مجلة الرسالة/العدد 104/شاعرنا العالمي
→ إبليس يتوب. . .! | مجلة الرسالة - العدد 104 شاعرنا العالمي [[مؤلف:|]] |
محاورات أفلاطون ← |
بتاريخ: 01 - 07 - 1935 |
6 - شاعرنا العالمي
أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
وروى مخارق أن أبا العتاهية جاءه فقال: قد عزمت على أن أتزود منك يوماً تهبه، لي فمتى تنشط؟ فقلت متى شئت! فقال: يكون ذلك في غد؛ فجئته فأدخلني بيتاً له نظيفاً، ودعا بطعام وفاكهة فأكلنا، ودعا بألوان من الأنبذة فقال اختر ما يصلح لك منها، فاخترت وشربت، ثم صب قدحاً وقال: غنني في قولي:
أحمدٌ قال لي ولم يَدرِ ما بي ... أتحب الغداة عُتبَةَ حقاً
فغنيته، فشرب قدحاً وهو يبكي أحر بكاء، ثم قال: غنني في قولي:
ليس لمن ليست له حيلةٌ ... موجودةٌ خيرٌ من الصّبر
فغنيته وهو يبكي وينشج، ثم شرب قدحاً آخر، ثم قال: غنني فديتك في قولي:
خليلي ما لي لا تزال مضرتي ... تكون مع الأقدار حتماً من الحتم
فغنيته إياه؛ وما زال يقترح على كل صوت غنى به في شعره، فأغنيه ويشرب ويبكي، حتى صارت العتمة، فقال أحب أن تصبر حتى ترى ما أصنع، فجلست، فأمر ابنه وغلامه فكسرا كل ما بين يدينا من النبيذ وآلته والملاهي، ثم نزع ثيابه واغتسل، ثم لبس ثياباً بيضاء من صوف، ثم عانقني وبكى، ثم قال: السلام عليك يا حبيبي وفرحي من الناس كلهم، سلام الفراق الذي لا لقاء بعده؛ وجعل يبكي، فانصرفت وما لقيته زماناً
وروى أبو سلمة الغنوي أنه قال لأبي العتاهية: ما الذي صرفك عن قول الغزل إلى قول الزهد؟ فقال: إذن والله أخبرك، إني لما قلت:
الله بيني وبين مولاتي ... أهدتْ لي الصد والْملاَلاَتِ
منحتها مهجتي وخالصتي ... فكان هجرانها مكافأتي
هَيَّمني حبها وصَيّرني ... أحدوثة في جميع جاراتي
رأيت في المنام في تلك الليلة كأن آتياً أتاني فقال: ما أصبت أحداً تدخله بينك وبين عتبة يحكم لك عليها بالمعصية إلا الله تعالى، فانتبهت مذعوراً، وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغز فإذا كانت هذه الروايات كلها في حادثة واحدة فهي متضاربة متدافعة ينقض بعضها بعضاً؛ وإذا كان الرشيد هو الذي كان يأخذ على أبي نؤاس اندفاعه في اللهو ويحاسبه على ذلك في شعره، ويحبسه عليه مرة بعد مرة ويزج به في سجنه، فكيف يتفق هذا مع ذلك المسلك الذي كان يسلكه مع أبي العتاهية، وهو لم يكن أرق غزلاً من أبي نؤاس ولا غيره من جمهور الشعراء الذين كانوا يلتفون بالرشيد، وكان لهم من رقيق الغزل ما يغنيه عن غزل أبي العتاهية؟ وليس هذا وذاك كل ما يعنينا من هذه الروايات، بل يعنينا منها أيضاً أنها لا تصل بنا إلى غور نفس أبي العتاهية وصلتها بتلك النزعة الصوفية التي صارت أليها، وقد كان في ظاهر أمره أبعد الناس منها، فلا تبين لنا تلك الروايات إلا أنها حالة طرأت عليه في بغداد، ولا تتصل إلى سابق أمره بصلة، وتردها الرواية الأخيرة إلى تلك الرؤيا المنامية السابقة، وهي إذا صحت لا تكفي وحدها في الأخذ به إلى كل ما أخذ به من ذلك الغلو في أمره؛ فإذا أمكننا أن نصل إلى هذه النواحي الغامضة من أمر أبي العتاهية أمكننا أن نفهم من أمره ما لم يفهمه الناس منه إلى الآن. وسنجلو من أمر ذلك ما نحتاج إليه هنا، ونترك ما بقي من ذلك إلى موضعه من هذه الدراسة لأبي العتاهية، ليكون لنا منها دراسة منظمة لا يسبق شيء منها على موضعه ولا يتأخر عنه
