الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 107/القصص

مجلة الرسالة/العدد 107/القصص

بتاريخ: 22 - 07 - 1935


من أساطير الإغريق

بسيشيه وكيوبيد

للأستاذ دريني خشبة

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

فلما كان الغسق سمعت إلى الباب ينتفح، ويدخل فتى خفيف الخطى، ويقبل عليها فييحي أحسن تحية بأرق صوت، ثم يستأذن فيجلس إلى جانبها.

وكان الظلام شاملاً، فلم تستطع بسيشيه أن تتبين وجه الجالس إليها أو خلقه، ولكنها كانت تسمع إلى موسيقى تمتزج بصوته الحنون، وكانت تحس كأن عبرات تكاد تخنقه، لأنه يريد أن يبوح بشيء يمنعه الخجل من البوح به. . . واقترب منها. . .

وأخذا في حديث شهي، ولكن الحياء كان ما يزال يعقد لسانيهما. . .

وأقترب منها كذلك. . .

وتماست الأجسام المرتجفة، وليس كتماس الأجسام مفرجاً عن الحب!

وأخذ الحبيب يد حبيبته بين كفيه، فانتقلت الحرارة من هنا إلى هنا، ثم دنا الفم من الفم، واستراح الخد على الخدن، وبدأ طوفان القبل. . .

وتمتم كل من الحبيبين بهذه الكلمة السماوية الخالدة:

(. . . أنا. . . أحبك. . .)

- (كأنك أنت أيها الحبيب الصغير الذي أنقذتني من براثن الموت!!)

- (أجل يا منية النفس، ورجية القلب، بمعونة الإله الرفيق زفيروس).

- (أفأنت إله إذن؟)

- (لا أستطيع أن أذكر لك من ذلك الآن شيئاً. . .)

- (إذن ما اسمك؟)

- (ولا هذا أيضاً!)

- (أحب أن أراك، فهل تأذن بإيقاد المصباح؟) - (إذا حاولت أن تريني، كان فراق بيني وبينك!!).

- (أنت تزعجني أيها الحبيب الصغير. . .)

- (ولم أزعجك؟. . . ألست قد أنقذتك من الموت، وأسكنتك هذا القصر المنيف، ولست أمن عليك!!).

- (برغم هذا فأنك تزعجني. . .)

- (هاتي قبلة. . . ودعى هذا الحديث الشاجن. . .)

- (. . . .؟. . . .)

وظل يزورها كلما أقبل الليل، فيمكث معها حتى مطلع الفجر آخذين في عناق وقبل، وحديث ألذ من قطع الروض، وأروح من رفيف النسيم؛ ثم يفصل على أن يعود لميعاده من اليوم التالي. . . وبسيشيه راضية قانعة، لا يضيرها إلا تعرف من هذا الحبيب الوفي. . . ولا ما يكون اسمه. . .

وذهبت تنشق أنفاس البحر فوق الشاطئ الطويل المزهر فلقيت أختيها فجأة تخرجان من زورق جميل، فتعانقهما عناقاً حاراً، ويغمرها للقائهما فرح كبير، وتعود بهم إلى القصر، وتطوف معهما حدائقه وغرفاته، وتقف عند الصور والتماثيل ونافورات الزئبق؛ وتدخلهما (هيكل الحب) كما إتفقت وحبيبها أن يسميا المخدع؛ ثم تقص عليهما قصتها منذ اعتزامها الإنتحار إلى أن تلقاهما. . .

وتكون الغيرة قد أنشبت أظفارها في فؤادي الفتاتين، ويكون الحسد قد شاع في نفسيهما الخبيثتين، فتضمران لها الشر المستطير.

