مجلة الرسالة/العدد 106/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
→ زهرتي | مجلة الرسالة - العدد 106 فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 15 - 07 - 1935 |
14 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فرديرريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
على أن الروح (الديونيزوسي) يكاد يكون فاشياً في كل أصقاع العالم القديم. وهو عند البرابرة كان يزجيهم إلى الانهماك في المنكرات، وإشباع البهيمية الإنسانية باللذائذ. واليونان برغم حضارتهم وبعدهم عن البربرية سرت إليهم العدوى، ومشى فيهم هذا الروح. ولكن انهماكهم لم يكن انهماكا بهيمياً. أقاموا الأعياد والأندية حيث تنطلق الطبيعة ويذهل الإنسان متحداً بعاطفته مع الوجود. ومن هذا الانهماك تولدت المأساة اليونانية. والمأساة اليونانية يرجع أصل نشأتها إلى فريق (الساتير) وهؤلاء عند اليونان هم أرواح من الطبيعة تحيا، ولا يتسرب إليها الفناء؛ تعيش بعيدة عن الحضارة، وظهورها في شعب متحضر يقضي على حضارته ويقذف بالحواجز التي تفصل الإنسان عن الطبيعة. وهم يظهرون أن الطبيعة ثابتة قوية مخصبة برغم تقلب الأمم وتبدل الشعوب. واليونان اعتقدوا أن هذا الفريق مخلوق طبيعي مجرد من كل براعة، ولكنه ليس بهيمي. يتجلى فيه شيء من السمو الإلهي، وهو رمز الغريزة الأكثر قوة وسيطرة على الإنسان. هو سريع الهيام يذهله تقرب الإله منه. كثير الإشفاق والعطف لأنه يقاسم (ديونيزوس) آلامه. وهو يسالم حكمة الطبيعة. وهو رمز خصب الحياة التي يعبدها اليونان عبادة دينية. كان هذا الفريق يبدو في بدء نشأته وهو نشوان (بالسكر الإلهي) ويرقصه، وموسيقاه تغادر روح الناظر في شبه ذهول عميق، يمحو من نفسه ذكر الحضارة، ويجرده عن ذاته حتى يرفعه إلى مرتبته، ويشركه في ذهوله وسكرته. حتى إذا وجبت القلوب واستسلمت النفوس يلوح وراء هذا الفريق خيال الإله (ديونيزوس) وهذا السكر الإلهي قد ولد خيالاً شعرياً لم يكن في حقيقته إلا تعبيراً خاصاً عن حالة نفسية واضحة ولدها هذا السكر الصوفي. فالمأساة اليونانية هي بحقيقتها موسيقية شعرية. وهي هتاف ظفر الإرادة التي تشعر بخلودها إزاء تقلب الكائنات وتحولها. بطل كل مأساة هو الإله (ديونيزوس)، وهي عاطفية لأنها نشأت لتكون أنشود في مدح الإله. ثم تطورت المأساة لتكون أشد تأثيراً في المخيلة، فأصبحت صورة رمزية لسحابات يلوح بينها الخيال الإلهي الذي يظهر على السكارى الهائمين في الوادي، السكارى بالإله. ولكن (ديونيزوس) لم يعد يظهر بشكله الإلهي. وإنما يظهر بهيئات الأبطال الذين يتمثل فيهم تحت قناع البطل (كيروموني) أو (أوديب). و (ديونيزوس) هو البطل الحقيقي في كل مأساة، يبدو بأشكال مختلفة. وهو في ظهوره هذا يشبه الإنسان في حياته، يتيه ويضل، يناضل ويتألم. (ديونيزوس) هو هذا الإله المتألم الذي تكلمت عنه الأساطير. هذا الإله الذي يحس في نفسه بآلام الفردية. هذا الإله الذي قالوا عنه إنهم جزأوه وهو صغير وعبدوه باسم الإله (زاكروس) ومن ابتسامته تولدت الآلهة، ومن دموعه نشأ الرجال
