مجلة الرسالة/العدد 103/النهضة التركية الأخيرة
→ كيمياء الأفكار والعواطف | مجلة الرسالة - العدد 103 النهضة التركية الأخيرة [[مؤلف:|]] |
، شمس الدين السخاوي ← |
بتاريخ: 24 - 06 - 1935 |
2 - النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزّام
ويقول آخرون أن الترك احتفظوا بالخلافة ما استطاعت قوتهم، ووسعت ثروتهم. فلما نكبتهم الأحداث بما نكبتهم، وضاقت رقعة دولتهم، عجزوا عن الاضطلاع بهذا العبء الثقيل، والتمسك بهذه الأمانة العظيمة فتركوها كارهين.
وجوابنا أن بعض زعماء الترك أشاروا بأن يدعى المسلمون إلى مؤتمر عام ويقال لهم هاكم خلافتكم قد عجزنا عن حملها، فتشاوروا بينكم، وتبينوا أمركم، وسنّوا للخلافة سنة تلائم زمانكم، وتؤاتي أحوالكم. واتفق رجال الحكومة التركية على هذا وأعلموا به عصمت باشا وهو في لوزان. فلماذا نقض أولو الحول منهم ما أبرموه، وسارعوا فنفضوا أيديهم من المسلمين وخلافتهم وآذنوهم أن لا أخوة بيننا وبينكم؟
المسلمون والتقليد
إذا نقدت أمة أمورها، ونظرت في أحوالها، فنفذت إلى بواطنها جهد النظر الثاقب، والروية والفكر، ثم هداها نظرها إلى أن تستبدل سنة بسنة، وحالاً بحال، فتلك أمة رشيدة حميدة وإن أخطأتا الصواب - وقل أن يخطئها - لأنها بذلت جهد الإنسان في تبين الحق، واجتهدت وسعها في إيثار الرشد، ولم تأل في التريث والتمحيص والنقد المتثبت والنظر الصحيح
وإذا أخذت أمة بأسباب التقليد، وأغرمت بالمحاكاة، كلما لاح لها لألاء من أمة عشت إليه، وكلما سمعت نغمة قوم هامت بها، فتلك أمة ضالة وإن نقلت عن غيرها هدى، مخطئة وإن أخذت عن غيرها صواباً. ذلكم بأنها حقرت عقولها، وأغمضت عيونها، وأسلمت إلى يد غيرها أزمّتها؛ لم تنظر لنفسها فتأخذ وتدع ولم تختر بعقلها فتستحسن وتستقبح، بل خبطت خبط عشواء، وانطلقت كالحاطب في الظلماء. هي في ذلك قد أهدرت إنسانيتها بما ألغت إرادتها واختيارها. وإن استمسكت في ظاهرها بما أخذت من نظام، واعتصمت قي رأي العين بما نسخت عن غيرها من سنن، فذلكم ظاهر ليس وراءه باطن، ورواء ليس وراءه حقيقة. تلكم أمة ممسوخة. وقد سمعنا إن أمماً مسخت فأنكرنا، وقيل إنها مسخت قروداً فعجبنا، ثم رأينا عمل بعض الناس في هذا العصر فصدّق قد ابتلى كثير من المسلمين في هذا العصر بداء التقليد، وفشا فيهم خلق العبيد، وحرموا النظرة النقّادة، والعزيمة النفّإذة، والهمّة الخلاقة. رأوا سلاحهم أضعف من سلاح أوربا، وعلمهم أقل، ونظامهم أوهن، فجعلوا ذلك تعلّة إلى نبذ ما عندهم من خلق ودين وحضارة لتتحلل النفس من تكاليف الإنسانية، وتنطلق في بحبوحة هذه المدنية. وزيّن لهم الهوى أن يقيسوا الدين والأخلاق على العلوم والصناعات، فمضوا يرون كل شيء عندهم باطلاً، وكل شيء في أوربا حقاً، فاستحسنوا أن ينبذوا كل ما عندهم ويأخذوا كل ما عند الأوربيين، وخافوا أن يؤخذ عليهم الاستمساك بدينهم وأخلاقهم، فتنافسوا في هجرها وتحقيرها، فما يحافظون على رأي أو خلق إلا أن تأتيهم شهادة عليه من عالم أو كاتب أوربي، بل هم مدينون لأهل أوربا بما عندهم من ظن حسن في حضارة الإسلام وتاريخه، ومن زيّن منهم داره بفرش عربية فإنما يسميها (أربسكا) ويحاكي فيها أهل أوربا وهلم جرا، حتى الأزهريون وهم أبعد الناس عن أوربا آثروا أن يسموا الجامع الأزهر جامعة ليترجموا كلمة وسمّوا كل قسم من أقسامه كلية ليوافقوا كلمة
