الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1020/من هنا ومن هناك

مجلة الرسالة/العدد 1020/من هنا ومن هناك

بتاريخ: 19 - 01 - 1953


سفينة نوح بين العلم والسياسة

وصلت إلى تركيا مؤخرا بعثة من علماء الآثار الفرنسيين لمتابعة البحث عن (سفينة نوح) في منحدرات جبال (أراراط) في موقع يسمى (إكري داك) تغطيه الثلوج. ويبلغ ارتفاع هذا الجبل حوالي 1700 قدما. ويقع في القسم الشرقي من شمال تركيا.

وستقوم البعثة الفرنسية بجمع النماذج من العناصر التي تؤلف طبيعة الأرض هناك والمميزات (الطيوبوغرافية) الأخرى التي يتخذها علماء الآثار عادة معاول لتتميم المعلومات التي توفرها لهم كتب التاريخ القديم وحوادثه المدونة.

ويقع جبل أراراط صميم المنطقة التي وصفتها التوراة بأنها المكان الذي دفنت فيه زوجة نوع (عليه الصلاة والسلام) والبقعة التي زرع فيها سيدنا نوح أول كرم للعنب عندما انتهى به وبسفينته المطاف إلى ذلك الجزء من العالم كما تذكر التوراة ومفسروها.

ويضم متحف اسطنبول نماذج من صخور جبل أراراط حلل عناصرها بعض علماء طبقات الأرض وقالوا بأنها تؤيد النظرية القائلة بأن هذا الجبل كان في فترة من الأزمنة القديمة مغموراً بالماء إلا من قمته العليا التي أسعفت نوحاً (عليه الصلاة والسلام) في أن يرسي سفينته على منحدرها عندما دهم الطوفان العالم كما تشير إلى ذلك كتب التاريخ القديم والمصادر الدينية. ويدعي هؤلاء العلماء بأن نوحاً قد التجأ بسفينته ونماذجه البشرية والحيوانية إلى أعلى قمة الجبل ليبدأ من جديد في تنمية الأجيال للبهائم ولبني آدم.

وقد سبق أن قامت بعثات أجنبية أخرى للبحث عن سفينة نوح في منطقة جبل أراراط منها بعثة أمريكية أنفقت في عام 1949 وقتا وجهدا ومالا كثيرا دون أن تعثر على ما ترغب إثباته من حقائق تاريخية.

ويؤكد علماء الآثار استنادا إلى المصادر اليهودية والمسيحية بأن السفينة كانت في حجم هائل طولها ميل واحد وعرضها 750 قدما وعلوها 450 قدماً.

وجدير بالذكر أن تردد البعثات الأجنبية على جبال أراراط وتخومها القريبة من الحدود الروسية الجنوبية كان مثار احتجاج السلطات الروسية الشيوعية التي ادعت بأن الغرض من تكرار هذه الزيارات هو التقاط الإشعاعات الذرية التي تنبعث من محطات التجارب الذرية الروسية لتقدير مدى استعداد روسيا الذري. ويدعي الروس أن هذه البعثات الأجنبية ليست مكونة ممن علماء الآثار والتاريخ القديم فحسب، بل أنها تضم بعض خبراء الذرة العسكريين الذين يستعملون أجهزة خاصة تركب على أعالي جبال أراراط القريبة من الحدود الروسية فنلتقط أولا فأولا إشعاعات التجارب الذرية التي تنبعث من محطات التجارب ومصانع الإنتاج الذري الروسي المنشأ بعضها فيما وراء جبال الأورال الروسية في منطقة لا تبعد كثيراً عن الحدود التركية.

وقد نفت المصادر التركية والبعثات الأثرية هذا التفسير الروسي.

البعث الإسلامي في تركيا

كتب الأستاذ برنارد لويس أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة لندن ومؤلف كتاب (العرب في التاريخ) مقالا تحليلياً في مجلة (الشؤون الدولية) عن البعث الإسلامي في تركيا. وكان الأستاذ قد أنفق مؤخراً بضعة أشهر في تركيا يدرس عن كثب.

