مجلة الرسالة/العدد 106/المؤتمر الثامن للجمعية الطبية المصرية بدمشق
→ النهضة التركية الأخيرة | مجلة الرسالة - العدد 106 المؤتمر الثامن للجمعية الطبية المصرية بدمشق [[مؤلف:|]] |
الدرامة في الأدب الإنجليزي ← |
بتاريخ: 15 - 07 - 1935 |
للأستاذ عز الدين التنوخي
كاتب سر المجمع العلمي العربي
مطالب جليلة، ورغائب جميلة، وقلوب كبيرة نبيلة، إلى معارف شبيبة مثقفةٍ، ومدارك كهولةٍ ممحصة، وتجارب شيخوخة محنكة، مع كثيرٍ من الخيرات والبركات، قد حل دمشق أولئك جميعاً بحلول رجال المؤتمر الطبي الثامن فيها
أجل تغيرت بهم في دمشق أحوال المجتمع والحياة، فأصبح مؤتمرهم حديث الأندية وملهج الألسنة، فلم يبق في أحياء الفيحاء من لم يتحدث به من الرجال والنساء؛ وتبدلت كذلك فنادق دمشق بأبهائها وموائدها وبما قام فوق صروحها من خضر الأعلام المصرية الزاهرة بأنجمها الثلاثة وهلالها خفاقة إلى جانب تلك الأعلام الشامية الزاهية بألوانها الأربعة وجمالها
ويا حبذا يوم نشاهد هذه الأعلام العربية بلغة أبنائها وبلدانها، تقر عيوننا بكثرة أنواعها وألوانها فيتماوج غداً على المؤتمرات العربية في دمشق: العلم المصري والشامي والعراقيّ والحجازي واليماني والبرقي والتونسي والجزائري والمراكشي، وتتمازج فيها لهجات العرب المنتشرة في أقطار هذه الأعلام، فيتألف من مجموعها لحن عربي نديّ يرتفع له حجاب السمع، ويهتز له شغاف القلب
بل قل ما أسعد ذلك اليوم الأغر المحجل الذي نرى فيه للأقطار العربية المتحدة - والقاهرة (وشنطونُها) يومئذ - علماً عربياً واحداً، ونسمع لها فيه نشيدا عربياً واحداً، كما يرى اليوم أبناء العالم الجديد لولاياتهم المتحدة الأمريكية لواءً وطنياً واحداً، ويسمعون في جميع أنحائها نشيداً قومياً واحداً!!
عيدان أظلاّ دمشق واجتمعا للدمشقيين في يوم واحد، وعلى صعيد واحد: عيدُ المولد النبويّ، وعيد المؤتمر الطبيّ، فكأنما اندمجت بذلك ولادة هذه الأمة الدينية الغابرة، بولادتها السياسية والدنيوية الحاضرة! فليس اليوم في الفيحاء إلا قلوب تخفق لذكرى ذلك النبيّ العربي العظيم الذي أحيا من هذه الأمة مواتها، وجمع بعد صدع النوى شتاتها؛ وليس فيها اليوم إلا قلوبٌ طاهرة وعقول ناضجة، تفكر في إحياء هذه الفصحى المحبوبة وإزالة بلبلته بتوحيد لغتها العلمية، وإعادة عزتها بجمع كلمة أبنائها؛ وليس فيها كذلك إلا حفلات وولائم متتابعات في قصر أمية والقصر الملكي، وردهة محاضرات الجامعة، وحديقة الأمة الرائعة، ورياض الغوطة الفيحاء، وربى بلودان الشماء
كذلك تبدلت بالمؤتمر الثامن في دمشق لهجة صحافتها، فذهلت بنشر أخباره جريدة (الأيام) عن صراحتها، و (القبس) عن معارضتها و (الجزيرة) عن ميثاقها، و (ألف باء) عن اعتدالها، و (فتى العرب) عن كفاحه، و (الشعب) عن طماحه، و (المضحك المبكي) عن ظريف هزله ومزاحه
