الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1022/في عالم الكتب: نقد وتعريف

مجلة الرسالة/العدد 1022/في عالم الكتب: نقد وتعريف

مجلة الرسالة - العدد 1022
في عالم الكتب: نقد وتعريف
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 02 - 02 - 1953


الزنابق الحمر لطاغور

ترجمة الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار

للدكتور أحمد فؤاد الأهواني

من دلائل النهضة الحديثة في مصر، وفي الشرق العربي، أن يتحرك الأدباء إلى نقل نفائس الكتب عن لغاتها التي صدرت بها. ولم يكن الأمر كذلك منذ عهد قريب، بل كان يسعى الناقل إلى الإنجليزية أو الفرنسية يطلع فيها، وينقل عنها المؤلفات الفارسية أو الهندية أو الصينية. ونحن نعلم أن الترجمة مهما تكن أمينة فلن تقوى على نقل الآثار الأدبية بدقة تامة، ونعني بالآثار الأدبية الشعر والتمثيليات. وعلة ذلك أمور كثيرة، أهمها خصائص كل لغة مما يجري فيها من تعابير، وليس لها مثيل في اللغات الأخرى. وهذا هو السبب في اختلاف التراجم الفرنسية عن الإنجليزية للأصول اليونانية مثلاً. بل لقد تختلف الترجمة في اللغة الواحدة تبغاً لاختلاف ذوق المترجمين ومقدار فهمهم للأصول، ولذلك تتعدد التراجم للنص الواحد.

مما لاشك فيه إذن أن الناقل يبعد عن الأصل بعض الشيء، فإذا جاء ناقل وترجم الأصل عن لغة أخرى فقد ابتعد خطوة أخرى عن الأصل. ولذلك كانت الترجمة عن الأصل رأساً أفضل من الترجمة عن الترجمة.

ويسرنا أن نقرأ تمثيلية الزنابق الحمر للشاعر الهندي رابندرانت طاغور معربة رأساً عن الأصل البنغالي، بقلم الأديب أحمد عبد الغفور عطار الذي يقول في كلمته يقدم المسرحية: (وقد حاولت جهد المحاولة أن أنقل جو طاغور وروحه وفنه وبساطته، وأقترب في أسلوبي العربي من أسلوبه في البنغالية، فإن كنت قد وفقت فالحمد لله، وإلا فعذري إن كنت أميناً في النقل والترجمة، وبذلت غاية الوسع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

والمترجم من مكة المكرمة، ولكنه درس في مصر؛ ولذلك لا يحس في أسلوبه أو عبارته أي غرابة عن اللغة المصرية. وهو يعرف اللغة البنغالية. وحدثني أنه استغرق في ترجمة هذه المسرحية ثلاث سنوات مع إنها صغيرة الحجم، وهذا شأن الفنان الذي يستغرق في فنه ويتأنى في عمله والمسرحية تعبر عن روح الهند وفنها الأصيل الذي يختلف عن غيره من الفنون في الدول الأخرى.

وهي رمزية لا تمثل الواقع، ولكنها تصور مع ذلك الحياة الإنسانية أبلغ تصوير. فلا يوجد إقليم اسمه (ياكشا) ولا يعبر عن الملك بصوت دون أن يرى.

يصور طاغور في هذه المسرحية المجتمع البشري، ويصور العلاقة بين الملك والشعب، وبين الرجل والمرأة، وبين العمال والرؤساء، ويصور منزلة هذه الأشياء التي يتعامل بها الناس ويتداولونها، كالذهب والخمر والشعر والغناء والزهور.

فالملك رمز الظلم، والمرأة رمز السحر، والعامل رمز الدأب، والذهب رمز القوة، والخمرة رمز النشوة، والزئبق الأحمر رمز الحب والخوف.

تبدأ المسرحية بغلام عامل يحفر الأرض يخاطب (نالديني) المرأة الجميلة الفاتنة رمز السحر.

كيشور: أليس لديك أزهار كافية يا نالديني؟ لقد أحضرت لك بعضها، وأكثرت من بعض الألوان.

نالديني - كيشور، انطلق، تحرك، عد إلى عملك، أسرع، أرجو أن تعود وإلا تأخرت.

كيشور - يجب أن أختلس جزءاً من وقتي الذي أنفقه في الحفر بحثاً عن الذهب، لأحفر من أجلك حتى أحضر لك الأزهار.

