مجلة الرسالة/العدد 104/التربية عند الإنكليز
→ فريزر ودراسة الخرافة | مجلة الرسالة - العدد 104 التربية عند الإنكليز [[مؤلف:|]] |
النهضة التركية الأخيرة ← |
بتاريخ: 01 - 07 - 1935 |
التعاون في سبيل تربية الطفل بين المدرسة والمنزل
للأستاذ محمد عطية الأبرشي المفتش بوزارة المعارف
من مظاهر التربية الحديثة أن التعاون في المدرسة يجب أن يحل بالتدريج محل المنافسة، وأن المدرسة والمنزل يجب أن يعملا يداً بيد في سبيل تربية يصلح بها للحياة التي تنتظره، تربية اجتماعية كاملة، بحيث يتعود التعاون مع غيره من الصغر، حتى يستطيع أن يقوم بأعمال جليلة في الكبر. قد لا يستطع الآباء في المنزل أن يروا الغرض من الحياة، أو معنى الحياة، وقد يكونون محبين لأنفسهم، يأخذون ولا يعطون. وهنا تبدو الحاجة إلى المدرسة، فأنها تأخذ وتعطي، وتدرك معنى الحياة، وتستطيع القيام بمساعدة المنزل في تربية الطفل تربية عملية علمية صحية، تتفق والبيئة التي ينسب إليها. وأحسن الوسائل التي بها يستطيع المنزل والمدرسة معاً إعداد الطفل للحياة الكاملة هي: (1) العناية بالدور الأول من الحياة وهو دور الطفولة، فأنه هو الأساس الذي يبنى عليه مستقبل الطفل وحياته. وقد بلغت بالإنجليز العناية بالطفل لدرجة أنهم يفكرون فيه حتى قبل أن يولد بخمسين سنة على الأقل، فالطبقة الراقية منهم تفكر في أثر الوراثة، فلا يتزوج أحد من هذه الطبقة بمن به أو بها مرض من الأمراض العقلية أو العصبية أو الرئوية؛ خوفاً من التسبب في إيجاد طفل معتوه أو مجنون أو مستعد للسل مثلاً
(2) أن يعطى الطفل حرية كبيرة لتنمية مواهبه وقواه التي تعد هبة للحياة الاجتماعية، ولا نقصد بذلك أن ندع الطفل يفعل كل ما يشاء، بل نعطيه فرصة في أن يعمل ويجرب، ونراقبه عن بعد حتى يظهر خطؤه، وندعه يحاول إصلاحه بنفسه، ونساعده عند الحاجة، ونعمل على أن يعرف نفسه، ويعتاد ضبط شعوره وعواطفه، والصبر، والتجربة والمثابرة، والتفكير في الجماعة، وفي روح الجماعة، بحيث تضحي في سبيله بكل شيء آخر؛ فلا تفكر إلا في الطفل وفي تقويمه وتهذيبه ليكون المثل الأعلى في الحياة
(3) الاهتمام بالألعاب الرياضية؛ فأنها أحسن وسيلة لتقويم خلق الطفل وتقوية جسمه؛ بها نبث فيه حب العمل والتفكير لا في نفسه بل في الفرقة التي يشترك فيها، وبذلك نميت فيه ذلك المرض النفسي: مرض حب الذات والتفكير في النفس ليس غ (4) الحاجة إلى معرفة أن الطفل يحتاج أحياناً إلى الهدوء والصمت
(5) العمل على الإصلاح دائماً. والتفاهم بالمحادثة الودية خير طريقة للعلاج والإصلاح. وأن المراقبة في دور البلوغ، والمراهقة واجبة، لان هذا الدور أكثر أدوار الحياة خطراً
(6) العناية بالفنون والأعمال اليدوية كوسيلة للنمو العقلي والخلقي وكسب المهارة
(7) يجب أن يتم التعاون بين المدرسة والمنزل، للوصول بالطفل إلى الكمال. فإذا لم يكن هناك تعاون بينهما فمن المحال أن نصل إلى الغرض الأسمى من التربية
وفي الأمم المتدينة، وبخاصة إنجلترا والولايات المتحدة بأمريكا تجد الثقة متبادلة بين المدرسة والمنزل، والرابطة بينهما كبيرة، يتعاون كل منهما على تثقيف الطفل وأفادته، فليست المدرسة في وادٍ والمنزل في آخر نقطة وإني آسف لان أقول أن المدرسة وحدها في مصر هي التي تجاهد منفردة في سبيل تربية الطفل؛ فالمنزل في الغالب منفصل عنها كل الانفصال، وقد يهدم ما تبنيه أحياناً. ولا سبب لذلك إلا انتشار الجهل والأمية وحبذا الأمر لو قامت المدرسة بدعوة المتعلمين من الآباء في وقت معين كل ثلاثة أشهر مثلاً للتفاهم والبحث معهم في الأمور التي تتعلق بشؤون الأطفال، والنظر في أحوال التعليم، ومستقبل التلاميذ، والعمل على رفع مستواهم العلمي والخلقي والصحي والاجتماعي وفي (نيويورك) مثلاً تجد المدرسة تعمل على التقريب بينها وبين المنزل؛ فالآباء في الولايات المتحدة بأمريكا أعضاء عاملون في الحياة المدرسية يذهبون إلى المحاضرات العامة التي تلقى في المدرسة، ويشتركون في مناظراتها، ويساعدون في مقاصفها، ويعاونون في محافلها الاجتماعية وبأمريكا الآن جمعيات للآباء والمدرسين في كل مكان تلقى فيها محاضرات عن: أعمال المدرسة، والغرض من المدرسة، والطفل، ونفسيته، وتربيته، ومعاملته