إن روح هذا الإله قد فتحت للعلم مجالاً عند اليونان. فهم بعد أن أطلقوا الأرواح من التشاؤم بتأملهم للجمال أو بشعورهم بخلود الإرادة، ذهبوا إلى طريقة ثالثة، هي المعرفة العقلية للوجود وأجزائه. فجاء العلم حليفاً ثالثاً معهم يناضل التشاؤم. فبينما يقول الفنان للحياة (يليق بنا أن نحياك، أيتها الحياة! لأن صورتك جميلة) يقول العالم لها (أنا أريدك أيتها الحياة! لأنك جديرة بأن تعرفي. . .) وهكذا وجد العالم في اكتشافاته العلمية من اللذة والبهجة ما يجده الفنان في أوهامه وأخيلته. وتآزرت هذه الأوهام كلها لتجعل وجه الحياة المشوه جميلاً. ويجب ألا نجحد أن فضيلة العلم إنما هي تتمثل في البحث الدائم والتنقيب المتواصل. لا في الحقائق التي يكتشفها. أو النتائج التي يبلغها. وخطيئة العلم القطعي هي أنه لا يقف عند معرفته للوجود واقتناعه بما أدرك وتفهم من أحاجيه وإنما يثب إلى إصلاحه وإتمامه، فتسعده حالتها الأولى مادام يبحث وينقب، ويشقى في الحالة الثانية مادام يطمح ويطمح إلى ما لا قبل له به. يعتقد ببساطة نفسه أن الوجود سهل فهمه بجملته وبأجزائه، وأن رأس كل فضيلة هي المعرفة، وأن الجهل هو مصدر كل بلاء، وبالعلم وحده يستطيع أن يبلغ الإنسان ما يشاء من أمهات الفضائل
جاء سقراط وهو أعظم مفكر يوناني جاحد للوحي، يؤمن بأن العقل وحده يقوم مقام الغريزة والفطرة في الحياة. والرجل العاقل له من عقله سلاح يدرأ عنه أخطاء الغريزة وضلال الفطرة. سلك سقراط طريقاً خالف به قومه واستطاع في النهاية أن يقهر معاصريه بسمو منطقه، وباختياره لمصرعه الذي لقيه. ترك الحياة هادئ النفس، لا يعضه أسى ولا يقرعه ندم، كأنما كان يثبت بهذا المصرع إيمانه في الحياة إيماناً متفائلاً لا يتضعضع ولا يتزعزع
هذا هو عقل سقراط الذي هزم (المأساة عند اليونان) وحق لهذه المأساة أن تتلاشى أمام مجلس العقل، لما يطغى عليها من تعاليم لا يجمع بينها قياس ولا منطق. يستند كل ما فيها من تأثير على الموسيقى. المأساة لا توحي ولا توضح عن أية حقيقة نافعة؛ وقد تجيء فاحشة المغزى، أو ليس يبدو بعد هذا أنها تعمل على تحطيم أجمل النماذج التي تخلقها الإنسانية. فإذا كان هنالك أواصر متينة بين العلم والفضيلة والسعادة الحقيقية - كما يريد العلم المتفائل - فان المغزى الفاجع يغدو بدعة خطرة
إن سقراط لم يهدم فن المأساة وحده، بل هدم كل البراعة اليونانية. كان المثال الذي تجسد فيه العقل يوم كان اليونان يتبعون بأهوائهم شريعة الفطرة والغريزة. كانوا يريدون الحياة قوية جميلة، وهو يريدها منطقية، تفقه نفسها بنفسها؛ كان مظهر سقراط مظهر المزدري لروح عصره، وهو وحده أعلن بين معاصريه أنه لا يدري شيئاً، وأنه على حق في خصامه معهم. يعرج على نوادي الشعراء والمفكرين والخطباء والمعلمين، فيقول: إن هؤلاء الواثقين بأنفسهم يفكرون ويجادلون بدافع الفطرة وحدها، وهم لا يفقهون ما يصنعون. تراه حيثما توجه وأينما أنطلق لا يبصر إلا وهماً باطلاً، وخطأ فاشلاً، مما أضطره أن يعلن أنه مقدم على إنشاء حضارة جديدة يديرها العقل وحده. فهدم الحضارة الأولى ولم يبق على شيء منها، فعل ذلك وهو لا يشعر بأن العالم الذي هدمه هو أسمى من العالم الذي راح يبنيه بعقله
هذا ملخص ما رآه نيتشه في (المأساة اليونانية) وهو جد آسف على ذهاب ذلك الماضي النبيل. وقد لا يغنينا أن ننظر إلى مذهب (نيتشه) من حيث تعلقه بالتاريخ. فهو ليس في الحقيقة إلا مذهباً يستخلصه من بعض نظراته المختلفة إلى أدب اليونان. وللعلم الحق وحده أن يتقبل هذه النظرات أو يأباها
يقول نيتشه عن شوبنهاور: (أنا بعيد جداً عن الاعتقاد بأني فهمت شوبنهاور، ولكني مؤمن جد الإيمان بأن شوبنهاور قد أعانني على تفهم نفسي) وحال نيتشه في درسه العبقرية اليونانية قد تشاكل هذه الحال، فهذه الدراسة قد كشفت عن تفكيره وأبانت عن منحاه في الحياة. وهذه الإرادة التي يذرع بها (ديونيزوس) مجابهاً أخطار الموت والشقاء والألم تعبر عن عاطفة عميقة من أسمى عواطف (نيتشه)؛ ومهما كانت قيمة كتابه هذا فهو بعد هذا كله كتاب خالد يتلو علينا كيف شعر نتيشه بذاته حين درس براعة اليونان
(يتبع)
خليل هنداوي