- (ولكن كيف تطمئنين إلى هذا الحبيب يا أختاه؟ إلا تخافين أن يكون غولاً أو هولة أو سعلاة؟ لماذا إذن يأبي عليك أن تنظري إليه؟ أليس يخشى أن تفزعي من إذا رأيته على حقيقته؟ أيغرك منه كلامه الناعم الموشي؟ لا يا أختاه! نحن نخشى أن يقلاك يوماً أو يجفوك فيقتلك. . .! لابد أن تأخذي حذرك منه! ولابد أن تنتهزي فرصة يكون غاطاً في نوم عميق فتوقدي المصباح وتنظري إليه، فإن كان وحشاً أو هولة، فإليك هذا الخنجر المرهف فأغمديه في قلبه واستريحي منه، وعودي معنا إلى أبينا الملك فإنه جد مشتاق إليك. . .)

ودفعتا إليها الخنجر المسمم بغلهما، وولتا عنها تختبئان في أجمةٍ دانية. . . .

وفعل كلامهما في قلب أختهما فعله، فلما كان الليل، وغفا الحبيب الصغير مما ألم به من سكرة الحب، نهضت بسيشيه إلى مصباحها فأوقدته، وإلى الخنجر فشرعته، وذهبت تنظر إلى العاشق البريء. . .

فماذا رأت؟

أجمل مخلوق على وجهك أيتها الأرض!. . .

لقد كان نائماً حالماً، فيه دعة وفيه فتون. . . وملأ الفتاة حباً. . . فارتجفت. . . واهتز المصباح فأيقظته. . . وفتح عينيه. . . فرأى إلى الخنجر المرهف في يمين بسيشيه. . .

يا للهول. . .!!

لقد قفز الحبيب قفزة هائلة، ورف بجناحيه الصغيرين، وقال: (بسيشيه. . .! ياشقية. . .! وداعاً. . .! فلن نلتقي بعد اليوم!!) وشاعت الحسرة في قلب الفتاة فسقطت على الأريكة من الجزع والإعياء. . .

ما كاد كيوبيد يرف بجناحيه فيغادر القصر حتى امتلأ المخدع أرواحاً شريرة طفقت تهاجم نفس بسيشيه في شدة وعنف، وكلما نظرت هنا أو هناك رأت أفعوانات هائلة تنفث الموت الأسود من أنيابها البارزة الحواني، ثم أحست كأن القصر يرتجف ويميد، ويكاد ينقض، فهرعت إلى الخارج مهرولة، وهرعت في أثرها المخاوف والأشجان، يحدوها الذعر والفزع الشديد.

ونظرت في السماء فلم تجد قمرها المنشود تبثه وتشكو إليه، بل وجدت سحباً قاتمة تنعقد في المشرقين والمغربين، والودق يخرج من بينها كما تخرج الزفرة من صدر المكروب! وبدأت العاصفة الهوجاء تزلزل الجزيرة وتميد بالدوح وترفع شياطين الموج فتجرف العامر واليباب!

وأخذت الرياح الهوج تلاحق الفتاة حيثما ذهبت، وترجم وجهها الكاسف المغضن بجمرات البرد أيان ولت.

ووهنت أعصابها فراحت تصيح فوق الشاطئ كالذي يتخطفه الشيطان من المس، فلما لم يلب نداءها أحد، انثنت نحو القصر، وأطوفت بالأسوار تتفقد الباب الكبير الضخم. . . ولكن. . . هيهات! لقد كان السور كتلة واحدة ليس بها منفذ، ولم يكن غارقاً هذه المرة في الطوفان الزاخر من أزهار الشيبر والياسمين والبابونيا، وكان عالياً على غير عهدها به، حتى كاد يستتر وراءه القصر الباذج؛ فلما استيأست من الدخول، وشعرت بقلبها يتحطم، وبنفسها تذهب شعاعاً، استلقت على الكلأ، واستسلمت لنوم ممتلي بالأشباح.

