الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 102/لوكريسيا بورجيا

مجلة الرسالة/العدد 102/لوكريسيا بورجيا

بتاريخ: 17 - 06 - 1935


صور من عصر الأحياء

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كانت لوكريسيا إلى جانب هذه الرعاية الأدبية التي تبذلها لأقطاب الشعر والأدب، تعاون زوجها في حكم ولايته معاونة قيمة؛ وكانت تتولى إدارة الشؤون العامة أثناء غيابه، وتبدي في تصريفها حزماً وبراعة

وكان زواجاً موفقاً في البنين، فقد رزقت لوكريسيا بغلامين أحدهما في سنة 1508 ويدعى هرقل، والثاني في العام التالي ويدعى ايبوليت، ورزقت بعد ذلك بعدة أعوام بابنة دعيت ألينور، فغلام ثالث يدعى فرنشيكسو

وخاضت إيطاليا مدى حين حروباً أهلية طاحنة، وحملت فيرارا قسطها من هذه المعارك، وتقلبت في صعاب وأزمات شديدة، ولكن لوكريسيا كانت في هذه الأعوام العصيبة مثال الثبات والجلد، وكانت تعمل على تخفيف آلام الشعب ما استطاعت، وكان الشعب يحبها ويعتبرها كالأم الرؤوم

وكانت لوكريسيا عندئذ في عقدها الرابع، أماً ناضجة، وكأنما طوت كل مراحل هذه الحياة فتية، وكانت قد اختتمت منذ بعيد هذا العهد الضاحك الذي كان قلبها يشع فيه مرحاً وغبطة، واستقبلت عهداً جديداً تسوده الرزانة والخطورة، ويسوده الزهد والترفع عن متاع هذه الحياة، فكانت في أعوامها الأخيرة في فيرارا تذهب كل صباح إلى (المعترف)

أجل، كانت لوكريسيا تقترب بسرعة من الخاتمة المحتومة، ففي 14 يونيه سنة 1519 وضعت لوكريسيا طفلة ميتة، وكانت في اشهر حملها الأخيرة تشكو آلاماً مبرحة؛ وكان الوضع هو الضربة القاضية، إذ اشتدت الآلام والمرض، وشعرت بقضائها يدنو؛ فأملت في يوم 22 يونيه خطاباً وجهته إلى البابا ليون العاشر، وفيه تلتمس من البابا أن يباركها في عبارات بليغة مؤثرة؛ وبعد ذلك بيومين فقط، كان القضاء المحتوم، وصعدت إلى بارئها تلك الروح الوثابة الساطعة، وأغلقت لوكريسيا بورجيا عينيها الساحرتين إلى الأبد، وقد أشرفت فقط على الأربعين من عمرها

هكذا كانت حياة تلك التي أثارت في عصرها بشخصيتها الساحرة وحياتها الساطعة كثيراً من الحب والعطف، والنقمة والروع؛ ثم غدت سيرتها بعد ذلك على كل العصور مستقى لكثير من القصص الشائق المثير معاً

والآن، وقد فرغنا من تتبع هذه الحياة في أدوارها المختلفة، نعود فنحاول أن نتلمس فيها مواطن الحقيقة والخيال

هل كانت لوكريسيا بورجيا تلك التي تصفها الرواية المعاصرة شيطاناً للرذيلة والإثم؟ وهل كانت تلك البغي السافلة التي تتقلب بين اذرع أبيها وأخويها؟ أم هل كانت ضحية اتهام شائن تمليه الخصومة والحقد؟

إن هذه التهم الشائنة التي تنسبها الرواية والقصة إلى لوكريسيا بورجيا، والتي أشرنا أليها فيما تقدم ترجع إلى الروايات المعاصرة ذاتها، وهذا ما يسبغ عليها مسحة من القوة؛ وقد رأينا كيف أن بور كارت مدير التشريفات البابوية يثبتها في مذكراته كوقائع حقيقية، وقد كان بور كارت بمركزه واتصاله المستمر باسكندر السادس وأفراد أسرته، ممن يستطيعون الوقوف على الحقائق من مصادرها

وقد حذا حذو بور كارت عدة من المؤرخين والرواة المعاصرين مثل جويشارديني المؤرخ والسياسي البارع، وقد كان من أعلام العصر؛ فهو يردد في كتابه (تاريخ إيطاليا) معظم التهم والآثام التي نسبت إلى لوكريسيا وإلى إلهها

ومن أدلة الاتهام المعاصر أيضاً وثيقة خطيرة، هي خطاب كتب في سنة 1501، ووجهه كاتبه إلى سيلفيو سافيللي، وهو أحد النبلاء الإقطاعيين الذين نزع اسكندر السادس أملاكهم؛ وكان ذلك الحين يقيم في بلاط إمبراطور ألمانيا مستجيراً به؛ ولم يعرف كاتب الخطاب، ولكن ذكر في ختامه أنه حرر في تار انتو في المعسكر الملكي (الإسباني)

