الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1021/شعراء الوطنية

مجلة الرسالة/العدد 1021/شعراء الوطنية

بتاريخ: 26 - 01 - 1953


للأستاذ عبد الرحمن الرافعي

أصبح للناحية الوطنية في الشعر العربي الحديث نصيب كبير في مصر جدير بالتدوين والتقدير. فالشعراء الذين استلهموا وحي الوطنية في قصائدهم، واهتزت لها مشاعرهم، واستجابوا إلى نداء الوطن في دنيا الشعر والفن والخيال؛ وكانوا مرآة صادقة لعصرهم، ومصدر إلهام وتوجيه لمواطنيهم، وترجمانا لهم في آمالهم وآلامهم، وأحاسيسهم وأهدافهم؛ هؤلاء خليقون بالتحدث عن شخصياتهم ودراسة أشعارهم الوطنية. كل منهم بمقدار ما أنتج وأثمر وأجاد وأبدع.

فمن أين نبدأ هذه الدراسة؟

يبدو لي أن الروح الوطنية قد بدأت تغذي الشعر المصري، وتبعث فيه من حياتها وبهائها، وتضفي عليه من جمالها وجلالها، منذ أوائل القرن التاسع عشر. فإلى هذا العهد نبدأ بالحديث عن (شعراء الوطنية).

رفاعة رافع الطهطاوي

1801 - 1873

هو أول رائد لنهضة العلم والأدب في النصف الأول من القرن التاسع عشر. كان شاعراً رقيقاً بالقياس إلى عصره. أشربت نفسه الوطنية منذ نعومة أظفاره. تلقاها من إيمانه الصادق (وحب الوطن من الأيمان) ومن فطرته السلمية، وخلوص نيته. ولما جاء عهد البعثات العلمية إلى الخارج كان من حسن التوفيق أن اختاره محمد على ضمن أعضاء البعثة الأولى التي سافرت إلى فرنسا سنة 1826. فجمع إلى ثقافة الأزهرية ثقافة أوربا وعلومها وآدابها. فاقتبس منها الشيء الكثير، وازدهرت روحه الأدبية على ضوء الحضارة الغربية.

وقد استثار رحيله عن مصر عاطفته الوطنية العميقة المتأصلة في نفسه الحساسة. فجادت قريحته وهو في باريس بقصيدة عبر فيها عن الحنين إلى الوطن وأهله، والإشادة بمفاخرة. قال في مطلعها: ناح الحمام على غصون البان ... فأباح شيمة مغرم ولهان

وانتقل إلى التغني بمصر وذكر محاسنها وقال:

هذا لعمري إن فيها سادة ... قد زينوا بالحسن والإحسان

يا أيها الخافي عليك فخارها ... فإليك أن الشاهد الحسنان

ولئن حلفت بأن مصر لجنة ... وقطوفها للفائزين دوان

والنيل كوثرها الشهي شرابه ... لأبر كل البر في إيماني

وله قصائد ومنظومات وطنية قالها في مناسبات مختلفة.

فنظر إلى القصيدة الآتية تجدها تعبر عما يجيش في نفسه من أكرم لعواطف وأنبلها. وقد قدمها هو بقوله (وقلت أيضا وطنية). فالروح الوطنية تتمشى حتى في تقديمه لقصائده قال:

يا صاح حب الوطن ... حلية كل فطن

محبة الأوطان ... من شعب الإيمان

في أفخر الأديان ... آية كل مؤمن

مساقط الرؤوس ... تلذ للنفوس

تذهب كل بوس ... عنا وكل حزن

ومصر أبهى مولد ... لنا وأزهى محتد

ومربع ومعهد ... للروح أو للدين

شدت بها العزائم ... نيطت بها التمائم

لطبعنا تلائم ... في السر أو في العلن

مصر لها أياد ... عليا على البلاد

وفخرها ينادي ... ما المجد إلا عنه احتبس

فخر قديم مؤثر ... عن سادة وينشر

زهور مجدد تنثر ... منها المعقول تجتني

دار نعيم زاهية ... ومعدن الرفاهية

آمرة وناهية ... قدما لكل المدن

قوة مصر القاهرة ... على سواها ظاهرة وبالعمار زاهرة ... خصت بذكر حسن

أبناؤها رجال ... لم يثنهم محال

وجندهم صنديد ... وقلبه حديد

وخصمه طريد ... بل مدرج في كفن

وقال يدعو إلى افتداء الوطن بالنفس والمال

وعزيز الموطن نخدمه ... برضا في النفس نحكمه

مال المصري كذا دمه ... مبذول في شرف الوطن

تفديه العين بناظرها ... والنفس بخير ذخائرها

تهدي في نيل نظائرها ... بشرا العليا أعلى ثمن

وقال يصف الجيش المصري ويشيد بمفاخره.

