الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 102/فريزر ودراسة الخرافة

مجلة الرسالة/العدد 102/فريزر ودراسة الخرافة

بتاريخ: 17 - 06 - 1935


للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

خطت الدراسات الاجتماعية في الخمسين سنة الأخيرة خطوات فسيحة: فاتسعت سبلها، وتعددت فروعها، وتشعبت مناحيها، واستطاعت أن تثبت أن لها - كسائر العلوم - موضوعاً محدداً، وطرقاً معينة، ومبادئ ثابتة، ولا تكاد توجد مادة برهنت على خصبها برهان هذه المادة؛ كما لا يكاد يوجد علماء خلقوا فناً بأسره في مدى قصير مثل علماء الاجتماع المحدثين. فإن جملة ما كتبه أفلاطون وأرسطو في العصور القديمة، وما دونه المؤرخون وعلماء الجغرافية في القرون الوسطى لا يصح أن يسمى اجتماعاً بالمعنى الصحيح، ولا يحوي أراء علمية ناضجة. ولا ننكر أن عصر النهضة القي شعاعاً من الضوء على العلوم الاجتماعية ولفت الباحثين إلى فلسفة التاريخ ومقارنة الشعوب بعضها ببعض، وقد بدا أثره الواضح في القرن الثامن عشر إذ ظهرت مؤلفات مونتيسكييه وفولتير وروسو. ثم جاءت الثورة الفرنسية التي قلبت النظم المألوفة رأسا على عقب واستبدلت بأساليب الحكم والسياسة العتيقة طرقاً مستحدثة، أنتجت بهذا ثورة أخرى في الأفكار والآراء الاجتماعية كان من أبطالها سان سيمون وأوجست كونت. بيد أن تكوين علم الاجتماع في شكله الحاضر يرجع إلى أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فمدرسة ميل وسبنسر في إنجلترة، وفونت وفجنر في ألمانيا، ودركيم وليفي بريل في فرنسا، وأعمال السائحين والرحالة من إنجليز وأمريكان وألمان أضافت إلى هذا العلم ثروة طائلة، بل خلقته من عدم

لم تقنع هذه المدارس بطريقة واحدة، ولم تقف في بحثها عن حد. فلجا

بعضها إلى تاريخ يشرح به ما غمض من أعمال الجمعية وأقوالها،

واحساساتها، وعقائدها. واتخذ بعضهم من الإحصاء والتعداد وسيلة

لتوضيح الظواهر الاجتماعية واستنتاج القوانين المسيطرة عليها. وأبت

طائفة إلا أن تصعد بالاجتماع إلى مستوى العلوم الواقعية فبنته على

المشاهدة والملاحظات الدقيقة. لذلك عمدت إلى دراسة الشعوب الهمج المعاصرة وتتبع عوائدها وتقاليدها، وتوصلت من ذلك إلى نتائج سارة