إن هذا المؤتمر - وهو دليل يقظة الأمة العربية وبرهانُ رشدها الاجتماعي - ليرمز إلى شعورها بقوتها الكامنة اليوم، وبقدرتها الفاعلة غداً؛ ولذا ورد علي من خبر انعقاده في دمشق ما خفف من بث قلبي الملتاع بتشتت هذه الأمة، والمرتاع لمصيرها المظلم، فشعرت لعمري به شعور الأمل الحالم أغتبط بتوهم الحقيقة، والهائم الحائم على مواقع القطر ابتهج برؤية أمنيته فلمع نور البشر في غرته
ولمَ لا أغتبط - ليت شعري - ولا أبتهج، أو لا تغلبني نشوة الطرب، وبعيني رأيت حسن ذلك الخيال مجسماً، وبأذني سمعت لحن ذلك الوصال مرنماً، في بعض مجامع المؤتمر من عتاب الأحباب على الهجرْ، والأقرباء على الجفاء، وجيرة المنازل والديار، على تناسي حقوق الجوار؛ والجوار - عمرك الله - رحم شابكة وصلة واشجة؟ وكان مما استرقته الأذن من قول أديب شاميّ لطبيب مصري وهو يعاتبه:
- (إن لم تنضموا إلينا فضمونا إليكم، فما كان لحواجز الاستعمار أن تقوى على فصم عرى الجوار؛ ألسنا نحن الشاميين نشارك إخواننا المصريين في أفراحهم وأتراحهم؛ أما كنا نفرح بالأمس لسعد، ولفوز سعد، وأنصار سعد؛ ألم ترمض جوانحنا (سيشل) بذكراها، وتقض مضاجعنا (دنشواي) ببلواها؛ أولسنا نشارككم اليوم في نعيم الواحي (الراديو) فنطرب أمثالكم لألحان أم كلثوم وعبد الوهاب، مثلما نساهمكم في العلوم والآداب بسماع الآيات والخطب والمحاضرات؟
أوليس علماؤكم في الأزهر والجامعة علماءنا، وأدباؤكم من الكتاب والشعراء أدباءنا، وتاريخ القطرين الشقيقين يكاد يكون واحداً، ومطالعاتنا اليوم في الكتب والمجلات والصحف المنتشرة، تكاد تكون واحدة أيضاً؟ أولا تعلم أن (الرسالة) يقرأها في دمشقنا هذه جمهرة العلماء والأدباء من الجنسين العنيف واللطيف على السواء؟)
وكان الطبيب المصري يجيبه على أسئلته هذه العذبة الرقيقة بقوله:
- بلى، بلى، ونحن لكم اليوم يا أخي كذلك، وفوق ذلك فهذا الحديث وأمثاله هو من بعض بركات المؤتمر المصري على العرب والعربية معاً. ومن أيمن تلك البركات المأثورة العزم على توحيد المصطلحات العلمية، ففي جلستها الخطيرة بحث الخطباء في تاريخها وطرق وضعها ووسائل توحيدها، وقد أشار كاتب سر المؤتمر الحكيم الدكتور عبد الواحد الوكيل في فاتحة الجلسة إلى أن الجمعية الطبية المصرية قد اهتمت في جميع مؤتمراتها السابقة بتوحيد المصطلحات الطبية، فكان كل واضع يتعصب لوضعه فخرجنا من مؤتمراتنا كلها بدون فائدة؛ ويجب الآن بعد تكوين المجمع اللغويّ الملكي مع وجود المجع العلمي الشامي أن تخرج هذه القضية من أيدينا إلى المجمعين
وقد شجعت جمعيتنا الدكتور محمد شرف على وضع معجمه وآزرته الحكومة فوزعه على الجمعيات اللغوية في الممالك العربية، واقترحنا أن يجعل أساساً لأعمال المصطلحات الفنية، وأن يضاف إليه في كل طبعة ما يتمحص منها، وما يوضع من الألفاظ الجديدة فيتألف منه على الأيام معجمنا العربي المنشود
