الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1024/في عالم الكتب: نقد وتعريف

مجلة الرسالة/العدد 1024/في عالم الكتب: نقد وتعريف

مجلة الرسالة - العدد 1024
في عالم الكتب: نقد وتعريف
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 16 - 02 - 1953


بعد الغروب

تأليف الأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله

للدكتور عبد القادر القط

هذه قصة للأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله نشرت قبل هذا العام ثم أعاد نشرها نادي القصة منذ شهرين. وهي تصور أزمة عاطفية في حياة شاب تخرج في كلية الزراعة فمضى يبحث عن عمل. وانتهى به المطاف إلى أن يشتغل ناظر زراعة في مزرعة يملكها أديب كبير. وكان المالك وابنته أميرة يزوران القرية لماماً فيمضيان بها أياماً أو أسابيع يعودان بعدها إلى القاهرة. وكذلك أحب الفتى أميرة حباً صامتاً لم يرد أن يفصح عنه لأنه كان يرى نفسه أفقر من أن يتطلع إلى من كانت في مثل ثرائها. ولكن خادمته زينب - وكانت بدورها تحبه حباً يائساً - تقرب بين الحبيبين حتى يتصارحا. ويعرف عبد العزيز - وهذا هو اسما الفتى - أن والد أميرة يريد أن يزوجها لابن عمها سامي فيستبد به الحزن ولكنه يحاول أن يعرف شعور أميرة نحو هذا الخطيب ويتكفل له بذلك صديقه صالح الذي يقيم في القاهرة فيراقبها ويتتبعها وينتهي إلى أنها لا تحمل لابن عمها شيئاً من الحب. وتعد أميرة بأن تحدث أباها في الأمر، ولكنها تتريث وتتردد حتى تجد أباها فجأة على فراش الموت يبارك بنظراته المعبرة زواجها من أبن عمها. وهكذا تجد أميرة نفسها مضطرة إلى اصطناع الانصراف عن عبد العزيز لأنه فقير. ويفترق الحبيبان.

والقصة كما ترى قصة (رومانسية) تصور سلسلة من التضحيات المفتعلة البعيدة عن واقع الحياة. فالأب يضحي بمستقبل ابنته في سبيل الوفاء لأولاد أخيه، والبنت بحبها في سبيل الوفاء لذكرى أبيها وتحقيقاً لرغبته وهو على فراش الموت؛ وزينب تضحي بحبها لتسعد سيدتها فتجعل من نفسها رسولاً بين العاشقين؛ وصالح يبذل تضحية من نوع آخر فيكلف نفسه أن يراقب بيت أميرة في إحدى الضواحي عدة أيام ليتابعها ويعلم مبلغ علاقتها بابن عمها، حتى القصة القصيرة التي كتبها سيد العزبة ترمز إلى هذه المثالية المفرطة، فبطلها العامل الفقير يضحي بحبه لتتزوج فتاته ثريا تنتفع أسرتها الفقيرة بثروته. وقد تحس المثالية في القصة إذا كانت ثورة على قيم زائفة وأوضاع خاطئة وصراعاً بين عواطف سامية وأخرى وضيعة، أما إن كانت استسلاماً مطلقاً لمشاعر بينة الانحراف فهي عيب لا شك فيه. فإغراق الأب في الوفاء لأولاد أخيه على حساب ابنته عاطفة زائفة، وتبرع زينب للتوفيق بين سيدتها وسيدها الذي تحبه هي نفسها شيء غريب، وما صنعه صالح في سبيل صديقه أمر يتنافى مع الكرامة والجد. وقل ذلك في سائر التضحيات التي تحفل بها هذه القصة. وأبطال القصة بهذه المثالية الزائفة يتنكرون لأنانيتهم ويذعنون لقضاء قيم باطلة تتحكم في مصايرهم دون أن يكون هناك على الأقل صراع عنيف قد ينتهي بالفشل أو النجاح، ولكنه في كلتا الحالين يؤكد إنسانية الشخصية وبطلان هذه القيم سواء خرجت من الصراع منتصرة أو مخذولة.