وأشرقت الشمس فاستيقظت بسيشيه، وتلفتت حولها فلم تر السور ولم تجد القصر، وفركت عينها تخال أنها تحلم، ولكنها ترى الجزيرة جرداء إلا من شجرات قليلة من الشاهبلوط؛ وإلا من غدير صغير به بقية غير مباركة من الماء النمير. . .

وبكون صوابها قد ثاب إليها، فتمم شطر الشاطئ تتفقد وروده ورياحينه، ولكنها لا تجد إلا آلافاً من السراطين الميتة لفظها البحر فعل العاصفة، وإلا أكواماً من الودع والمحار تجلل كثبان الرمال الممتدة فوق الجزيرة، كأنها قوافل من آلام بسيشيه وأشجانها!

(ويلاه!

(لقد حملت إليك أيتها الجنة الصغيرة وبردك برد الشباب، وريعانك ريعان الصبي، وفي أعطافك تنهل سلافة الحب، وتحت شطئانك ترقص عرائس الماء، وفي غدرانك تترقرق أمواه الهوى؛ وكل ما فيك تدب فيه حياة إلهية ناضرة.

(أفهكذا يذبل شبابك، ويذوي ريعانك، ويغيض حبك وتفقر شطئانك، فليس يرف فوقك إلا هامة، ولا يهتف فيك إلا صدى الوحشة، ولا تهب ريحك إلا كأنفاس الجحيم؟!

(ويلاه!!

(لقد كنت أفرك عيني أحسبني منك أيتها الجنة في حلم، الآن أفرك عيني أرى هل أنا من خرابك اليوم في حلم؟!

(لقد نعمت بالحب فوقك أيتها الجزيرة، فلماذا لقيت أختيَّ؟! أين ذهبتا؟ 1 أحسبهما ذعرتا من العاصفة، وفزعتا من الزلزال، ففرتا. . . فصبر جميل!!. . .).

هكذا ظلت تبكي بسيشيه، وهكذا غبرت بها الأيام فوق الجزيرة تنظر أوبة حبيبها. . . ولكن. . . بلا جدوى!!

وكانت تأكل ثمرات من الكستناء تذهب بها سغبها، وترشف من بقية الماء في الغدير رشفات تبل بها أوامها، ثم تعدو في الجزيرة باحثةً عن. . . لا شيء!!

ووقفت يوماً عند ضفاف الغدير ترتوي، فما شدهها إلا أن ترى الماء يزداد ويزداد، والغدير يتسع ويستع، حتى تكون على عدوة نهر عظيم دافق، تزخر أمواجه وتجرجر أواذيه. ويبدو لها أن تلقي بنفسها في أعماقه، لأنها لم تعد تحتمل هذا الألم المتصل والشجن الطويل الممض. . . وإنها لتنظر إلى الماء فيجيش قلبها بالذكريات، وتفيض عيناها بالدمع، ويشجب جبينها الكاسف الحزين، ثم يتأود غصنها اليابس الهش، فتنحدر إلى اليم، وتتلقفها اللجة.

ولكن رب النهر الذي كان واقفاً يسمع ويرى يسرع إلى الفتاة فينتشلها، ويصيح ببناته عرائس الماء فيأتين من كل فج عميق، ويترفق باللاجئة الشقية فيواسيها بكلمات تقطر حناناً وتفيض رحمة، ثم يتركها لبناته يداعبنها ويلاعنها.