يقول الأستاذ لويس إن نجاح القومية (الطورانية) في تركيا إبان عهد أتاتورك لم يستطع أن تقضي على العناصر القوية في تركيا التي كانت ولا تزال متعلقة بفكرة القومية الإسلامية. ومما ساعد هذه العناصر الإسلامية على الاحتفاظ بقوتها الكامنة تأثرها بالأفكار التقدمية التي نشرها جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبدة والسيد أمير علي وغيرهم من قادة الفكر الإسلامي الحديث في الهند والشرق العربي.

وقد وجدت هذه العناصر الإسلامية التركية نفسها مقيدة في دعوتها إلى الوحدة الإسلامية في أوائل عهد أتاتورك بسبب انكماش الإمبراطورية العثمانية واقتصار سيادة الأتراك على الحدود الجغرافية الطبيعية لتركيا.

ويعتقد البرفسور لويس أن أتاتورك وجماعته في حملتهم على الإسلام وفصلهم بين الدين والدولة - هذه الحملة لم تكن في مثل النجاح الذي يطيب للحكومة التركية أن تنشره في الرأي العالمي. ففي عنفوان السيطرة الأتاتوركية كانت الدولة التركية تتسع سياسة (إسلامية) في المناصب الإدارية وفي الجيش (وكانت الحكومة التركية رغم صبغتها المدنية تتعمد أن تختار كبار المسؤولين في المراكز الوزارية والعسكرية من الأتراك المسلمين. وقد ازداد هذا الاتجاه في أواخر أيام أتاتورك عندما أقصيت عن المناصب الإدارية الهامة عناصر تركية غير إسلامية.

وكانت حكومة أتاتورك تعامل الأقلية المسيحية من الروم الأرثوذكس المستوطنة في الأناضول معاملة تختلف عن الأقلية العربية والكردية التي كانت تشارك الأتراك الطوررانيين في العقيدة الإسلامية وتشاركها مشاركة تامة في الحقوق والواجبات المدنية.

ولما توفي أتاتورك وزالت هيبته القاسية على الحياة الإسلامية في تركيا نشطت العناصر الإسلامية هناك نشاطا ملحوظا. ففي سنة 1940 اضطرت الحكومة التركية برئاسة عصمت أنونو أن تعيد إلى الجيش التركي نوعا من الحياة الدينية فسمحت لرجال الدين بأن ينضموا إلى الجيش في شكل أئمة ووعاظ على نحو ما كان متبعاً في أبان العهد العثماني.

وفي نفس الوقت شرعت وزارة المعارف التركية في ترجمة (دائرة المعارف الإسلامية) وزيادة موادها. وخصصت الوزارة لذلك مبلغا عظيما من المال كافأت به الكتاب والعلماء الأتراك الذين ساهموا في الترجمة والبحوث والدراسات الإسلامية التي أضيفت إلى الطبعة التركية من دائرة المعارف الإسلامية).

ولكن العناصر الإسلامية من حفظة الدين لم ترض عن عمل وزارة المعارف التركية وانتقدت مشروع ترجمة (دائرة المعارف) على أساس أن واضعي هذه الموسوعة هم من خصوم الإسلام الأجانب الذين لا يقصدون خدمة الإسلام وإنما يهدفون إلى تفسيره تفسيراً يتلاءم مع أهدافهم كمبشرين ومستشرقين أجانب يخدمون الاستعمار الأوربي في الشرق الإسلامي. ولم تكتف هذه العناصر الإسلامية بالنقد فحسب بل نشطت بزعامة الزعيم الديني (أشرف أديب) لوضع موسوعة إسلامية أسموها (الإنسكلوبيديا التركية الإسلامية).

وصاحب هذا النشاط للعناصر الإسلامية التركية اتجاه جديد في الحكومة التركية التي جاءت في أعقاب أتاتورك - اتجاه أزال كثيرا من معالم الديكتاتورية التي اتصف بها عهد أتاتورك. ومن ثم توفر للعناصر الإسلامية في تركيا فرصة ذهبية لمضاعفة حماسها في بعث الحياة افسلامية من جديد في البلاد التركية.

