مجلة الرسالة/العدد 103/أبو العباس أحمد المقّري
→ محاورات أفلاطون | مجلة الرسالة - العدد 103 أبو العباس أحمد المقّري [[مؤلف:|]] |
أجدّ ' وأمزح ← |
بتاريخ: 24 - 06 - 1935 |
1041هـ - 1631م
بقلم عبد الهادي الشرايبي
تتمة
هذا ولا نثني عنان القلم دون أن نشير إلى تلك القصة الشعرية استعراضية لحوادث الدهر وأيام الأول، وهي طويلة نجتزئ منها ببعض فقرات يقول في فاتحها:
سبحانَ مَن قَسّمَ الحظو ... ظ فلا عتابَ ولا ملامه
أعمى وأعشى ثمَّ ذو ... بَصَر، وزرقاءُ اليمامه
ومسدد، أو جائر ... أو حائر يشكو ظلامه
لولا استقامة مِن هدا ... هـ لما تَبَيَّنت العلامه
. . . فالعَيش في الدنيا الدنيّة ... غير مَرجو الإدامه
مَن أرضعَته ثَديَها ... في سرعَة تبدي فطامه
مَن عزَّ جانبِهِ بها ... تنوي على الفورِ اهتضامه
وإذا نظَرت فأين مَن ... منعَته أو منحَت مرامه
أينَ الذين قلوبهم ... كانت بها ذاتَ استهامه
أينَ الذين تفيئوا ... ظلّ السيادَةِ والزعامه
أينَ الملوكِ ذو الريا ... سةِ والسياسةِ والصرامه
أم أينَ عنترة الشجاع ... وذو الجدا كعب بن منامه
والزاعِمونَ بجهلِهِم ... أنّ القبورَ صَدى وهَامه
والمكثِرونَ مِنَ المجو ... نِ إذا شَكا الفِكرُ اغتمامه
أينَ الغَريض ' ومعبد ... أو أشعب وأبو دلامه
أينَ الألى هاموا بسعدي ... أو بثينَة أو أمامه
وبَكوا لفرط جواهم ... والليلُ قَد أرخى ظَلامه
وتَتَبّعوا آثارَ مَن ... عَشَقوا بِنَجدٍ أو تهامه وتَعَلّلوا، والشَوقُ يَغلِبُ ... بالأراكةِ والبِشامَه
وسَقاتها المتَلاعِبونَ بلَب ... مَن أعطوهُ جامه
مِن كلِّ أهيفٍ يزدري ... بالغصنِ إن يَهزز قِوامه
ذي غَرَّةٍ لألاؤها ... يمحو عَنِ النادي ظَلامَه
فالشمسُ في أزرارِه ... والبدرُ في يَدِهِ قَلامَه
يصمي القلوبُ إذا رَمى ... عَن قوسٍ حاجِبَهُ سِهامَه
وَيَروقُ حَسَناً إن رَنا ... وَيَفوقُ آراماً بِرامه
ثم يشكو صروف الدهر وفجائعه بفخر الأدب (ذي الوزارتين لسان الدين بن الخطيب):
راعَت صروفُ الدّهرِ دو ... لته، وما راعَت ذمامه
حتى ثَوى إثرُ التَوى ... في حفرَةٍ نثِرَت عِظامه
مَن زارها في أرض (فا ... س) أذهَبَت شَجوا منامه
إذ نَبهَته لِكلّ شَملٍ ... شَتّتَ الموتُ التئامه
هذا لِسانُ الدينِ أسكَتَهُ ... وأسكَنَهُ رجامه
ومَحا عِبارَتِه فمَن ... حَياهُ لَم يردد سَلامه
فَكَأنّهُ ما أمسَكَ ال ... قَلَم المطاع ولا حسامه
وَكَأنّه لَم يعلُ مَت ... ن مطهم باري النَعامَه
وَكَأنّهُ لَم يرق غا ... رب الاعتزاز ولا سنامه
. . . مذ فارَقَ الدنيا وقَو ... م ض عن مَنازِلَها خِيامه
أمسى بِقَبر مفرَداً ... والتربُ قَد جَمَعَت عِظامه
مِن بَعدِ تَثنِية الوزا ... رة، جاده صَوبُ الغَمامه
لَم يَبقَ إلا ذِكرُهُ ... كالزهرِ مفتَرِ الكمامه
- 4 -
وله في الشعر المنثور رسائل بليغة، ومساجلات أدبية رائقة؛ ويكفي أن نلقي نظرة على كتابه الحافل (نفح الطيب) الذي هو سجل لألوان الأدب الأندلسي، وديوان لأخبارهم وطرائفهم، والذي تدين له العروبة والتاريخ والأدب والفن بأكبر الفضل في جمع أشتاتها، ونظم متناثرها، فخلد بعمله ذاك صوراً حية من الحضارة الأندلسية، ومدنية العرب في أوربا (من مطلع فجرها حتى مغرب شمسها)!. . .
