مجلة الرسالة/العدد 1021/الفن المهدد!
→ أزمة الثقافة! | مجلة الرسالة - العدد 1021 الفن المهدد! [[مؤلف:|]] |
محمود سامي البارودي ← |
بتاريخ: 26 - 01 - 1953 |
للأستاذ محمد عبد الله السمان
منذ بضعة عشر أسبوعاً، وفلم (كوفاديس) يعرض بسينما (مترو) بالقاهرة، بعد أن تقدمته الدعاية الواسعة العريضة. . . الدعاية التي لم يسبق لها مثيل من قبل لأي فلم من الأفلام السينمائية، فقد حجرت إحدى الجرائد المصرية ذات يوم لهذا الفلم أربع صفحات، خصصتها للدعاية له، ولها عذرها، فالجرائد والصحف في مصر - إن لم تكن جميعها - فمعظمها لا ينظر إلا من الزاوية المادية التي يعيش لها من أجلها. . .
وانجذابا إلى هذه الدعاية الواسعة العريضة (لكوفاديس) تكبدت مشقة الوقوف أمام سينما (مترو) ساعة كاملة للحصول على تذكرة الدخول، وأردفتها بثلاث ساعات أخرى مع فلم (كوفاديس) الذائع الصيت. . . ولم أكد انتهى من مشاهدته حتى آمنت بأن نفوذ أمريكا، بلغ حدا لا يطاق في الشرق الأوسط والأقصى والأدنى، بالدرجة التي تجيز لها أن تلعب بمقومات الشعوب، وفي مقدمتها عقائدها.
شاهدت فلم كوفاديس انجذابا إلى دعايته العريضة الواسعة، فإذا هو دعاية سافرة من أوله إلى آخره على الطريقة الأمريكية، ومن شأن هذه الدعاية السافرة أن تشوش على العقول، ويبلبل الأفكار. والنظارة من المسلمين يخرجون من السينما بعد مشاهدة (كوفاديس) وقد سحرهم الذوقي الفني، والإخراج القوي، والحوار المبدع، دون أن يثيروا - حتى فيما بينهم وبين دخائل نفوسهم - عبارة واحدة من عبارات هذه الدعاية.
أما الرأي العام الإسلامي في مصر فلا يكترث كثيرا لهذه الأفلام التبشيرية الأمريكية، إذ أنها صيحات في واد، ونفخ في رماد، وستظل أسابيع أو شهوراً أو أعواماً، وإن شاءت قروناً، فلن تنال من عقيدة المسلمين شيئاً.
إن التبشير الأمريكي وباسم العلم والمروءة والإنسانية، لم يكتف باستغلال الطبقات التي تلجأ إلى معاهدة ومدارسه وجامعاته ومصحاته، ولكنه أصر على أن يشتري ضمائر صنف من المثقفين المسلمين الذين حقنوا بالتربية الغربية ردحا من الزمن، ليأخذوا على عاتقهم - في مقالاتهم ومحاضراتهم وندواتهم - تشكيك المسلمين في المعاني الإسلامية الحية، والتنديد بالمقدسات الدينية، ورمى الإسلام بالتزمت والجمود والرجعية، وما إلى ذلك الألفاظ المصطلح بينهم عليها.
ومع هذا كله فالرأي العام الإسلامي لا يتحرك ولا يتكلم، معتمداً على قوة العقيدة الإسلامية، ولكن صمته سوف ينفد حين يدرك أن المعاني الإسلامية مضيق عليها، وأن الإسلام الصحيح مراقب مراقبة دقيقة، لا يصل معها حتى إلى المسلمين أنفسهم. . وأن الفن الرفيع محرم عليه أن يتناول المعاني الإسلامية قلت أم كثرت!.
هذا ما حدث في فلم (ليلة القدر) للأستاذ حسن صدقي الممثل المعروف. ولعل الرأي العام الإسلامي لا يدري من أمره إلى اليوم شيئاً، أو لعله يدري ولكنه لا يقوى إلا على همسات بشأنه لا تتجاوز الشفاه، وآهات لا تتجاوز الحناجر، والأستاذ حين صدقي صاحب رسالة فنية، لا يتخذ من الفن مهنة ينتزع بها القروش من الشعب المرهق المكدود، ولا يجعل من الفن مسلاة لعشاق الفوضى والمجون والتهريج، بل إنه ينتهج نهجاً عالياً، يهدف من ورائه إلى رفعة الوطن وسمو المجتمع. وهو فوق هذا متدين محافظ، ويؤدي رسالته بقلبه وروحه، كالمصلح الذي يبغي الإصلاح عن عقيدة راسخة وإيمان عميق، ولا عيب فيه إلا مشاركة الشعب آلامه فيما ينتج من فن، ومشاركة المسلمين عواطفهم فيما يخرج للناس من أفلام، شاذا في هذه وتلك عن الكثيرين من الفنانين المرتزقة الذين لا هدف لهم في حياتهم الفنية سوى التهريج الرخيص وكفى. . .
قدر لي أن أشهد عرض فلم (ليلة القدر) قبل أن يزح به في زوايا الظلام، فوجدت الأستاذ حسين صدقي ينحو فيه ناحية إسلامية لم تطرق قبله في عالم الفن. لقد أحس في قرارة نفسه أن هناك سحابا يحجب أعين المسلمين عن الإسلام المصفى، وأن هناك أباطيل ألصقت بالإسلام زرواً وبهتانا، يعتقدها الأجانب من غير المسلمين عقيدة راسخة في أعماق قلوبهم، فراح يعالج هذه وتلك في فيلم أسماه (ليلة القدر) فجاء خيرا من ألف فيلم. .
لقد صودر هذا الفلم، كما صودر أخ له (يسقط الاستعمار) في العهد البائد المنقرض. ولم تكد تبزغ شمس هذا العهد الجديد، حتى قدر لهما أن يريا النور، ولكن طائفة من الناس تقدمت إلى المسؤولين تشكو فلم (ليلة القدر). والعجيب أن الفلم ليس فيه تبشير، ولو كان لما كان هناك ضير، مادام هذا التبشير لا يمس حرية العقائد في غبر المسلمين. وما جاء في الفلم يعتبر تحليلاً لبعض المعاني الإسلامية، وعلاجا للمشكلات الاجتماعية على ضوء الإسلام، ومكافحة لبعض الجهالات التي لازالت عالقة بأذهان الكثير من المسلمين!.
وأعجب من هذا أن ذوي الأقلام الضخمة الذين استولوا على الصحف الكبرى بوضع اليد، هؤلاء الذين يدعون أن أمل الوطن معقود بأسنة أقلامهم، وأن بناء النهضة الجديدة لن يشاد إلا على نغمات من صرير أقلامهم، لم يكتبوا حرفاً واحداً عن مأساة فيلم ليلة القدر.
محمد عبد الله السمان