وفي سنة 1946 نجحت هذه العناصر في حمل البرلمان التركي على مناقشة مشروع التعليم الديني الإلزامي في المدارس الحكومية. وبعد مناقشة وجدل في البرلمان والصحافة والمحافل العامة والخاصة توصلت الحكومة التركية في سنة 1949 إلى سن مشروع يوفر لجميع المدارس حصتين في الأسبوع للتعليم الديني في أصول الإسلام وفقهه وتعاليمه. وترك الخيار لآباء الطلبة في حمل أبنائهم على المشاركة في هذه الحصص الدينية. ولكن الأكثرية الساحقة من الآباء تحمسوا لتربية أبنائهم تربية إسلامية. وعلى أثر ذلك شرعت وزارة المعارف التركية في تأليف الكتب الدينية لطلبة المدارس. وجدير بالذكر أن هذه الكتب وضعت في قالب جديد يختلف اختلافا بينا عن كتب التدريس الدينية المستعملة في مدارس الشعوب الإسلامية الأخرى.

ثم خطت الحكومة التركية في سنة 1950 خطوة جديدة فجعلت التعليم الديني في المدارس الحكومية والأهلية إلزامياً لا يتقيد بمشيئة الطلبة وآبائهم.

وكان من الطبيعي أن تخلق هذه المشروعات أزمة في المعلمين الدينيين؛ ولذلك أسرعت وزارة المعارف التركية بإنشاء معاهد خاصة لتخريج المعلمين الدينيين. وألحقت بالجامعات التركية أقساما خاصة بالتعليم الديني ولم تبخل بالمال على إنشاء المكاتب ونشر المطبوعات والكتب الدينية للعامة والخاصة. ثم سمحت باستعمال اللغة العربية في الأذان وأخذت تذيع القرآن الكريم من محطات الإذاعة أسوة ببقية الشعوب الإسلامية الأخرى.

وجدير بالذكر أن العناصر الإسلامية التقليدية في تركيا أخذت تساهم في الحياة السياسية مساهمة عملية. فناصرت هذه العناصر الحزب الوطني على الحزب الديمقراطي (حزب الحكومة). وذلك لأن الحزب المعارض كان يعد في برامجه الانتخابية بمشروعات واسعة للبعث الديني في البلاد التركية.

ويعتقد الأستاذ لويس أن موجة البعث الإسلامي في تركيا لم تؤثر في اتجاهات الشعب التركي نحو حلفاء الغرب ولم تؤثر بعد في سياسة تركيا الخارجية. فبينما تقف الصحافة في جانب العرب في قضية فلسطين تقف الحكومة التركية في جانب إسرائيل. وسبب ذلك أن زعماء الحركة الدينية في تركيا جماعة تنتمي إلى العهد القديم المحافظ الذي لا يرضى عن الشيوعية السوفيتية ومطامعها في البحر الأسود والقطاعات التركية المجاورة لروسيا.

ولما كانت الحكومة التركية تبني سياستها نحو الغرب ونحو إسرائيل على أساس الخوف من التوسع الروسي، فان العناصر الإسلامية في تركية لم تعد تستطيع أن نثبت وجودها بتغيير سياسة تركيا نحو إسرائيل كما فعلت العناصر الإسلامية في إيران بزعامة آية الله كاشاني.

ولكن برغم هذه التيارات السياسية التي تحد من نشاط العناصر الإسلامية في تركيا، وبغم عشرات السنوات من السيطرة الأتاتوركية والحد من نشاط الإسلام في الحياة التركية فان الأستاذ لويس يعتقد بأن جذور الإسلام في تركيا أثبتت بأنها راسخة متمكنة لم تزعزعها الرياح والزوابع.

ولا يستغرب الأستاذ لويس أن يتطور هذا الاتجاه الإسلامي في تركيا إلى وسيلة توافق بين مبادئ الدولة الحديثة وبين تعاليم الإسلام على نحو التجربة الهامة التي تجري الآن في باكستان.