ثم بحث الخطباء في طرق الوضع وهي جمة، فذكروا منها قبول الأسماء الأعجمية الواردة على أوزان عربية، وليس في لغتنا ما يدل عليها، وقبول النحت عند الضرورة في الأسماء الأعجمية المركبة، وترجمة الأسماء التي لا يصح تعريبها؛ وفي الأسماء العلمية المركبة من جنس ونوع قد يجب تعريب الجنس، والنوع ذو المعنى مما يجب ترجمته لا تعريبه؛ وأما الأسماء المنسوبة إلى الأعلام والأماكن فلا يجوز غير تعريبها، إلى غير ذلك من الأساليب التي لا يجنح إليها إلا بعد التثبت من أن دواوين اللغة وكتب الطب والعلم لا تشتمل عليها، فإذا ظفرنا بمثل كلمة التعايش لكلمة وقد ذكرها الزمخشري، لم نحتج إلى نحتها أو ترجمتها أو تعريبها
وفي خلال المباحث حدث جدال قليل بين بعض الأطباء في الدفاع عن الأوضاع، لا محل لتفصيله، فانبرى لفصل الجدال بينهم الدكتور محجوب ثابت فرأينا منه خطيباً حلو النادرة، طلق البادرة، يتدفق في إيراد بيناته وفكاهاته تدفق اليعبوب، فيملا الأسماع والقلوب، ومما قاله:
إن العمل المشوش (المهرجل) لا يثمر أبداً، والجمعيات الطبية العربية - وهي بحمد الله كثيرة في بلاد العرب - لا تثمر ولا تنتج إن لم تعمل كذلك بطريقة علمية منظمة، فلو أن شعبة المصطلحات الفنية في الجمعية الطبية المصرية أخذت مثل كتاب: وقسمت ألفاظه على عدد أعضاء الشعبة، وفي آخر كل شهر يعرضون ما وضعوه على الجمعية مجتمعين، وبعد تمحيصها وتحقيقها، ترسلها الجمعية إلى مجمع اللغة الملكي بمصر ليحكم لها أو عليها، فيعتبر حكمه عدلاً، وقوله فصلاً
لا جرم أن من الأنصاف والحصانة أن تجمع كلمة الأقطار العربية على مجمع مصر الملكي لأنه يمثلها بالأعضاء اللذين اختارهم من علمائها فإذا ما حكم بصحة لفظة فكأنما حكمت بها مجامع العرب كلها، إذ هي ممثلة فيه ومحكمة في ناديه؛ وأما مجامع اللغة في البلاد العربية فتعتبر روافد لمجمع مصر أو مؤتمرها اللغويّ، بما ترسله إليه من الأوضاع الجديدة، وأعضاء المجمع المرسل يبيّنون لإخوانهم في مصر توجيهاتها، وأسباب تعديلها وتفضيلها، وبذلك يكون الإنتاج خصيباً، والرأي على الأغلب مصيباً، وقديماً قيل: المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ومجمع اللغة المصري ضعيف بواحده، قويّ بروافده
إن هذا المؤتمر الطّبي الثامن لغزير النفع، كثير الرجع على الأمة العربية، فمن منافعه الجليلة تمهيدهُ السبيل إلى توحيد المصطلحات العلمية، وتمهيده السبيل إلى تعليم الطبّ في المدارس الطبية باللغة العربية وبهما يتمهّد السبيل إلى توحيد مناهج التربية والتعليم في بلاد العرب الذي هو لعمري من أقوى البواعث على توحيد الثقافة العربية المؤدي إلى توحيد الأمة العربية، وإلى سيادتها في العالم بتعارفها وتآلفها وتحالفها:
فنحن في الشرق والفُصحى بنور رحمٍ ... ونحن في الجُرح والآلامِ إخوانُ
عز الدين التنوخي
كاتب سر المجتمع العلمي