نالديني: ولكنهم سيعاقبونك إذا علموا بما صنعت.

كيشور: قلت: يجب أن تحصلي على زنابق حمر، تالله ما أعظم ندرتها في هذا المكان!

بهذا المطلع البديع يستهل طابور مسرحيته. فهذه الزهور نادرة، ولا يعرف سر مكانها إلا هذا الولد العامل. وهي نادرة ندرة الذهب الذي يحفر المئات منهم الأرض للحصول عليه. ليقدموه إلى الملك، وإلى أصحاب السلطان. وليس لهؤلاء العمال الحفارين أسماء إلا فيما بينهم وبين أنفسهم. أما في نظر رؤسائهم، فلا يعرفونهم إلا بأرقام. إنهم (نمر) لا أكثر. فهذا الحفار يشقى في الأرض باحثاً عن الذهب، ولكنه غير راض عن عمله، بل ساخط عليه، على حين يقبل باحثاً عن الزنابق حتى يستطيع تقديمها هدية إلى نالديني. فترضى بذلك نفسه.

أما الملك وأعوانه، فإنهم يدفعون الناس بحثاً عن الذهب، لأنه الوسيلة لاستعبادهم، مع أن الذهب شيء (ميت) لا جمال فيه. وانظر إلى الحوار بين نالديني وبين الأستاذ الفيلسوف.

نالديني: يحيرني أن أرى مدينة بأسرها تدفع رأسها في التراب دفعاً، وتنقب بكلتا يديها في الظلام. أنتم تحفرون النفق في العالم السفلي ليل نهار، وترجعون بثروة ميتة أودعت الأرض منذ أجيال فصانتها.

الأستاذ - نحن نبتهل إلى شيطان هذه الثروة الميتة، وإذا استطعنا استعباده رقد العالم تحت أقدامنا دون عناء.

نالديني - ألهذا تخبئون مليككم خلف حائط من الستار المعتم؟ أخوفاً أن يكشف الناس أنه سلطان؟

الأستاذ - كما أن لشبح ثرائنا الميت بأساً شديداً مخيفاً فإن لشبح الملكية الغارق في الضباب بأساً أشد وأقوى. إنها بقواها غير البشرية ترعب الناس.

نالديني - كل ما تقوله كلام نسجته الصنعة وزوقه الخيال.

الأستاذ - إنه صنعة زوقها الخيال. ولئن كان العاري أسرع فهماً وتصديقاً، فإن الملابس المصنوعة هي التي تستر ما في أجسادنا من عيوب، وتخفي ما نود كتمانه، وهي بعد تحددنا. لشد ما يمتعني أن أناقشك الفلسفة!

نالديني - هذا غريب منك أنت الذي اتخذت وكرك في الليل والنهار بين كتلة من الصفحات الصفر الشاحبة مثل حفاريك الذين ضلوا في جوف الأرض. إنك تضيع وقتي سدى.

هذه عبارات سهلة ولكنها تعبر عن فلسفة في غاية العمق. إنها قصة الإنسانية التي ذهبت في الحضارة شوطاً بعيداً، فأصبحت تصنع كثيراً من الصناعات لا تقوى على المعيشة بدونها، بل أصبحت تمجدها وتعبدها. الحق إن الإنسان المتحضر عبد لآلاف الأشياء التي يستعملها، والتي يقتنيها بالمال، كالمسكن وما فيه من أدوات، وهذه الملابس المعقدة، وسائر المقتنيات الكثيرة التي تزحم بها أنفسنا في هذه الحياة. ومن أجل هذه المقتنيات، والسبق في الحصول عليها، أخذ الناس يستعبد بعضهم بعضاً بالعسف والإرهاب، واستعمال السيف والسوط، حتى نزل الرعب في القلوب، وسرى الخوف في أوصال العباد. ولو تأملوا لرأوا أن حكامهم لا حول لهم ولا قوة، وأنهم بشر كسائر البشر.

ويحدثنا طاغور عن فلسفة الحب. إنها في نظره جاذبية طبيعية بين الرجل والمرأة، لا يمكن أن يعرف سرها، أو يعلل أمرها. لا يمكن إرجاع الحب إلى سبب معين، فالصلة بين الرجل والمرأة، واتصال أحدهما بصاحبه، يرجع إلى الحظ. وإذا كانت نالديني قد اختارت الزنابق الحمر دون غيرها من الألوان، ودن غيرها من الزهور كالياسمين والسوسن، فذلك لأن حبيبها (رانجان) يدعوها (الزنبقة الحمراء) وهي كذلك تحس أن لون حبه أحمر كهذا الأحمر الذي يطوق جيدها.