وتأنس بسيشيه إلى العرائس الحلوة، ولا يخجلها أن تأخذ معهن في حديث حبها، فإذا سألنها عن صفة حبيبها، قالت: (كان صغيرا كالطفل إلا حين يكون في ذراعي، مسنداً رأسه على صدري، فيكون إذ ذاك أكبر من الدنيا بما فيها من مباهج ومفاتن. وكان طيب الأنفاس، فما قبلني أو قبلته إلا شممت عبق الورد في فمه، وأرج البنفسج في خده. وكان إذا عانقني أو عانقته، تحسست له جناحين على ظهره، صغيرين ناعمين، فإذا ساءلته عنهما، أنكر عليّ وصرفني برفق ودعة عن الحديث عنهما، فنأخذ في أمور أخر. وكان يحمل قوساً من ذهب ما تفارقه، وكنانتين من حرير فيهما سهام من رصاص وذهب. . . وما دهاني في الليلة المشؤومة إلا أن أراه يثب من النافذة، فيحلق في كبد السماء كأن له قصراً فيها. . . فبحق زيوس عليكن يا عرائس إلا ما أعلمتنني من هذا الحبيب، فأنتن بنات إله مبارك، ولابد أن يعرف أبو كف من أمره كل شيء).

وصمتت بسيشيه، ونظرت إلى العرائس فرأتهن يحدجنها نظرات دهشةٍ حائرة، ثم يتهامسن، ثم لا يحرن جواباً؛ فقالت لهن:

(أنتن تزعجنني يا عرائس، فهل هكذا يلقي الضيف لديكن؟)

فقالت كبراهن: (لا عليك يا فتاة، ولكنك كنت أتعس مخلوقة على وجه الأرض حين عصيتِ أمر كيوبيد!!)

- (كيوبيد؟ ومن كيوبيد تعنين؟!)

- (كيوبيد بن فينوس، فهو هو الذي كان يهواكِ وكنتِ تهوين!!؟) - (كيوبيد الإله! كيوبيد حبيبي! يا ويح لي. . . لابد أن يعود لي إلهي الجميل الحبيب. . . لن تحلو لي الحياة بدونك يا كيوبيد. . .)

هامت بسيشيه على وجهها في أقصى الأرض، وكلما مرت بروضة أو ميضة، وكلما وقفت عند ضفاف نهر أو ألمت بحفافي غدير، برزت لها عرائس الماء فشكت إليهن، وسألتهن إن كن يعرفين أين يأوي كيوبيد؟ وقالت لها عروس:

- (أترين يا فتاة إلى هذا الجبل البعيد الذي يحمل السماء بروقيه؟ إذا كنت عنده فتلبثي حتى يعود بان من صيده فتعلقي به، واذرفي من دموعك تحت قدميه، فإذا هش لك وبش، فاذكري له حاجتك يقضيها لك، أو يدلك على من عنده قضاؤها).

- (ومن عسى أن يكون بان يا أختاه؟).

- (رب المراعي، وإله الصيد، وحامي القنص. ألم تقربي له؟ ألم يفعل أبواك؟).

- (بل فعلنا. . . . .).

ونهدت إلى الجبل وكأنما بها عُقل من الجنون، وجعلت تطوف به حتى مالت الشمس إلى الغروب، فرأت (بان) قادماً يدب بحافريه، ويردد في الآكام ناظريه؛ فلما لمحها أقبل عليها دهشاً متعجباً، ثم أخذ يتفرس فيها كأنما بهره حسنها، وسباه منظرها. . .

وشكت إليه، فما هالها منه إلا قوله: (تعسة! أنت غريمة فينوس!!) فقالت، وفي عينها دموع تخنق منطقها: (غريمة فينوس؟ ومالي أنا ولفينوس؟) فقال بان: (جمالك هذا جنى عليك. . . لقد صرف الناس عن ربة الجمال والحب إلى عبادتك أنت أيتها الشقية، ولذلك حنقت عليك، وأصابك من الأذى ما أصابك. . . اسمعي يا فتاة. . . لقد مررت اليوم بربة الخيرات ديميتير؛ هل تعرفينها؟ أُم برسفونيه، فتاة الربيع التي خطفها أخي بلوتو لتؤنسه في هيدز! مررت بها فسمعتها تتحدث عن كيوبيد وهيامه بك! بك أنت! أليس اسمك بسيشيه؟).

- (. . . . . . . .؟. . . . . . . .)

