مجلة الرسالة/العدد 106/حول المسجد
→ فلسفة الطائشة | مجلة الرسالة - العدد 106 حول المسجد [[مؤلف:|]] |
بين الأسطورة والتاريخ ← |
بتاريخ: 15 - 07 - 1935 |
للأستاذ أحمد أمين
ساقني حسن الحظ إلى الحديث مع سيدة إنجليزية فاضلة، وكان ذهني مستغرقاً في برنامج (الأخلاق والتربية الوطنية للمدارس الثانوية) والمتحدثون - عادة - يلونون حديثهم - ولو من غير شعور - بما يشغل أذهانهم ويستغرق أفكارهم - ومهما بعد المتحدث عن الموضوع يستولي عليه فسرعان ما يعود إليه، وينغمس فيه
لقد بدأنا الحديث في الجو وانتقلنا إلى غيره، وإذا بنا نتكلم في (التربية والتعليم وشؤونهما) وإذا بي أسأل السيدة:
- ما برنامج الأخلاق والتربية الوطنية للمدارس الثانوية في إنجلترا؟
- ليس لهما في المدارس برنامج معين ولا دروس خاصة، ولكن تلقى فيهما محاضرات في مناسبات، وأهم ما يقوم بهذه المهمة (الكنيسة) فهي تنظم دروساً للشبان والشواب في هذا الموضوع، ويقوم بها رجالها، فيكفوننا بذلك مؤونة الدروس في المدارس؛ وإلقاؤها في الكنائس يجعل لها معنى أجمل، واحتراما أوفر، وطعماً أحلى
أنتقل ذهني في سرعة البرق من الكنيسة عندهم إلى المسجد عندنا، وساءلت نفسي:
ما الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها المسجد للأمم الإسلامية؟
إني أفهم أن لمسجد الحي وظيفة هامّة بجانب وظيفته الدينية، هي الإشراف على تجلية الروح وتهذيب النفس بتنظيم المحاضرات في الموضوعات التي تمس العصر، والمشاكل التي تعرض في كل زمن، كما أن من وظيفته الإشراف على حالة الحي الاجتماعية، وما يصاب به بؤس وفقر وانغماس في المخدرات ونحو ذلك؛ ثم تنظيم الإحسان والقيام بالخدمة العامة بين الأغنياء والفقراء، وإسداء النصائح للأسر فيما يعرض لهم من متاعب وصعاب
إني أفهم من مسجد الحي أن يكون كمستشفي الحي، وغير أن المستشفي يداوي الأمراض الجسمية، والمسجد يداوي الأمراض الروحية والاجتماعية
إني أفهم أن يكون إمام المسجد رئيس المستشفي يعرف مرضى الحي، ويعرف علاجهم، ويكون صلة تآلف وتعارف بين أهل الحي، يأخذ من غنيهم لفقيرهم، ومن صحيحهم لمريضهم، ويقضي على المنازعات والخصومات ما استطاع، ويثقف الجهلاء، ويتخذ من المثقفين من أهل الحي أعواناً وأنصاراً، يخطبون ويعظون، ويعلمون ويثقفون - وإذ ذاك يشعر أهل الحي بأن المسجد ضرورة من ضروريات الحياة، يقوم لهم بما تقوم به المدرسة وبما تقوم به المحكمة، وبما تقوم به جمعيات الإحسان، وبما هو فوق هذا وذاك
بل لم لا يكون المسجد معهداً للمرأة كما يجب أن يكون معهداً للرجل، فيخصص مسجد كل حي وقتاً لنساء الحي تعلمّ فيه المرأة واجباتها الدينية والاجتماعية، وتفقه فيه في دينها ودنياها، وترشد فيه إلى طرق إسعاد البيت، وتثار همتها إلى العطف والإحسان وتنظيمهما
فالمرأة الآن محرومة من غذائها الروحي والديني، لأنها بعيدة عن المسجد، حرمت منه من غير حق، وهو سلوتها في الأزمات، وهو منهل عواطفها وغذاء روحها - لقد حرمت المرأة من المسجد، فحرم أبناؤها وبناتها من العاطفة الدينية، لأن الأم - غالباً - هي مصدر هذا الإيحاء، وإذا انحرفت مرة فلم تجد المسجد يهديها ويعزيها، جمحت وغوت؛ فهي الآن بين بيت وملهى ولا مسجد بينهما يذهب ملل البيت ويكسر من حدة الملاهي