واختفاء الصراع القوي نتيجة لهذه الفضائل المفتعلة يفرض على المؤلف أن يختلق مبرراً لكل عمل يجانب - في رأيه - المثل الأعلى للسلوك الفاضل؛ فأميرة تحب عبد العزيز وتنصرف عن ابن عمها لا لأنها أحست ميلاً فطرياً نحوه، ولا لأنها إنسانة يمكن أن تتحول مشاعرها إذا ما لقيت رجلها المنشود، لا. . . فإن ذلك لا يتسق مع العالم الفاضل الذي يرسمه المؤلف إذن فليكن ابن عمها شاباً (ألذ الأوقات التي يقضيها في أربع وعشرين ساعة وقت يمضيه عند الحلاق أو في الحمام أو واقفاً أمام واجهة أحد المحال ليرى أكثر الألوان انسجاماً على ذوي الوجوه البيض. . . يجيد التحدث عن الأفلام ويحفظ أسماء الممثلات خاصة حتى لقد نظمت إحدى المجلات الأسبوعية مسابقة عويضة الموضوع فكان الفائز فيها. وكانت هذه المسابقة هي أن رسمت المجلة عشرة أزواج من عيون الممثلات بين غربيات ومصريات وكتبت في أعلى الصفحة (أتستطيع أن تعرفهن من عيونهن) وكان الأستاذ سامي هو الذي عرفهن جميعاً بما له من عبقرية. . . يمضغ الكلمة مرة أو مرتين قبل أن يتفضل بها عليك فيخرجها من فمه ثم يرسلها من بين شفتين تأخذ سفلاهما وضعاً وتأخذ علياهما وضعاً آخر عند مخرج الكلمة. يحرك عنقه بتقدير لأنه يخاف على بنيقة قميصه المنشاة أن تنكسر، وعلى عقدة رباط العنق أن تتحول الخ) وهكذا يجد المؤلف عذراً لبطلته إذا ما انصرفت عن ابن عمها المخنث إلى الفتى الجاد المستقيم دون أن يمس ذلك ما ينبغي لها من عفة العواطف ومثالية الأحاسيس، وهذا بعينه ما فعله السباعي في قصته (إني راحلة) حين وصف زوج بطلته بأقذع من هذا ليبرر فرارها منه إلى حبيبها. وإذا جاز للوالد في قصة السباعي أن يزوج ابنته لهذا المخنث سعياً وراء الجاه والمال فكيف جاز للوالد في قصتنا هذه أن يرتكب هذا الإثم وهو الأديب الكبير والقصاص الخبير بدخائل النفوس ولم يكن له من وراء ذلك مغنم؟ وكيف استباح أن يقول لابنته (إن سامي شاب لا أرى فيه ما يمنع أن يكون زوجاً لك) وفيه تلك الخصال الذميمة التي وصمه بها المؤلف! إن أية فتاة في موقف أميرة يمكن أن تحب أي فتى يعترض سبيلها ما دام فيه شيء من رجولة تناقض ما في سامي من تخنث. وعندئذ يكون حبها فراراً من خطيب خلا من كل ما يجتذب المرأة لا استجابة لشعور طبيعي بأن في ذلك الرجل مقومات الرجولة المتمثلة في نفسها. وتلك عاطفة لا يمكن أن ترضي المحبوب ولا تتأصل في نفس المحب. لذلك خلت القصة من الصراع الجدي الذي يخلق من المواقف والمشكلات ما يعقد الأحداث ويرتفع بالأزمات النفسية إلى مستوى يتجاوب معه القارئ وينفعل به. فالقصة تمضي هادئة رتيبة، انتظار من عبد العزيز لمقدم أميرة وأبيها إلى القرية، ومناوشات عاطفية غامضة مكبوتة، ثم رحيل مفاجئ إلى القاهرة، ثم انتظار جديد من عبد العزيز، ثم عودة من أميرة. والبطلان في كل ذلك لا يكادان يبذلان أية محاولة جدية للتغلب على ما في طريقهما من صعاب. ومن العجب أن تتخاذل أميرة وتستسلم لمصيرها المحتوم في مثل هذا الفتور وقد صورها المؤلف ذات شخصية قوية يهابها عمال المزرعة أكثر مما يهابون أباها.

هذا عن شخصيات القصة وطابعها العام. أما بناؤها الفني وتسلسل حوادثها ففيها أيضا كثير من التكلف. وترتيب الوقائع كما يشتهي المؤلف لا كما يقتضي منطق الواقع وطبائع الأشياء. وأضرب لذلك مثلين: الأول حين يكتب عبد العزيز إلى صديقه صالح في القاهرة يطلب إليه أن يراقب أميرة ليعرف مدى علاقتها بابن عمها سامي. ودعك مما في هذا الطلب من غرابة ومما في استجابة الصديق له من تبذل، وأنظر كيف تسنى لصالح أن يعرف أن أميرة تحب صديقه عبد العزيز. لقد انتظر أمام بيتها عدة أيام دون طائل ثم أسعفه الحظ فرآها خارجة مع أختها الصغيرة. وتسأل الصغيرة عن سر نزولهم إلى القاهرة بلا سيارة فتجيبها: أتعتقدين أنه من الضروري أن يركب كل الناس سيارة خاصة. .