- (تحملي إليها إذن. . . . . إنها ليست بعيدة من هنا. . . إنها شفيقة رفيقة، وهي ترثى لأمثالك من العاشقات الوامقات؛ تحدثي إليها عن كيوبيد واستمعي إلى ما تقوله لك وتشير به عليك. . . أترين إلى هذه الغابة الملتفة الوارفة؟ إنها هناك تنتظر ابنتها في أوبتها من هيدز).

وعجلت إلى الغابة، ولقيت ديميتر الطيبة الوقور، فانحنت تحييها، وما كادت تسرد شاكتها حتى انهمر الدمع من عينيها الحزينتين، وتخاذلت فخرت مغشياً عليها!. وتقدت ربة الخير فباركت الفتاة، وطفقت ترش على وجهها الماء من غدير قريب، فكان الزهر ينبت حول بسيشيه كلما أنتثرت قطرات على الأرض فلما أفاقت، بهرها هذا السرير الربيعي من منضود الورد يحف بها، ويحنو عليها. . . حنو المرضعات على الفطيم!

وبسمت ديميتير، وواست الفتاة الوالهة وآنستها، ثم ذكرت لها إنها رأت كيوبيد بكرة ذلك اليوم، وفي كتفه جرح دامٍ أحدثته فيه أمه فينوس، لماذا؟ لا يدري أحد! - (. . . فإذا كان لابد لك من لقاء كيوبيد، فأذهبي إلى فينوس وتبتلي إليها، وأدخلي في خدمها وحشمها، وأثبتي لها بتفانيك في طاعتها أنك من عبادها المخلصين؛ عسى يا بُنية أن ترضى عنك، ويذهب عنك هذا الحزن. . .)

ثم قادتها إلى قصر فينوس، وزودتها بما ينبغي لها من النصح، وعادت إلى غابتها الوارفة تنتظر برسفونيه.

وبرهنت بسيشيه على حسن إخلاصها وجميل توبتها، وكانت ربة الحسن تسخرها فيما لا طاقة لبشر به، فكانت تقوم بما تُكلف به وتؤديه خير الأداء.

وأعجب ما حدث لها من ذلك أن أمرتها فينوس بالتوجه إلى هيدز - دار الموتى - وإقتحامها، ثم لقاء برسفونيه، ربة الربيع، وزوج بلوتو، وسؤالها صندوق الطيب الذي تدهن عنه العجوز الشمطاء فيرتد إليها صباها، ويتدفق ماء الشباب في أعطافها، وتعود كما كانت، شرخ صبى، وعنفوان شباب!

وأسقط في يد بسيشيه! ولم ترد كيف السبيل إلى هيدز!! ولكنها حين ذكرت برسفونيه، بدالها أن تذهب إلى فتستشير أمها ديميتير عسى أن ترشدها أو تزودها خالص نصيحتها. فذهبت إلى الغابة، ولقيت لحسن حظها ديميتير تودع أبنتها، لتعدو أدرجها إلى هيدز، إذ كان الربيع الحلو قد صوح، وأزف الشتاء ببرده وزمهريره. . .

وهشت لها ديميتير، وعقدت بينها وبين أبنتها أواصر الصداقة، ولما حان موعد الافتراق، أبدت بسيشيه رغبتها في أن تصحب ربة الربيع لتؤنسها في ظلمات دار الفناء. فلم تعارض الفتاة، بل أذنت لها راضية.

وسارا بين صفين من أرواح الموتى تغني وتنشد. . . وتبكي!! وكم كان عجب بلوتو شديداً حين لمح الفتاة الرشيقة الهيفاء تسير إلى جانب زوجته، وبلغ به التأثر مبلغه، فغادر لهما غرفة العرش المظلمة. . .