وإليك ما يقول في وصف البحر حين نزوحه عن مسقط رأسه إلى ديار الشرق والحجاز:
(. . . ثم جد بنا السير في البر أياماً، ونأينا عن الأوطان التي أطنبنا في الحديث حبالها وهياماً، وكنا عن تفاعيل فضلها نياماً، إلى أن ركبنا البحر، وحللنا منه بين السحر والنحر، وشاهدنا من أهواله، وتنافي أحوالها، مالا يعبر عنه، ولا يبلغ له كنة. فكم استقبلتنا أمواجه بوجوه بواسر، وطارت إلينا من شراعه عقبان كواسر، قد أزعجتها أكف الرياح من وكرها، كما نبهت اللجج من كسرها، فلم تبق شيئاً من قوتها ومكرها، فسمعنا للجبال صفيراً، وللرياح دوياً عظيماً وزفيراً، وتيقناً أنا لا نجد من ذلك إلا فضل الله مجيراً، وإذا مسّكم الضر في البحر ضلّ ما تدعون إلا إيّاه، وأيّسنا من الحياة لصوت تلك العواصف والمياه، فلا حيا الله ذلك الهول المزعج ولا بياه، والموج يصفق لسماع أصوات الرياح فيطرب بل ويضطرب، فكأنه من كأس الجنون يشرب أو شرب، فيبتعد أو يقترب، وفرقه تلتطم وتصطفق، وتختلف ولا تكاد تتفق، فتخال الجو يأخذ بنواصيها، وتجذبها أيديه من قواصيها، حتى كاد سطح الأرض يكشف من خلالها، وعنان السحب يخطف في استقلالها، وقد أشرفت النفوس على التلف من خوفها واعتلالها، وأذنت الأحوال بعد انتظامها باختلالها، وساءت الظنون، وتراءت في صورها المنون،. . . . ونحن قعود، كدود على عود، ما بين فرادى وأزواج، وقد نبت بنا من القلق أمكنتنا، وخرست من الفرق ألسنتنا، وتوهمنا إنه ليس في الوجود، أغوار ولا نجود، إلا السماء والماء، وذلك السفين، ومن في قبر جوفه دفين، مع ترقب هجوم العدو، في الرواح والغدو، لاجتيازه على عدة من بلاد العدو. . لاسيما مالطا الملعونة، التي يتحقق من خلص من معرتها أنه أمد بتأييد إلهي ومعونة. فقد اعترضت في لهوات البحر الشامي شجا. وقل من ركبه فأفلت من كيدها ونجا،. . . وتشتت أفكارنا فرقا، وذبنا أسى وندماً وفرقا، إذ البحر وحده لا كميّ يقارعه، ولا قويّ يصارعه، ولا شكل يضارعه؛ لا يؤمن على كل حال، ولا يفرق بين عاطل وحال، ولا بين أعزل وشاكي، ومتباكي وباكي، فكيف وقد انظمّ إليه خوف العدو الغادر الخائن، إلى أن قضى الله بالنجاة وكل ما أراد فهو الكائن.) إلى أن يقول: (فترى الأنفاس تعثر في زفرة الأشواق، والأجسام قد زرت عليها من التعب الأطواق، وتساوي في السير نهار مشرق، وليل مقمر أو داج. . ثم وصلنا بعد خوض بحار، يدهش فيها الفكر ويحار، وجوب فياف مجاهل، يضل فيها القطا عن المناهل، إلى (مصر) المحروسة فشفينا برؤيتها من الأوجاع، وشاهدنا كثيراً من محاسنها التي تعجز عن وصفها القوافي والأسجاع، وتمثلنا في بدائعها التي لا نستوفيها، بقول ابن ناهض فيها:
شاطئُ مصر جَنّة ... ما مِثلها في بَلَد
لا سيما مذ زخرِفَت ... بِنَيلِها المطرد
وللرِياحِ فَوقِه ... سَوابِغُ من زرد
مَسرودَة ما مَسَّها ... داودَها بِمبرد
سائلة، وَهوَ بها ... يَرعدُ عاري الجسد
والفلكُ كالأفلاكِ بي ... ن حادر ومصعد
- 5 -
وبعد فلعل هذه الكلمة تكون حافزاً لأدباء العرب إلى دراسة هذا الأديب الكبير والاهتمام بآثاره القيمة، وتوفيها حقها من البحث والاستنتاج، ومن هاتيك الخدمة إعادة طبع كتابيه الكبيرين (نفح الطيب) و (أزهار الرياض) في شكل يلائم قيمتها الأدبية والتاريخية مع مراجعتها على الأصول وتتميم النقص الذي بهما
(فاس)
عبد الهادي الشرايبي