وفي هذا الخطاب يعدد الكاتب آثام اسكندر السادس وآل بورجيا، ويتحدث عن أطماعهم وجرائمهم السياسية والاجتماعية، وعما يرتكبونه من صنوف العيث والفجور والهتك، وعن انتهاكهم لكل الحرمات الدينية والاجتماعية وسحقهم لكل مبادئ الحياة والحشمة؛ ويتحدث بنوع خاص عن شيزاري بورجيا وجرائمه الدموية، وعن لوكريسيا وعلائقها الأثيمة مع أبيها أخويها، وعن الحفلات الخليعة الشائنة التي يقيمها البابا وأبناؤه، ويخص بالذكر حادثة الليلة العارية التي اجتمع فيها خمسون من غانيات رومة عراة أمام البابا وأولاده وارتكب فيها من صنوف الفحش المثير ما ارتكب وما أشرنا إليه فيما تقدم؛ ويتحدث بوجه عام عن حالة المجتمع الروماني في ذلك الحين وما بثه إليه آل بورجيا من صنوف الفساد والآثم والروع؛ كل ذلك في إفاضة ومنطق قوي يدل على تمكن الكاتب من الشؤون التي يتناولها

وقد ترجم هذا الخطاب الذي يعرف بخطاب (سافيللي) إلى معظم اللغات الأوربية ونشر في سنة 1502 في جميع العواصم، وكان له وقع هائل في إيطاليا، وفي أوربا كلها؛ وسجلته أيضا جميع التواريخ والروايات المعاصرة

ويرى المؤرخ الألماني جريجوروفيوس في كتابه (تاريخ رومة في العصور الوسطى) في هذا الخطاب وثيقة حقيقية تمثل صورة رومة في عصر آل بورجيا، وأنه لا تفضلها وثيقة أخرى في تصوير سياستهم الفاجرة، وما بثوه من الروع في المدينة على يد أعوانهم وجواسيسهم

وترى هذه التهم ماثلة لا في الروايات المعاصرة فقط، ولكن في كثير من الكتب والرسائل السياسية المعاصرة، وفي شعر بعض أكابر الشعراء المعاصرين

ومازالت سيرة آل بورجيا، وسيرة لوكريسيا، بما يتخللها من تلك الصور المروعة المثيرة، حتى العصر الحديث مستقى القصص والشعر؛ وقلما يخترع القصص أو الشعر فيها شيئاً لم تدونه الروايات المعاصرة؛ ومع ذلك فإن هذه القطع القصصية أو الشعرية تقوم على كثير من الوقائع الغرقة أو الخيالية المحضة التي لا يستطيع المؤرخ أن يقف بها مثال ذلك ما كتبه اسكندر ديما عن (آل بورجيا) في كتابه (الجرائم الشهيرة)، فقد تناول سيرة آل بورجيا ولوكريسيا في فصل طويل فياض بالوقائع والصور المدهشة، وقدم لنا اسكندر السادس، وابنه شيزارى، وابنته لوكريسيا في أروع الصور وأسفلها: طغمة من الأبالسة، تسحق الحياة البشرية تحت أقدامها، وتبث الدمار والموت في أرجاء المدينة الخالدة، بالسم والخنجر وكل وسيلة آثمة؛ وقدم ألينا لوكريسيا في صورة بغي سافلة، تعاشر آباها وأخويها، وجمعاً كبيراً من الصحب والخلان