هذا هو المسجد كما أتصوره، وكما ينبغي أن يكون - قوي الأثر في النواحي الروحية والاجتماعية والتعليمية، في الرجل والمرأة، قلوب الحي معلقة به، يغارون عليه، ويعملون على ترقيته من حيث نظامه ونظافته وإمامه وخطباؤه، ويرون أنه لهم وهم له، وأن منارته ينبعث منها الإصلاح في جميع نواحيه؛ متعلمو الحي جنوده في نشر الثقافة، وأغنياؤه جنوده في محاربة الفقر، ونساؤه دعاة أبنائهم وبناتهم إليه
هذا هو الوضع الصحيح للمسجد، فأين مسجدنا منا، وأين نحن من المسجد؟
لقد أعتزل الناس واعتزله الناسُ، ولم يشعر شعوراً قوياً بوجودهم، ولم يشعروا شعوراً قوياً بوجوده
نظرت دار الآثار إلى بنائه فعدته (آثاراً) ونظر الناس إلى نظامه فعدوه كذلك (آثاراً) فليس يؤمه - مع الأسف - إلا الطبقة الفقيرة البائسة، أو الموظف الذي أحيل إلى المعاش، أو من تقدمت به السن من عامة الناس. أما الشباب المثقفون ومن أنعم الله عليهم بشيء من رغد العيش فلا يفكرون في المسجد ولا تحدثهم أنفسهم بزيارته، وإن دخلوا لا يعرفوا كيف تؤدى شعائره إلا القليل النادر، كأن السينما والمساجد أقتسما الناس، فخص المسجد بالشيوخ والعجائز والفقراء، وخص السينما بالفتيان والفتيات والأغنياء، وهي حال لا تشعر بأمل، ولا تبشر بخير
ووزارة الأوقاف كذلك عدت المساجد (آثاراً)، فهي تسير في تعيين أئمتها وخطبائها وفي مراقبتها سير القرون الخالية كأن الزمن لا يسير
والأئمة والخطباء يعاملون معاملة (الآثار) فهم يقرأون غالباً الخطب التي ألفت في القرون الماضية، فلا نفساً ولا تحيي همه - كل ما فيها (أتقو الله) إجمالا من غير تفصيل. أما ما يحدث بيننا من أحداث، وأما ما نشعر به من مصائب وما ينتابنا من كوارث، فلا دخل لهم فيه، لأن دواوين القدماء لم تنص عليه
ورحبت السياسة بهذا النظر الأثري إلى المساجد فاطمأنت إليه لأنه يخدمها، وإلا فما بالنا نرى المسجد بعيداً عن الناس هذا البعد، هل لو أراد الخطباء غير الإمام أن يخطبوا في المسجد في إصلاح الحالة الاجتماعية أجيب طلبهم؟ وهل لو نظمت محاضرات ثقافية في المسجد للشباب مرة والشواب مرة في الأخلاق والتربية الوطنية تسمح وزارة الأوقاف بذلك؟ أكبر الظن أن لا
الحق أن للناس بعض العذر في الانصراف عن المساجد، فلو عرف الخطباء كيف يكلمون الناس وعرف رجال الدين كيف يصلون إلى قلوبهم، وشعر الناس أنهم يجدون في المسجد متعة روحية وغذاء دينياً واجتماعياً، لتغير الحال وازدحم المسجد بالناس من جميع الطبقات
وقد كان المسجد في الإسلام يقوم بهذه النواحي التي ذكرنا، فالخلفاء ونوابهم كانوا يخطبون في المشاكل الحاضرة - وكانوا يخطبون كلما حز بهم أمر أو عرض لهم مهمّ، وكان المسجد مدرسة للعلماء والمتعلمين والشعراء والمتأدبين، وكان المسجد مكتبة للواردين والمترددين، وكان المسجد مجمع الناس في الأعياد والمواسم، وكان المسجد مكتب الصغار ومدرسة الكبار، ولو سار في طريقة وتأقلم مع الزمن لكان يؤدي كل الخدم الاجتماعية التي أشرنا إليها من قبل ولكن (خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، وأتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب)
هل للأزهر ووزارة أن يتعاونا على إصلاح المسجد ويضعا البرامج له على أنه مرفق اجتماعي كما هو مركز ديني؟؟. . إن إصلاحه على هذا الوضع تقوية للدين، وإصلاح للناس؟ في القطار إلى (رأس البر)
أحمد أمين