الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 104/من روائع الشرق والغرب

مجلة الرسالة/العدد 104/من روائع الشرق والغرب

مجلة الرسالة - العدد 104
من روائع الشرق والغرب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 01 - 07 - 1935


المنصور

للشاعر الألماني هاينرخ هاينه

نقلها عن الألمانية الدكتور زكي محمد حسن الأمين العلمي

لدار الآثار العربية

هاينرخ هاينه شاعر غنائي وكاتب ألماني ولد من أبوين يهوديين بدسلدورف سنة 1797 ودرس الحقوق ولكنه هجرها إلى الأدب وذاع صيته فيه سنة 1826 وسنة 1827 حين ظهر كتابه (صور رحلة) عن طوافه في ألمانيا، وما لبث أن نشر أحسن شعره في ديوان سماه كتاب الأغاني قابله القراء في ألمانيا بحماسة تفوق الوصف

واعتنق هاينه الدين المسيحي سنة 1825، ولكنه كان في الحقيقة متشككاً في كل شيء، إباحياً جد الإباحة، مستهتراً كل الاستهتار. وفي سنة 1830 هاجر هاينه إلى باريس فاستوطنها واشتهر في أنديتها حتى توفي سنة 1851 بعد أن أقعده الشلل في أواخر حياته

وظل الألمان يعدونه من أكابر كتابهم وشعرائهم حتى كان الانقلاب الأخير، فنعى الهتلريون عليه أصله اليهودي فانقلبوا على ذكراه وهدموا ما أقيم له في ألمانيا من أنصاب وتماثيل

وامتاز هاينه بأسلوبه التهكمي اللاذع ووصفه الدقيق المشرق، بيد أن أهم ما خلّد ذكراه حتى الآن وسوف يخلدها طويلاً إنما هي أغانيه في ديوانه الذي أشرنا إليه؛ وآنا ننقل منه إلى العربية القصيدة الآتية التي يعجب الألمان بها كثيراً على الرغم من تعريضه فيها بالمسيحية قال:

في الكنيسة الكبيرة بقرطبة

تقف أعمدةٌ ثلثمائة وألف،

ثلثمائة وألف من الأعمدة الشاهقة تحمل القبة العظيمة الضخمة

وعلى الأعمدة والقبة والجدران تجري وتنحدر في كل اتجاه

آيات القرآن العربية في حروف مشبكة مزهرة مزخرفة

قديماً بنى الملوك العرب هذا البيت تمجيداً لذكر الله، بيد أن أشياء كثيرة قد تغيرت في هذا الدهر ذي الأحداث المظلمة!

فعلى المنارة حيث كان المؤذن يدعو الناس إلى الصلاة،

ترسل الآن أجراس المسيحية رنين دقاتها الحزينة

وعلى المنبر حيث كان المؤمنون يرتلون كلام النبي،

يعرض الآن القسس الصغار الصلع أعاجيب قداسهم المضجر!

وهناك دوران والتفاف، حول نساء كالعرائس المنقوشة

بالألوان المختلفة، وهناك ثغاء وتبخر وأصوات نواقيس،

بينما الشموع الغبية ترسل أضواءها

في الكنيسة الكبيرة بقرطبة، يقف المنصور بن عبد الله

يتأمل الأعمدة في سكون، ويغمغم بالكلمات الآتية:

إيه أيتها الأعمدة القوية الجبارة

التي ازَّينتْ ذات يوم تعظيماً لله

هاأنت ذي الآن مضطرة إلى أن تقدمي للمسيحية المشنوءة

فروض الطاعة في ذلة وخنوع

أنت على ممر العصور ترضين وتقنعين،

وأنت تحملين العبء بصبر واستسلام،

فكان جديراً بمن هو أضعف منك أن يكون أسهل انقياداً

وأسرع خضوعاً

ثم يطأطئ المنصور بن عبد الله رأسه ذا الوجه الطلق فوق

حوض المعمودية المزخرف في الكنيسة الكبيرة بقرطبة!

وهرول المنصور من الكنيسة مسرعاً،

فامتطى جواداً عتيقاً جموحاً انطلق به،

حتى صارت خصلات شعره المبللة

وريش قبعته تهتز في الريح

في الطريق إلى القليعة على ضفة الوادي الكبير حيث تزهر شجيرات اللوز وشجيرات البرتقال ذات

الرائحة الزكية

هناك يسير الفارس المرح وهو يصفر ويغني ويضحك

والطيور تشاركه في شدوه

وخرير النهر يتابعه في طربه

وفي قصر القليعة تقطن (كلارا دي الفارس)

وولدها يحارب في نافار،

فهي تتمتع بحرية أوسع وأمَنة أوفر

ويسمع المنصور على بعد أصوات الدفوف والطبول،

ويرى أضواء القصر تتلألأ بين الأشجار والحقول

في قصر القليعة ترقص أثنتا عشرة سيدة بثيابهن المزركشة،

ويرقص اثنا عشر فارساً بحللهم المطرزة

ولكن أجملهم رقصاً وسمتا هو المنصور بن عبد الله!

كأن له جناحين من البهجة والسرور!

فهو يرفرف في القاعة هنا وهناك!

وهو يعرف كيف يقول لكل حسناء،

عبارات الملق والغزل والإطراء

فيدا (إيزابلاّ) الجميلتان يقبلهما بشغف، ثم يقفز مسرعاً

ويجلس إزاء (الفيرا) فيقبل عليها بوجهه الفرح

وهو يسأل (ليونورا) ضاحكاً:

هل كانت تحبه اليوم؟

وهو يريها الصليب الذهبي المطرّز في معطفه!

وهو يؤكد لكل سيدة أن صورتها مرسومة في قلبه

مقسماً ثلاثين مرة في تلك الليلة (ما أنا مسيحي!)

في قصر القليعة انتهى المرح وساد السكون واختفى الرجال والنساء، وانطفأت الأنوار

وبقيت دونا كلارا والمنصور وحيدين في القاعة الكبرى

بينما كان آخر مصباح يبعث بضوئه في عزلة وانفراد

فعلى المقعد الكبير تجلس السيدة،

وعلى الكرسي الخشبي يجلس الفارس

ورأسه الذي أضناه التعب

يستريح على ركبتي حبيبته

وتصب دونا كلارا باحتراس وهي تفكر

عطراً من قنينة ذهبية فوق خصلات شعره الأسمر

وهو يتنهد من أعماق قلبه

وتطبع وهي غارقة في لجة التفكير قبلة حلوة من فم رقيق

على خصلات شعره الأسمر

فتعلو السحب جبهته

عبرات من عيون مضيئة

تسكبها الحسناء وهي تفكر

على خصلات شعره الأسمر

فيقبض سريعاً على شفتيه

ويحلم المنصور كأنه يقف ثانية مطأطئ الرأس والجبين

في كنيسة قرطبة الكبيرة

يسمع كثيراً من الأصوات العميقة

وكل الأعمدة الشاهقة يسمعها تتمتم محتجة متضجرة

فهي لا تريد أن تحتمل أكثر من هذا

وهي تميل وترتعد

وهي تتهدم مزمجرة، ويكفهر الشعب والقسس

وتهوى القبة في صوت عظيم وتولول آلهة المسيحية

زكي محمد حسن