وكم قلت وقال غيري أن المدنية الخلقية والدينية ليست كالمدنية الصناعية، فالصناعات قائمة على علوم طبيعية لا تختلف فيها الأمم، ولا يمتاز فيها الشرق من الغرب؛ ليست مشتقة من نفس الإنسان، ولا صلة لها بقلبه، فتستطيع أمة أن تأخذ عن غيرها علوم الطبيعة والكيمياء والحساب والفلك ونتائج هذه العلوم في الصناعات دون أن تغير دينها أو تبدل أخلاقها؛ ويستطيع زنجي من السنغال أن يذهب إلى فرنسا فيتعلم الطيران أو يدخل في زمرة الجند فيصير عما قليل في البصر بآلات الطائرات، والدربة على نظام الجيش كالفرنسي، ولكنه لا يستطيع أن يغير أخلاقه وعاداته ويكون فرنسياً في خمسين سنة؛ والحضارة النفسية هي الإنسانية حقاً، والمدنية في صميمها وهي مشتقة من نفوس الأمة تفسد بفسادها وتصلح بصلاحها ذلكم ما ينبغي أن نفكر فيه، ونتوفر على درسه، فإن الأمم لا تصلح على الفوضى، ولا تسيّر بالأهواء والشهوات؛ ذلكم ما يجب أن يعنى به أولو الرأي من المسلمين ليأخذوا بحجز أممهم أن تتهافت في هذا التقليد، وتتردّى في هذه المهالك؛ ذلكم ما يجب أن ينهض به الشعراء والكتّاب، ليضروا في النفوس الذليلة عزة تمنعها المحاكاة العمياء، وكرامة تعصمها أن تسير كالعجماء. من لي في المسلمين بعشرين رجلاً من كبار النفوس عظماء الهمم، البصيرين بالمدنية الحاضرة، ظاهرها وباطنها، العالمين بحضارة الإسلام جليّها وخفيها، العارفين بأدواء الأمم وأدويتها، لينيروا الطريق في هذه الضلالات المظلمة، والفتن المدلهمة؟ من لي فيهم بعشرين رجلاً كهذا العالم الكبير والشاعر المبدع الذي تنفخ أنفاسه الروح في الأجسام الهامدة، والأمل في القلوب اليائسة، الرجل المبارك محمد إقبال الذي انبعث صوته في الشرق بالحياة والهدى والعزة والكرامة، والطموح إلى العلياء، والسمو بالنفس إلى أعلى درجاتها، تلك النفس الكريمة التي تسيل في شعرها حسرات، وتتطاير في كلماتها زفرات، فما تزال تقدح قلبها لتبعث شرارة بعد أخرى تنير الطريق الحالكة، وتشعل النفوس الخامدة، ذلك الرجل الحر الذي وقف من حضارة أوربا وفلسفتها موقف الناقد البصير، يكشف عن زيوفها ويبين عن بهرجها
كم رأينا فينا علماء وأدباء وشعراء ومتفلسفين، ولكن أكثرهم لا يفكرون ولا ينطقون إلا بما سمعوا وما قرءوا، وهم لا يسمعون ولا يقرأون إلا عن أوربا. ليس فيهم رجل حر يفجر في قلبه من الحياة ينبوعاً، أو يضرم فيه من الغيرة ناراً، ليلقي على كل قلب نضحة من هذا الماء، وفي كل نفس جذوة من هذه النار، إيه يا ضلال التقليد! وعبّاد الأصنام في القرن العشرين!
إن عند المسلمين كنوزاً سفت عليها أعاصير الزمان فترت هممهم، وانطفأت نار الغيرة في نفوسهم، فآثروا الدعة حتى يأتي أهل أوربا يدلونهم عليها ويستخرجونها لهم! وإن عندهم لنفائس تنادي هممهم وعزائمهم، ولكنهم يؤثرون أن يتلقوا عن أوربا أشياء مهيأة في علب مذهّبة! ومن ركن إلى الدعة ذلّ، ومن آثر اليسير من الأمور وأشفق من لقاء المصاعب فهو حيّ أشبه بميت؛ وإليكم مثلاً من مئات:
لنا شريعة جاء بها القرآن والسنة وعملت فيها قرائح المسلمين بحثاً واستنباطاً ثلاثة عشر قرناً. فما بقيت واقعة إنسانية إلا اشتق لها حكم يلائم الزمان والمكان، فصارت هذه الشريعة جماع تجارب الأمم في عصور مختلفة وبلاد كثيرة. فلما أراد المصريّون أن ينظموا القضاء عجزوا عن النظر في هذه الكنوز المدخرة، وأشفقوا من الاضطلاع بهذا العبء الثقيل، فأجلسوا نفراً يترجمون لهم قانون نابليون، فتهيأ لنا قانون مختصر مرتب مفصل، وأصبحنا نجاري فرنسا في نظامها، فقد طوينا مسألة القرون في أشهر قليلة. وماذا علينا بعد ذلك أن يكون هذا القانون في دين الأمة نكراً، وفي أخلاقها شذوذاً، وفي أفكارها أعجوبة، وفي جسمها شللاً، وفي نفسها موتاً؟ لا ضير فقد أخذنا قانون نابليون وناهيك بذلك فخراً وتمدناً. . .