سنركب القطار والترام. ونفهم من هذا الحوار أن هذه كانت أول مرة تخرج الفتاتان فيها بلا سيارة، لا لشيء إلا ليتيح المؤلف لصالح أن يتبعهما. ثم تدخل الفتاة مسكناً في الطبقة الأولى من إحدى العمارات عرف صالح أن ساكنه يحترف قراءة الكف. وهكذا يقتضي تلفيق الحوادث مرة أخرى أن تختار الفتاة هذا اليوم من بين الأيام جميعاً لتستشير العراف في أزمتها العاطفية وأن يكون مسكنه في الطابق الأول حتى لا يتكلف المطارد من أمره عسراً. .! ثم تدخل السينما فيوفق الحظ (صالح) فيجلس بالقرب منها ثم تكون المفاجأة الأخيرة حين تصور القصة على الشاشة مأساة عبد العزيز وأميرة، ويلتفت صالح فإذا هي تكفكف دمعها بمنديلها الأبيض فهي إذن تحب صديقه عبد العزيز!

أما المثال الثاني فحين يستشير عبد العزيز صديقه صالح (قاموس الحب) ماذا يفعل حتى تصرح أميرة بحبها له فيشير عليه بأن يثير غيرتها، ودعك من سذاجة هذه النصيحة وانظر كيف رتب المؤلف الحوادث بعد ذلك. تقدم أميرة إلى العزبة في إحدى زياراتها المتقطعة، ولأول مرة نرى بصحبتها صديقة (مرحة طائشة ذات ضحكة ناعمة، وصنوعة الزينة الخ. . .) ويفهم القارئ بلا عناء أن المؤلف قد ساق هذه الفتاة إلى القرية وصنعها بهذه الصورة ليطبق عليها عبد العزيز الدرس الذي تلقاه من صديقه. وهكذا كان. . . وفي لمحات خاطفة اشتبك الاثنان في غزل صريح مكشوف دون مقدمات لينتهي المؤلف من غايته سريعا فيثير غيرة أميرة. وقد كان المؤلف يستطيع ألا يقدم لهذه التجربة بتلك النصيحة من صالح وكان يستطيع أن يصور الزائرة طيبة متزنة وكان طبيعياً حينئذ أن يحتفي بها عبد العزيز إكراماً لها كزائرة وأن تضيق صاحبته بهذه الحفاوة فيفطن إلى هذه الحقيقة النفسية البسيطة ويمضي في استغلالها، ويكون الموقف عندئذ من واقع الحياة. لا من (القاموس).

وبمناسبة الحديث عن القاموس نحب أن نقول كلمة قصيرة عن لغة القصة وأسلوبها؛ فالمؤلف حريص أشد الحرص على الأسلوب العربي الرصين الذي لا يتلون كثيرا باختلاف المواقف والأشخاص. وهو يفضل الحوار العربي على العامي ولو كان الأخير أقدر على تصوير الشخصية أو الموقف. وقد يكون في هذا مجال لاختلاف وجهات النظر ولكني لا أستطيع أن أقره على استعمال (المحط) مثلاً بدل (المحطة) تلك الكلمة الحية المألوفة. وإذا كانت لغتنا الأدبية غير قادرة على التطور الذي ينبعث من استعمال اللغة في الحديث فلا أقل من أن نتيح لها التطور على أقلام كتابها. وفي القياس متدوحة عن هذا التزمت فكلمة المحطة لها نظائر في اللغة كالمنزلة والمنزل بمعنى مكان النزول وسلطان الثقافة العربية القديمة واضح كل الوضوح في صور المؤلف وتشبيهاته، فهو يقول مثلاً إنه قبل عنق صاحبته (فكأنما قبل عاجاً دافئاً)! ترى لو قبل المؤلف قطعة دافئة من سن الفيل أكان يستعذب هذه القبلة! إن التشبيه أداة فعالة في يد الروائي تغنيه في كثير من الأحيان عن الوصف المطول والتحليل المبسوط وخير له إذا لم يوفق إلى تشبيه معبر طريف ألا يلجأ إلى الصور التقليدية التي لا معنى لها، خاصةً أن تشبيه العرب الجلد العاج كان يقصد به دائماً اللون لا الملمس.

بقيت كلمة قصيرة أخرى عن نهاية القصة فإن بها شيئاً من الغموض. فالبطل يقص علينا أنه نشر قصة حبه فلما قرأتها أميرة جاءت تفسر موقفها وتعتذر عن زواجها من ابن عمها. والقصة التي بين أيدينا هي قصة حبه كذلك فهل هي طبعة ثانية من القصة الأولى أضيفت إليها الخاتمة!

عبد القادر القط