وإنه ليهمنا في الأول أن ننفي ما يفيده ظاهر تلك الروايات من أن تلك النزعة الصوفية في أبي العتاهية كانت نزعة طارئة عليه في بغداد، والحقيقة أنها كانت نزعة قديمة عنده، وأن أمرها يرجع إلى مبدأ أمره بالكوفة، وأنه كان يخفي ذلك في نفسه ليظهر به في الفرصة التي يكون له فيها أثره في الناس جميعاً، لا في نفسه وحده. ودليلنا في هذا هذه الرواية التي تنطق بأن القول في الزهد كان أول ما أخذ به في شعره
روى محمد بن عبد الجبار الفزاري أن أبا العتاهية اجتاز في أول أمره وعلى ظهره قفص فيه فخار يدور به في الكوفة ويبيع منه، فمر بفتيان جلوس يتذاكرون الشعر ويتناشد ونه، فسلم ووضع القفص على ظهره، ثم قال: يا فتيان! أراكم تذاكرون الشعر، فأقول شيئاً منه فتجيزونه، فإن فعلتم فلكم عشرة دراهم، وإن لم تفعلوا فعليكم عشرة دراهم، فهزئوا به وسخروا منه، وقالوا نعم، قال: لا بد أن يشتري بأحد القمرين رطب يؤكل، فانه قمر حاصل، وجعل رهنه تحت يد أحدهم، ففعلوا، فقال أجيزوا: (ساكني الأجداث أنتم)
وجعل بينه وبينهم وقتاً في ذلك الموضع إذا بلغته الشمس، ولما لم يجيزوا البيت غرموا الخطر، وجعل يهزأ بهم وتممه:
ساكني الأجداث أنتم ... مثلنا بالأمس كنتم
لين شعري ما صنعتم ... أربحتم أم خسرتم
وهي قصيدة طويلة في شعره
فهذه نزعة أبي العتاهية في الزهد والتصوف ظاهرة فيه تمام الظهور من أول أمره، ولا شك أنه رأى بعد هذا أن يتصل بشعراء الكوفة ليظهر بينهم أمره في الشعر، وأنه في سبيل هذه الغاية أخفى هذه النزعة في نفسه، وأخذ يسلك في اللهو والشعر مسلك هؤلاء الشعراء، ثم تركهم إلى بغداد عاصمة المملكة العباسية لينال من ظهور الشأن بالاتصال ببني العباس ما لا يناله لو بقي بالكوفة، فنال من ذلك بغيته وأكثر من بغيته، وأخذت نفسه تنازعه ميلها إلى الزهد، والى الظهور بمظهره الحقيقي الذي يريد أن يعكر فيه صفو هؤلاء الملوك، ويطلع الرعية على إسرافهم في الحياة، وغفلتهم عن الآخرة، وانصرافهم عن مناهج الخلفاء الراشدين، وسبل الملوك الصالحين، ويخدم في ذلك بمهارة فائقة أغراضاً سياسية له، سنبينها بعد في موضعها أيضا
ولا غرابة بعد هذا في أن يهتم الرشيد بأمر أبي العتاهية في هذه الحال الجديدة، ويعرف سوء أثر شعره في الزهد وما إليه في نفوس الرعية بالنسبة إليهم، وقد كان يشاهد افتتان الناس بأبي العتاهية وشغفهم بشعره الذي قرب إليهم ألفاظه ومعانيه، وفتح لهم من أبوابه ما أغلقه الشعراء السابقون، فصار يلهج به العابد في خلوته، والراهب في صومعته، والملاح في سفينته، والفلاح في حقله، والراعي في غدوه ورواحه، والعامل في شغله وفراغه، حتى صار شاعر الشعب بحق، ولسان الرعية الناطق بالصدق. وأنا نسوق من ذلك ما يدل على مقدار تعلق الناس بشعر أبي العتاهية وافتتانهم به:
قال يحيى بن سعيد الأنصاري: مات شيخ لنا ببغداد، فلما دفناه أقبل الناس على أخيه يعزونه، فجاء أبو العتاهية إليه وبه جزع شديد فعزاه ثم أنشده:
لا تأمن الدهر والبَس ... لكل حين لباساً لَيَدْفِنَنَّا أناس ... كما دفنا أناساً
وانصرف الناس وما حفظوا غير قول أبي العتاهية