لو أن في المسلمين أناسّ يستوحون عقولهم ويستفتون قلوبهم لخلقوا لأنفسهم نظاماً، وشرعوا لأنفسهم من دينهم قانوناً، لو أنهم أصحاب همم لسلطوا هممهم على الزمان فأسرته، ثم صرفته طوع المشيئة، ورهن الإرادة، ولما لبثوا يتعللون بالعصر ومقتضياته والزمان وفرائضه، فإن الرجل الحر سيد الزمان والمكان يسخرهما ولا يذل لهما. أين العزائم التي تلقي الزمان بملء خطوبه هيبة، وترد أحداثه بأشد منها صولة؟ آمين ثم آمين. . .
ومما أخذ فيه المسلمون بتقليد أوربا غلوهم في النعرات القومية، والتكاثر بالمفاخر التاريخية، واعتزاز كل فريق بمآثره الجاهلية، كأنهم لم يكونوا على الأحداث أعواناً، ولم يلبثوا أربعة عشر قرناً إخواناً!! قيل للمصريين: أنتم أبناء الفراعين فارجعوا إلى حضارة المصريين القدماء، واعبدوا العجل لتكونوا بذلك شهداء. وقيل لأهل الشام: وأنتم يا بني الفينيقيين تمسكوا بتاريخ الأقدمين، وائتوا بآبائكم إن كنتم صادقين! وقيل للفرس: يا بني الأكاسرة لقد فتح العرب بلادكم، وأزالوا ملككم، وفرضوا دينهم عليكم فانقضوا أيديكم من أخونهم، وردّوا إليهم دينهم، وارجعوا إلى زردشت وإن لم تعرفوه، واقرءوا كتابه وإن لم تفهموه، فالباطل الإيراني خير من الحق العربي! وقيل للترك! وأنتم يا سلالة جنكيز المقدس، وعبدة الذئب الأطلس، قد كانت لكم في سيبريه حضارة، ثم كانت لكم في قره قروم دولة، فارتدوا إلى حضارتكم الأولى، وانزعوا إلى وثنياتكم القدامى، ودعوا مجدكم في الإسلام، واكفروا بمآثره عليكم، ومآثر آبائكم في تاريخه
دعيت كل أمة إلى جاهليتها، فذهب المسلمون ينبشون القبور ليعتزوا بحجر قديم وعظم رميم، ويفخروا بعلامة من حضارة، أو آثارة من مدنية، وغفلوا عن مجدهم في الإسلام يرجف به المشرق والمغرب، وتضيء به الشمس والقمر. وليس أمة إسلامية ذات مجد في الجاهلية إلا مجدها في الإسلام أبهى وأبهر، وأعلى وأعظم، ولكنها عصبيات الجاهلية، والفتن الأوربية، تركس الإنسان في بهيميّته، وتردّه إلى وحشيته بينما يجهد عقلاء المسلمون لإيقاظهم من رقدتهم، ويحرقون أنفسهم لإشعال الحياة فيهم، إذا (النهضة التركية الأخيرة) فقلنا حياة في المسلمين جديدة، ويقظة لا تلبث أن تصير شاملة. قلنا أولئك إخواننا زعماء المسلمين ينفخون في الصور، ليبعثوهم من القبور؛ لعل هذه النفوس الكبيرة تخلق أمة جديدة، أو تخترع لنا سنّة رشيدة، تصل عزة الماضي بمجد المستقبل وتذهب بذل الحاضر؛ إن يخلقوا فالرجل الحر خلاق، وإن يسبقوا فالكريم إلى المعالي سباق - لا ريب إننا سنرى فيهم عمر بن الخطاب، وهارون الرشيد، وعبد الرحمن الناصر، وصلاح الدين الأيوبي، وسليمان القانوني، ولكن في القرن العشرين يفتحون صدورهم لعلومه، ويتوسلون بوسائله إلى الغايات الشريفة والمثل العليا التي سعى إليها المسلمون من قبل. ثم نظرنا فإذا نفخة الصور، لا تدعوا إلى النشور، وإذا الهمم العالية تسف، والعزائم الماضية تهن، وإذا حياة تجفل من نفسها وتعتز بغيرها، وإذا نهضة من المحاكاة عليلة، وخطة من التقليد ذليلة، قصاراها: (اقطع كل من يربطك بالإسلام وأممه، وأحكم كل ما يصلك بأوربا وسننها) فانظر ماذا صنعوا إنفاذاً لهذه الخطة:
(له بقية)
عبد الوهاب عزام