والكل يفكر في الطفل ثقة بأن طفل اليوم هو رجل الغد، وآثر التربية اليوم يظهر في الغد، وما تزرعه اليوم تجني ثماره غداً. وأن غداً لناظره قريب. والوسيلة الوحيدة لإصلاح الجيل المقبل وترقيته هي العناية بالجيل الحاضر. فإذا عنينا بأطفال اليوم وتربيتهم تربية صالحة في المدرسة والمنزل، والملعب، انتظرنا ثمرة طيبة وشعباً راقياً في المستقبل
وفي مدارس الأطفال في (ونتكا) بأمريكا يشترط لقبول التلاميذ أن يقبل الآباء معاونة المدرسة والاشتراك مع موظفيها في العمل، وبغير ذلك لا تقبل الأطفال. وفي إنجلترا قد بذلت جهود كبيرة في السنوات العشر الماضية للتوحيد بين هذين العاملين: المدرسة والمنزل، وتوثيق عرى الرابطة بينهما. ولقد نجحت هذه المجهودات وأصبح الآباء يعنون بأمور التعليم، يسترشدون برأي المدرسة، ويستعيرون من مكتبتها إذا شاءوا، ويدعون للمجتمعات الموسيقية والتمثيلية والرياضية لكي يروا أبنائهم يغنون أو يمثلون أو يلعبون، ويشاهدوهم كرجال يقومون خير القيام بكثير من الأعمال من إدارة مطعم، وتنظيف فصول، وتنظيم حديقة، ومراقبة ألعاب رياضية، وإدارة مكتبات، وتوزيع الأدوات وجمعها بعد الانتهاء منها، وإصلاح كل ما يحتاج إلى الإصلاح في المدرسة. فالطفل عضو عامل في المدرسة يعوّد من صغره الاعتماد على نفسه، والاستعداد للحياة العملية العالمية باشتراكه مع رفقائه في الفصل والمعمل والمصنع والمحفل والملعب الرياضي
وفي المنزل يجد الطفل الإنجليزي مدرسة أخرى صغيرة؛ فالبيئة علمية، والجو علمي؛ أم تعلمه، وأب يرشده، وخادمه تقرأ له. فالكل يفكر فيه صباحاً ومساءً. في الصباح يأتي الطفل إلى أمه بالصحيفة اليومية فتقرأ له الجزء الخاص به من الصحيفة عن الفيل والنمر مثلاً، فيعرف ما تم من أمرهما. ثم تقطع له هذا الجزء فيضعه بين كتبه الخاصة، في حجرته الخاصة بكتبه ولعبه، وفي الساعة السابعة مساءً يتناول كوباً من اللبن أو فنجاناً من المرق بعد الاستحمام، ثم تأخذه إلى فراشه، وتقرأ له بعض الحكايات السارة، وتنشده شعر الطفولة، وتغني له بعض الأغاني بصوت هاديّ جميل حتى ينام، فتتركه إلى الصباح
وترحب المدرسة الإنجليزية بالآباء، وتريهم الأعمال التي يقوم بها أولادهم فيها، وتعمل على إيجاد روح التعاون بينها وبين المنزل
والمدرس الحازم يستطيع أن يساعد الآباء في معرفة أن الحياة لا تقصد طفلاً واحداً، أو أسرة واحدة، أو مدرسة واحدة ليس غير، بل تقصد المجتمع الذي ينسب إليه الفرد، والذي يجب أن يقوم الكل بواجبه نحوه؛ حتى نزول الأثرة التي تظهر في بعض الآباء الذين لا يفكرون إلا في أبنائهم وبناتهم. فالمدرسة تستطيع بمعاضدة المنزل أن تقوم بجلائل الأعمال نحو الأخلاق والإنسانية وتحسين المستوى الصحي والاجتماعي والعلمي والخلقي. ولسنا في حاجة إلى تكرار القول بأن التعاون بين المدرسة والمنزل هو الوسيلة الوحيدة لنجاح التعليم. وبالمنتديات يمكن الجمع بين الآباء والمدرسين لاستماع روايات أو مناظرات مثلاً يقوم بها الطلبة والمدرسون، وبهذه الطريقة تتم الرابطة، ويلم الشعث، ويعمل الجميع لإسعاد الطفل وتربيته تربية حسنة
ولقد أوحت روح (بستالونزي) إلى المدرسين بأن يكسبوا تقدير الآباء، فأن هذا التقدير هو العامل الأول لنجاح الإدارة المدرسية، وان كانت المدرسة في حادة فإنها في حاجة إلى مساعدة المنزل؛ فالمدرسة هي التي تتسلم البضاعة التالفة؛ يأتي الطفل إليها يتكلم لغة غير لغتها، ويتخلق بأخلاق سيئة، وحينئذ نجد عمل المدرسة مضاعفاً؛ فتبتدئّ تعلمه لغة جديدة أو لغتين، وبجانب بث الأخلاق الفاضلة فيه تعمل على تقويم المعوج منها
وإني أعتقد أن الطفل يتمنى أن يأخذ والده في إحدى يديه، وأستاذه في يده الأخرى؛ حتى يعمل الكل وحدة (ثلاثية) متينة الاتصال تعمل لشيّ واحد هو رقي المجتمع، والوصول إلى الحياة الكاملة.
محمد عطية ألابراشي