن كثيراً من أهل العسرة وضيق اليد يرمقون المال ويتشهونه، حتى إذا لم ينالوه يئسوا من الدنيا، وسخطوا على الحياة، اخذ رحمه الله يعالج أدواءهم، ويهدم مذهبهم فهو مع فقره لم يتبرم بالحياة إلى حد القنوط، ولم يسخط عليها حتى اليأس. فليس التجرد من المال فقراً، وتكدس الخزائن به غنى، ولكنه وسيلة ترفيه وأداة رغد، فان لم يفد متاعاً ولم يكسب مغنماً، فلا خير فيه ولا منفعة منه. وانه كثيراً ما اجتمع له المال الوفر من كتب ألفها وترجمها ومقالات كتبها وسطرها، ووظيفة قبضها، فما استقر عنده، ولا عمل على إبقائه. قال الأستاذ البشري في المرأة: (وهو أجود من الريح المرسلة، ولو انه ادخر قسطاً من الأموال، لكان اليوم من أهل الثراء، على انه ما فتئ طوال أيامه يشكو البؤس، حتى إذا طالت يده الألف جن جنونه، أو ينفقها في يوم أن استطاع)

- 7 -

ثم امسك بأيديهم، ونهض بهم إلى حيث المجد يبتغي، والشرف ينال، وعزة النفس تكتسب: بالعلم، بالآباء، بالكرامة والرزق ووفرة المال، بالسعى، بالهجرة، فارض الله رحبة واسعة:

وفيها لمن رام الحياة سعادة ... وفيها لمن رام النعيم مقام

والتفت إلى الحاكمين والسراة يستثير عطفهم، ويحرك الشفقة والحنان نحو مساكين تنتابهم غير الدهر، وتتوالى عليهم أحداث الزمان، وبائسين يؤلمهم الفقر، ويؤذيهم العرى

- 8 -

وعاطفة المواساة ترتقي بحافظ: فلا تقتصر على مواساة الفقراء والمنكوبين، وأسرى الحروب والمملقين، ولكنها تنوح بالألم، على كل حالة يعتبرها صاحبها شقاء ويظنها تعساً. على كل حالة تصرع الرجل فيه الشدائد، وتضعضعه النوائب، وتهده العظائم والشوائب. على كل حالة يتبدل فيها شان الإنسان من رضى وسكون ودعة، إلى تبرم وسخط وكراهة، من شعور بالراحة والسعادة والهناء، إلى تذمر وامتعاض وموجدة، فنراه يواسي ملوكا غاب عن جبينهم التاج، وسلاطين خلت أيديهم من الملك، تواسى ملوكاً غاب عن جبينهم التاج، وسلاطين خلت أيديهم من الملك، وأصبحوا يحتمون بالقانون بعد أن كانوا مصدر القانون! ويخضعون للنظام وقد كانوا يصدرون النظام! ويبتدئون بالتحايا العارفين وقد كانوا بها يبتدأون، ولهم مراسيم تقضى وواجبات تؤدى. . .!!

هذه الإمبراطورة (أوجيني) زوجة نابليون الثالث تقدم مصر بعد زوال ملكها، فيرفع لها حافظ تحيته، بل مشاطرته ومواساته:

إن يكن غاب عن جبينك تاج=كان بالغرب أشرف التيجان

فلقد زانك المشيب بتاج ... لإيدانيه في الجلال مداني

ذاك من صنعة الأنام وهذا ... من صنيع المهيمن الديان

فأعذرينا على القصور كلانا ... غيرته طوارئ الحدثان

وقال في فتنة الآستانة موجهاً إلى السلطان عبد الحميد صورة من التأسي والتصبر، مشفقاً عليه باكياً، بعد أن كان مغيظاً خانقاً، يعيب على الشامتين شماتهم، وينتقص رجولتهم، ويبين أنه لا زال خارج الحكم عبد الحميد كما كان مملكاً حاكماً:

كنت أبكي بالأمس منك فمالي ... بت أبكي عليك عبد الحميد

فرح المسلمون قبل النصارى في ... ك قبل الدروز قبل اليهود

شمتوا كلهم وليس من الهم ... ة أن يشمت الورى في طريد

ما عهدنا الملوك تبكي ولكن ... علها نزوة الفؤاد الجليد

شفح الدمع فيك عند البرايا ... ليس ذاك الشفيع بالمردود

دمعك اليوم مثل أمرك بالأم ... س مطاع في سيد ومسود

ولعل هذه الفواجع المتكررة، والأرزاء المتتابعة، التي يستوي فيها الفقير لا يجد قوتاً، والشريد لا يعثر على مأوى، والملك لا يأمن غدر الدهر وخيانة الزمن، والسلطان لا يستقر به الجاه، ولا تدوم له العزة - لعل هذه الفواجع - هي التي جعلت حافظاً ينحى باللائمة على حواء أمنا الأولى؛ لأنها ولدتنا ولم توص الزمان بنا خيراً، مع عرفانها بصروفه وأكدراه:

لم تلدنا حواء إلا لنشقى ... ليتها عاطل من الأولاد

سلمتنا إلى صروف زمان ... ثم لم توصها بحفظ وداد

ولكنه في غضبه هذا لم يذهب كما ذهب غيره: يدعو الموت ويتطلب مبارحة الحياة وفراق الدنيا، ولم يكن كمن قال: (فيا موت زر إن الحياة ذميمة)؛ ولا من قال: (ألا موت يباع فأشتريه)؛ بل فطن لما فرط منه، وأنتبه لما بدر، فنفض عن نفسه غبار الشجو، وكابوس الجزع، فهو يسوءه أن يضيق ذرعاً بدنياه، ويؤكد أن الاستسلام للألم مما يشينه، وقد يعوقه عن تأدية رسالته. فالمواساة ليست بكاء فقط، أو ألماً فحسب، ولكنها: تسرية هموم وتخفيف مصاب، ثم هي فوق ذلك جلب منفعة، وإكساب غنيمة، وليس في مقدوره أن يخدم الفقراء والبائسين إذا ضاق بالحياة وسخط على الدنيا، وأتروى بعيداً، لا يتصل بالحاكمين، ولا يتعرف ما عند المحسنين.

- 9 -

ولقد عرف أن تخليد الذكر إنما يكون بالإحسان، فهو أبقى على الزمن، وأدوم في التاريخ؛ فأخذ يغري الحاكمين بالعطف على أبناء الشعب والعمل على إسعاده، ولا سيما إن منصب الوزارة ليس دائماً، ولكنها الصالحات والمؤسسات الخيرية أبقى وأكثر دواماً:

إن المناصب في عزل وتولية ... غير المواهب في ذكر وتخليد

وأغرى السراة بالإنفاق على الفقراء، فلقد يكون منهم الزعيم السياسي يخلص الوطن وينقذ البلاد، أو الرئيس الديني يرعى الأخلاق ويحمي الشريعة، أو الشاعر النابغة يهز القلوب طرباً، ويثقف العقول بياناً وحكمة:

أيها المثرى إلا تكفل من ... بات محروماً يتيماً معسراً

أنت من يدربك لو أنبته ... ربما أطلعت بدراً نيراً

ربما أطلعت (سعداً) آخراً ... يحكم القول ويرقى المنبرا

ربما أطلعت منه شاعراً ... مثل (شوقي) نابها بين الورى

ربما أطلعت منه (عبده) ... من حمى الدين وزان الأزهرا

كم قضى البؤس على موهبة ... فتوارت تحت أطباق الثرى

كل من أحيا يتيما ضائعاً ... حسبه من ربه أن يؤجرا

ثم نراه يبين لأولئكم السراة أن لا قيمة للمال إذا لم يعصمنا من الفقر، ولم نؤسس به الملاجئ، ودور العلم، وبيوت الشفاء؛ فإن الدينار نفرح به ما دام في أيدينا، حتى إذا ما دخلنا به السوق كان والدرهم سواء. والمال الكثير إذا حل الغلاء؛ يكون قليلاً يمضي سريعاً.

نهش إلى الدينار حتى إذا مشى ... به ربه للسوق ألفاه درهما

فلا تحسبوا في وفرة العلم لم تفد ... متاعاً ولم تعصم من الفقر مغنما فإن كثير المال والخفض وارف ... قليل إذا حل الغلاء وخيما

- 10 -

ولقد بصر بلذع السؤال ومرارته، وألم الاستجداء وحرقته فأهاب بالمحسنين أن يصدروا عن عاطفة، وألا يحرجوا المحروم؛ فأن خير الصنائع ما تنبو بحاملها عن الإهانة، وإن الذي يجود بعد إلحاح وطلب كثير؛ لهو المعدود من البخلاء:

خير الصنائع في الأنام صنيعة ... تنبو بحاملها عن الإذلال

وإذا السؤال أتى ولم يهرق له ... ماء الوجوه فذاك خير نوال

من جاد من بعد السؤال فإنه ... وهو الجواد يعد في البخال

وهو لذلك يربأ بنفسه أن تمديده لذي منة، وأن تبسط لمن يستعذب سؤال المحتاج، أو من يعتز بغناه ليسخر من مسهب معوز؛ فيعف ويود لها البلى قبل سؤال الدنيء اللئيم.

أيا يد ما كلفتك البسط مرةً ... لذى منه أولى الجميل وأنعما

فلله ما أحلاك في أنمل البلى ... وأن كنت أحلى في الطروس وأكرما

- 11 -

لحافظ - رحمه الله - مذهب في الإحسان، فهو يرى أنه ليس منة وفضلاً يفخر به ذووه، وتعلو به رؤوسهم وتشرف أقدارهم، وإنما هو واجب على المثري أن يؤديه، وحق للفقير يجب أن يوفيه، ودين لا يفر من قضائه إلا مماطل، ولا يهرب منه إلا نذل دنيء. والإحسان في نظره يستطيع كل إنسان أن يؤديه:

بالقول!! يخفف به الألم عن الشاكي، ويثير به همم أولي العزم والمروءة والنجدة.

وبالدمع!! مشاركة للمحزون فيما أحزنه، وللمهموم فيما أفجعه وللمصاب فيما أصابه.

وبالمال!! الذي هو العون في قضاء الصوالح، والجالب للنفع، والدافع للضر، به نقضي الرغبات ويؤدي المطلوب قال في زلزال إيطاليا:

سلام على الأول أكل الذئ ... ب وناشت جوارح العقبان

وسلام على امرئ جاد بالدم ... ع، وثني بالأصفر الرنان

ذاك حق الإنسان عند بني الإن ... سان. لم أدعكم إلى إحسان

(البقية في العدد القادم) السيد محمد العجان