وقال محمد بن صالح العلوي أخبرني أبو العتاهية قال: كان الرشيد مما يعجبه غناء الفلاحين في الزلالات إذا ركبها، وكان يتأذى بفساد كلامهم ولحنهم، فقال قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعراً يغنون فيه، فقيل ليس أحد أقدر على هذا من أبي العتاهية، وهو في الحبس، قال فوجه إليّ الرشيد: قل شعراً حتى أسمعه منهم، ولم يأمر بإطلاقي، فغاظني ذلك فقلت: والله لأقولن شعراً يحزنه ولا يسره، فعملت شعراً ودفعته إلى من حفظه من الملاحين، فلما ركب الحراقة سمعه وهو:
خانك الطَّرْفُ الطَّموحُ ... أيها القلبُ الجُموحُ
لدواعي الخير والش ... ر دُنُوٌّ ونُرُوح
هل لمطلوب بذنب ... توبة منه نَصُوح
كيف إصلاحُ قلوب ... إنما هُنّ قُرُوح
أحسن الله بنا أ ... ن الخطايا لا تفوح
فإذا المستور منا ... بين ثوبيه فُضُوح
كم رأينا من عزيز ... طُوِيتْ عنه الكُشوح
صاح منه برحيل ... صائحُ الدهر الصّدُوح
موتُ بعض الناس في الأر ... ض على قوم فُتُوح
سيصير المرء يوماً ... جسداً ما فيه روح
بين عيني كل حيٍّ ... عَلَمُ الموت يلوح
كلنا في غفلة وال ... موتُ يغدو ويروح
لبني الدنيا من الدن ... يا غبوق وصَبُوح
رُحْنَ في الوشى وأصبح ... ن عليهن المُسُوح
كل نَطَّاحٍ من الده ... ر له يوم نَطوح
نُحْ على نفسك يا مس ... كين إن كنت تنوح
لَتَمُوتَنّ وإن عُمَّ ... رْتَ ما عُمَّرَ نُوح فلما سمع الرشيد ذلك جعل يبكي وينتحب، وكان الرشيد من أغزر الناس دموعاً وقت الموعظة، وأشدهم عسفاً في وقت الغضب والغلظة؛ فلما رأى الفضل بن الربيع كثرة بكائه أومأ إلى الملاحين أن يسكتوا
وقد اختار أبو العتاهية عهد الرشيد لإظهار ما كان يخفيه في نفسه من ذلك لأنه كان أقل غلظة من أبيه المهدي، وأخيه الهادي، وأخف منهما عسفاً وبطشاً. وقد ذكر ابن خلكان أنه أراد أن يظهر بذلك في عهد المهدي، فأمر المهدي بحبسه في سجن الجرائم، فلما دخله دهش ورأى منظراً هاله، فطلب موضعاً يأوي فيه، فإذا هو بكهل حسن البزة والوجه، عليه سيما الخير، فقصده وجلس من غير سلام عليه، لما هو فيه من الجزع والحيرة والفكر، فمكث كذلك ملياً وإذا بالرجل ينشد:
تعودتُ مسّ الضر حتى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
وصيرني يأسي من الناس واثقاً ... بحسن صنيع الله من حيث لا أدري
فاستحسن أبو العتاهية البيتين وثاب إليه عقله، فقال له: تفضل أعزك الله عليّ بإعادتهما، فقال: يا إسماعيل ويحك! ما أسوأ أدبك وأقل عقلك ومروءتك! دخلت فلم تسلم عليّ تسليم المسلم على المسلم، ولا سألتني الوارد على المقيم! فقال له: اعذرني متفضلاً! فدون ما أنا فيه يدهش! قال: وفيم أنت تركت الشعر الذي هو جاهك عندهم، وسببك إليهم؟ ولا بد أن تقوله فتطلق، وأنا يدعى الساعة بي فأطلب بعيسى بن زيد بن رسول الله ﷺ، فإن دللت عليه لقيت الله تعالى بدمه، وإلا قتلت، فأنا أولى بالحيرة منك؛ ثم دعى بهما فطولب الرجل بأن يدل على عيسى بن زيد فأبى، فأمر المهدي بضرب عنقه. ثم قال لأبي العتاهية: أتقول الشعر أو ألحقك به؟ قال بل أقول، فأمر به فأطلق
وقد كان الرشيد أشفق بكثير مع أبي العتاهية في ذلك من أبيه. والذي أراه أن الرشيد كان يحبسه في ذلك ثم يعفو عنه، وأن ذلك تكرر منهما بقدر ما حدثتنا به تلك الروايات السابقة
عبد المتعال الصعيدي