ننظم جندنا نظما ... عجيبا يعجز ألفهما

بأسد ترعب الخصما ... فمن يقوي يناظلنا؟

رجال مالها عدد ... كما نظامها العدد

حلاها الدرع والزرد ... سنان الرمح عاملنا

وهل لخيولنا شبه ... كرائم ما بها شبه

إليها الكل منتبه ... وهل تخفى أصائلنا

لنا في الجيش فرسان ... لهم عند اللقا شان

وفي الهيجاء عنوان ... تهيم به صواهلنا

فها الميدان و (الشقرا) ... سقت أذن العدا وقرا

كأنا نرسل الصقرا ... فمن يبغي يراسلنا

مدافعنا القضا فيها ... وحكم الحتف في فيها

وأهونها وجافيها ... تجود به معاملنا

لنا في المدن تحصين ... وتنظيم وتحسين

وتأييد وتمكين ... منيعات معاقلنا

وهذه الأبيات لمن خير ما قيل في وصف الجيش المصري. ولا شك أن رفاعة قد استلهم شعره من مفاخر الجيش في عهده. فهو يصور العصر الذي عاش فيه تصويرا صحيحاً لا مبالغة فيه ولا إغراق. وإن قصيدته لتشبه أن تكون لوحة فنية يخيل لمن ينظر غليها انه يلمح فيها كتائب الجيش المصري تسير إلى ميادين الحرب تحف بها أعلام النصر والظفر. تخوض غمار القتال بقلوب ملؤها الشجاعة والإقدام، وتجابه الأخطار قوية الإيمان، ثابتة الجنان، مجهزة بالسلاح والمدافع (تجود به معاملنا). ولو لم يشهد رقاعة مفاخر الجيش المصري في ذلك العصر لما جادت قريحته بهذا الشعر. وهكذا يتأثر الشاعر والأديب بالعصر الذي يعيش فيه، والبيئة التي تحيط به، ويصور الحياة على عهده. فكأنما هو قطعة من عصره، أو مرآة تنطبع فيها مشهد الحياة السياسية والاجتماعية، ومظاهر الحالة الفكرية والأخلاقية.

وإنك لتلمح أيضاً عظمة الجيش المصري من قول رفاعة في قصيدة أخرى يخاطب فيها الجنود.

يا أيها الجنود ... والقادة الأسود

إن أمكم حسود ... يعود هامي المدمع

فكم لكم حروب ... بنصركم تؤوب

لم تثنكم خطوب ... ولا اقتحام معمع

وكم شهدتم من وغى ... وكم هزمتم من بغى

فمن تعدى وطغى ... على حماكم يصرع

وتتحلى روحه الوطنية المتطلعة إلى الحرية في تعريبه نشيد الحرية (المارسلييز) فإن النفس لا تميل إلا إلى ما هو محبب إليها. فهذا النشيد قد استثار ولا شك إعجاب رفاعة رافع، حتى مالت نفسه إلى تعريبه، وإظهار ما احتواه من العواطف الوطنية الفدائية في حلة عربية قشيبة.

وإذا تأملت في شعر رفاعة رافع الذي نقلنا طرف منه وجدت فيه تقدما نسبيا إذا قارنته بأسلوب شعراء المدرسة القديمة التي سبقته كالشبراوي والعطار والخشاب وغيرهم. ويعد شعره دور الانتقال إلى دولة الشعر الحديثة التي حمل لواءها البارودي وإسماعيل صبري وشوقي وحافظ.

حقا إننا إذا وضعناه إلى جانب شعر شوقي مثلا لجاء في المرتبة الثالثة أو الرابعة؛ ولكن يجب ألا ننسى أن رفاعة رافع نشأ في عصر كانت اللغة العربية وآدابها في دور تأخرها واضمحلالها. فله على نهضة الشعر والأدب فضل لا ينكر.

عبد الرحمن الرافعي