وللألوان فلسفة. ولكل شيء معنى ودلالة.

وتختلف الدلالات باختلاف نظرة الناس. فهذه نالديني تفهم من الزنبقة الحمراء معنى الحب. ولكن (جوكيل) وهو أحد الحفارين يفهم منها معنى آخر، فهو حين يرى جيدها وقد تدلى منها الزنبق الأحمر يقول لها (إنك تظهرين لي كشعلة من اللهب القاني يمجها الشيطان).

حقاً ما أعجب طاغور! أنه يسطر مسرحيته بالألوان كما الرسام. أنه يريد أن يحلي جيد الملك بإكليل من الزهر الأبيض، والبياض رمز الموت، والجمرة رمز الحياة. وإذا كان الملك يجمع الذهب، ويستمتع بلونه وتوهجه، فإن لونه ميت كالذهب نفسه، أما لون الزنبق فحي لأن الزهر حي.

يفتن الذهب الناس لأنه رمز القوة، ولكنها قوة وهمية، لا يمكن أن يشتري بها الإنسان الحب، وهو سبيل السعادة. وفي ذلك يقول صوت الملك معترفاً لنالديني

(كل ما أملك أثقال ميتة، وحطام أصم. لا الوفرة في الذهب بمستطيعة أن تخلق جريئاً، ولا الزيادة في القوة بقادرة أن تهب الشباب. . أنا أستطيع أن أحرس بالقوة التي أملكها، ولكن. . . آه، لو كنت أملك شباب (رانجان) لحررتك، ثم تشبثت بك، وأخذتك بين أحضاني بعنف. إن وقتي ينفق في عقد الحبال المبرمة، ولكن وا أسفاه! كل شيء يمكن أن يحفظ بإيثاقه إلا السرور والمرح فإنها لا يوثقان).

وإذا كان الملك شقيا بذهبه وقوته، ولا يجد فيهما عزاء أو تسلية ولا ترويحاً عن للنفس، فإن الشعب يلتمس الراحة من الكدح والدأب في العمل بالنشوة التي يجدها في الخمر. وكل ما يؤدي إلى النشوة فهو خمر. ففي الطبيعة خمر، والشراب المعروف خمر يبعث أيضاً على النشوة.

سئل (بيشو) وهو فيلسوف من أتباع نالديني عن السبب الذي يدفع الناس إلى الشراب فأجاب: (وسعت رحمة الله كل شيء، وستتسع رحمته لمن يشربون قليلاً فيعفو عنهم. لقد خلقت أذرعنا - نحن الرجال - لنبذل أقصى ما وضع في عضلاتنا من خمر القوة؛ أما أذرعكن - أيها النساء - فقد خلقت لتقديم نبيذ العناق. إن كان في هذا العالم جوع يدفعنا إلى العمل والكدح فإن فيه أيضاً اخضرار الغابة ووهج الشمس المشرقة، وكلاهما يجعلنا ثملين إذا ما نادتنا أيام العطلة).

قالت محدثته: (أتسمي كل هذه الأشياء خمراً؟)

فأجاب بيشو: نعم خمر الحياة ينبوع من اللذة والنشوة لا ينضب ولا يفسد. اسمعي شكاني: جئت إلى هذا المكان مدفوعاً إلى العمل والسطو ليلاً على العالم السفلي. إن نصيبي الذي أستحقه من الخمر الطبيعية تلقاء عبوديتي للطبيعة قد حرمت منه، ولهذا أجد إنساني الباطن يشتهي الخمر الصناعية ليتخفف من تعب النهار).

وأحسب أننا وقد ارتفعنا إلى هذه الآفاق العليا من فلسفة الحياة، لا يعنينا كيف سارت المسرحية وكيف كانت خاتمة الملك، لأن الحياة دوامة عظيمة تبتلع فيها كل شيء، وتنقلب فيها الأشياء، فتعلو تارة، وتهبط تارة أخرى، وتفقد قيمتها، ويبتلعها هذا الغول الهائل الذي يسمى الزمان.

أحمد فؤاد الأهواني