وتلطفت بسيشيه فسألت مليكة هيدز صندوق الطيب الثمين؛؛؛ فوجمت برسفونيه؛ وكانت على وشك أن ترفض هذا الطلب، لولا أن ذكرت الفتاة أن فينوس هي التي أرسلتها لتطلبه وتجيئها به. فنهضت برسفونيه إلى دولاب قريب، وعادت بالصندوق، ترتجف به يدها العاجية الجميلة، وقدمته للفتاة وهي تقول:

(لاتفتحيه. . . لا تفتحيه أيتها الصغيرة!!).

واستأذنت بسيشيه، وعادت أدراجها إلى. . . هذه الدار الأولى.

وفي طريقها إلى قصر فينوس، ذكرت كلمات ربة الجمال عما يحتويه الصندوق من دهان يرد القليل منه جمال الشباب وريعان الصبى. . . وذكرت كذلك تلك الليالي الطوال التي ظلت فيها مسهدة العينين تبكي كيوبيد وتحن إليه، حتى شفها الوجد، وأوهنها السقم، وبرح بها الهيام الشديد؛ فتحدثت إلى نفسها تقول: (فلم لا أدهن بقليل منه وجهي وبشرتي؟ ولم لا أرتد جميلة كما كنت، ما دمت أطمع في لقاء كيوبيد؟ أن ربة هيدز حذرتني من فتح الصندوق، لا أدري لماذا؟ فإذا كان ما به شر، فلم تريده فينوس الجميلة؟ لا! لابد أن أتطيب به، وليكن بعدها ما يكون!!).

وداعبت أناملها الصندوق ففتحته. . . ولكن. . . وا أسفاه!! لم يكن به غير هذا الروح الشرير المنكر. . . روح النوم. . . ولقد وثب في وجه بسيشيه فخلق في عينها الزرقاوين الصافتين، ثم ما هي إلا لحظة حتى انكفأت المسكينة على الحشيش المندى تغط في نوم عميق. . .!!

وكان كيوبيد يتنزه في الحدائق المجاورة، فما دهاه إلا أن يرى ملاكه المحبوب ممدداً على الكلأ، وصدره يعلو ويهبط، كأن كابوساً مستقر عليه.

ودنا إله الحب من بسيشيه، وسرعان ما هاجت به ذكريات غرامه الأول، وثار في قلبه الحنين إلى الليالي المقمر الحلوة التي كان يقضيها إلى جانب الرشأ الغرير، الذي يترنح أمامه في قبضة الروح الشرير. . . روح النوم!

ونظر كيوبيد بعينيه السحريتين، فرأى الروح يصارع بسيشيه صراعاً هائلاً. . . . فثارت فيه نخوة الوفاء، وأنفذ إلى العدو سهاماً متتابعة متلاحقة، حتى قهره، واضطره إلى العودة من جديد إلى الصندوق الصغير، وما كاد يستقر فيه حتى أغلقه عليه، ودفنه في غورٍ من الأرض.

ثم تقدم إلى حبيبته، وطفق يروح على وجهها، ثم أيقضها بقبلة أهتز لها الروض، وطرب الورد، وشاعت في الطبيعة الضاحكة أسراً وسحراً!!!

(أختاه!! أنهضي! انظري إليَّ! هأنذا كيوبيد! هلمي فلن نفترق بعد اليوم!!).

وأغذا السير، حتى إذا كانا في دولة الأولمب صاح كيوبيد في معشر الآلهة: (أن أشهدوا أيها الأرباب، لقد اخترت بسيشيه الجملية زوجة لي مباركة. . . .) وطرب الآلهة، وأقيم المهرجان الفخم؛ ورقصت ديانا ربة القمر، وعزف أبوللو على موسيقاه، وتقدمت فينوس فباركت الزوجين الحبيبين، ورسمت بسيشيه ربة للروح الخالدة التي لا تفنى. . . ومنذ ذلك اليوم وهي ترف بأجنحة فراشة جميلة في جنة الأولمب، وإلى جنبها حبيبها كيوبيد.

دريني خشبة