ووضع فكتور هو جر قطعته المسرحية الخالدة (لوكريسيا بورجيا) فجاءت خلاصة من تلك الروايات المغرقة المعاصرة، ولا بأس من أن نقدم خلاصتها ليرى القارئ كيف أن الشاعر لم يلحظ في مادته إلا أن تكون مثار السحر والروع: هي قطعة نثرية في ثلاثة فصول، خلاصتها أن عدة سفراء فتيان من فلورنس شهدوا في مدينة البندقية (فينزيا) مرقصاً محجباً، كانت تمثل فيه لوكريسيا بورجيا محجبة؛ وكان معهم فتى يدعى جنارو، وهو فتى مجهول النشأة لا يعرف له أماً ولا أباً. وجلس الفتية الفلرنسيون يتحدثون عن آل بورجيا ويرددون ما يذاع عنهم من قصص القتل والأثام الشنيعة؛ وجلس جنارو إلى جانبهم وقد أخذته سنة من النوم؛ وبعد هنيهة قدمت امرأة محجبة، وهوت على جنارو تقبله فاستيقظ من نومه. من هي؟ هي لوكريسيا، وهي أمه، وهو ولدها الطبيعي؛ ولم تستطع حين رؤيته أن تقاوم هذه اللذة. ورفعت لوكريسيا قناعها خلسة؛ ولكن الفتية الفلرنسيين رأوها وعرفوها، وظنوها خليلته، واعتزموا زيارتها معه في فيرارا مقامها. وظن زوجها (دوق فيرارا) أن جنارو صاحبها، فأمر بالقبض عليه، وأراد أن يرغم لوكريسيا على إعدامه بيديها بحجة أنه أهان اسم آل بورجيا وذلك بإزالة بعض حروفه المنقوشة على شرفة القصر؛ ونفذ الدوق مشروعه فعلاً، فأرغم لوكريسيا على أن تضع السم في كأس جنارو، وان تقدمه أليه. ولما شرب الفتى الكأس المسمومة، تركهما الدوق؛ فبادرت لوكريسيا إلى إنقاذ جنارو، وقدمت له الترياق؛ فتردد الفتى لأنه كان يعتبرها اشد أجراما من الدوق، ولكنه شرب الترياق أخيرا ونجا من الموت أرادت لوكريسيا أن تنتقم من الفتيان الفلرنسيين الذين عرفوها وأذاعوا اسمها، فاحتالت لدعوتهم إلى العشاء عند إحدى صاحباتها، وبينما هم في ارق لحظات المرح، إذا بهم يسمعون أناشيد الحزن، ومن ورائهم صف من الرهبان والنعوش، فاعتقد الفتيان أنها مزحة مدبرة، ولكنها كانت الحقيقة الرائعة؛ ذلك أنهم تناولوا السم في الطعام والشراب، ولم يبق بينهم وبين الموت سوى لحظات، ولكن شاء نكد الطالع أن يكون بينهم جنارو! فتقدم إلى لوكريسيا يطلب نعشه؛ فذهلت لوكريسيا، وحاولت أن تبادر إلى إنقاذه، ولكنه لم يقبل، ولم يمهلها حتى اخرج خنجره، وما كاد يطعنها حتى صاحت: (إني أمك!)

هذه هي خلاصة قطعة هوجر المسرحية الخالدة التي مازالت منذ قرن تسحر ملايين النظارة، وهي كما ترى قطعة من الخيال المغرق لم يراع الشاعر فيها شيئاً من التاريخ الحق

ومع ذلك فإن ما كتبه اسكندر ديما وهو جر إنما هو أنموذج فقط لمئات السير والقصص التي كتبت عن لوكريسيا بمختلف اللغات، وكلها نماذج للخيال المغرق والقصص المثيرة

بيد أننا نرى في عصرنا مؤرخاً بارعاً هو العلامة الفرنسي فرانز فونك برنتانو، يحاول في كتابه الذي أشرنا إليه من قبل اكثر من مرة أن ينتزع شخصية لوكريسيا بورجيا من تلك الغمر المروعة التي أحاطت بسيرتها، وان يمحص تلك الروايات المغرقة التي امتزجت بحياتها، وان يرد كثيراً من التهم التي نسبت إليها

وفي رأي هذا المؤرخ البارع، الذي يدعم عرضه في معظم الأحيان بمنطق خلاب، أن التاريخ قد ظلم لوكريسيا أشنع ظلم، وان هذه الفتاة التي صورتها الروايات المعاصرة بغياً فاجرة، لم تكن سوى ضحية وأداة ذلول في يد أبيها وأخيها، وأنها كانت تدفع دفعاً إلى مشاطرة هذه الحياة المثيرة التي كانت تنتظم في قصر الفاتيكان، ولكنه يرد عنها تهم الفجور الشنيعة التي نسبت إليها؛ ولاسيما تهمة عشرة أبيها وأخيها، ويرتاب في أقوال بور كارت وغيره من الرواة المعاصرين، ويرى أن هذه التهم ترجع في الأصل إلى الحملة القاذفة التي شهرها جان سفورزا زوج لوكريسيا الأول عليها انتقاماً لفصله منها، والى الحملات القاذفة التي دبرت أيضا ضدها وضد آلها في بلاط نابل على اثر مقتل زوجها الثاني الفونسو الأرجوني، وهي حملات ظهر أثرها في نظم الشعراء المعاصرين الذين يغذيهم بلاط نابل

ويصور لنا برنتانو لوكريسيا فتاة ناعمة وافرة السحر والرقة، وافرة الذكاء والحزم، ويصورها لنا في فيرارا أميرة رفيعة الخلال تحمي الأدب والفنون، ويكاد يصورها لنا في أعوامها الأخيرة قديسة فياضة الورع والتقوى

وكتاب برنتانو قطعة بديعة من التدليل التاريخي، وقد يدفع بدقة منطقه كثيراً من التهم التي نسبت إلى ابنة اسكندر السادس؛ ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يهدم كثيراً من العناصر الأساسية التي تمثل في هذا الاتهام

ومع إننا بالرغم من محاولة برنتانو البديعة، مازلنا نؤثر ناحية الاتهام في سيرة لوكريسيا بورجيا، فأنا نميل مع برنتانو إلى الاعتقاد بأن كثيراً من الإغراق والمبالغة يشوب تلك الصور المروعة الآثمة التي تركتها لنا سير العصر، عن تلك الشخصية الباهرة المظلمة معاً (تم البحث)

محمد عبد الله عنان المحامي