وشيقة للغاية. ومن أهم من عنوا بهذه الطريقة اجتماعيان إنجليزيان

معاصران، وهما فريزر وتيلور اللذان كتبا في خصائص الشعوب

مجموعة أبحاث قيمة

يضيق بنا المقام من أن نترجم ترجمة كاملة لفريزر تلميذ جامعة جلسجو، وأستاذ الاجتماع في ليفربول وكمبرج، وأحد رجال القانون والمحاماة في لندن. نشأ هذا العالم متشبعاً - ككل اتباع ميل وسبنسر - بفكرة أن الظواهر الاجتماعية خاضعة لقوانين ثابتة، وزاد على أساتذته أن هذه القوانين ممكنة الصوغ والتحديد إذا درست خصائص الشعوب المختلفة، ولاسيما الهمجي منها. فعلى ضوء هذه الدراسة الموازنة يمكننا أن نبين الأدوار المتتالية التي مرت بها فكرة من أفكار الجمعية، وان نقف على منشأ هذه الفكرة وكيفية تطورها. وقد تخصص فريزر في هذا النوع من البحث، وتناوله من نواح شتى في أسلوب جذاب، وعبارة عذبة، وخيال رائع، ومادة غزيرة تشهد بإطلاع واسع وعمق كبير، لهذا يعد اليوم - في حق - من اكبر العلماء المبرزين في خصائص الشعوب ويدور بحثه بوجه خاص حول الديانات في رسومها وطقوسها لدى الشعوب القديمة والحديثة؛ وله في ذلك مؤلفات عديدة أهمها: التوتيمسم والغصن الذهبي ذلك الكتاب العظيم الذي ترجم كله أو أجزاء منه إلى الألمانية والفرنسية والإيطالية. وغني عن البيان أن أبحاثا كهذه تتصل اتصالاً وثيقاً بالخرافة التي لبست ثوب الدين في كثير من الجمعيات الإنسانية.

نستطيع أن نقول - دون أن نخشى أية معارضة - إن فريزر أضحى أستاذاً غير منازع في موضوع الخرافة، درسه في رغبة أكيدة فأجاد درسه، وقلبه على وجوهه العديدة فلم يدع مجالاً لمن جاء بعده. لم يعن بالخرافات المشهورة فحسب، بل تعداها إلى خرافات ثانوية مقصورة على بعض الشعوب؛ فهو إلى جانب دراسته للسحر والشعوذة وصكوك الغفران وما أشبهها، يعرض لبعض الأعمال الخرافية المتصلة بالطعام والشراب. وبالجملة ليس ثمت كتاب من كتبه إلا وفيه تحليل لخرافة من الخرافات وشرح لسلطانها على المجتمع. ولئن كان قد أعلن أعلانا كافياً عن مضار الخرافة وسيئاتها، فهو لم ينس نفعها وحسناتها؛ ولا ريب في أنه أول اجتماعي أبان في وضوح اثر الخرافة الصالح في الجمعيات الإنسانية. وقد وضع في هذا - فضلاً عن أبحاث جزئية مختلفة - كتاباً مستقلاً سماه: محامي الشيطان. ' ولهذا الكتاب من اسمه نصيب كبير؛ فإن مؤلفه يبدو فيه المحامي الدرة الذي يدافع عن الخرافة دفاع الأبطال، ويبين مالها من يد في تكوين بعض الأسس الاجتماعية. فرجل الدفاع في محاكم لندن يزج بنفسه في محكمة الآراء والنظريات لينصر فكرة اجمع الناس على شرها وذاقوا منها الأمرين، مهمة شاقة، وموقف دقيق للغاية، وكيف لا وفريزر يشذ عن الرأي السائد، ويخرج عن المألوف المسلم به. غير أنه قد وفق إلى حد كبير فيما حاوله، ونهض بالخرافة من كبوتها، واثبت ما فيها من نواحي الخير. وما ابلغه حين يقول: (نحن مدفوعون إلى اعتبار الخرافة خطأ في ذاتها، وشراً لا خير فيه، وضرراً محقق النتائج. وفي الحق أنها اصل كثير من الآم هذا العالم، فقد بددت ذخائر هائلة، وضحت بأرواح لا حصر لها، أثارت حروباً شعواء، أوقعت الشحناء بين الأصدقاء، وفرقت بين المرء وزوجه، والأب وابنه، مقطعة علاقتهم بحراب حادة، أو بما هو اضر منها، وملأت السجون بالأبرياء، والمستوصفان والملاجئ بالعجزة والمعتوهين، وسحقت قلوباً عديدة، وبلبلت نفوساً مطمئنة. ولما لم تقنع بإيذاء الأحياء جاوزتهم إلى الأموات، فهتكت سترهم، ونبشت قبورهم، وأوقعت بهم من العذاب والنكال ما أدمى قلوب الأبناء والأعقاب؛ صنعت الخرافة كل ذلك واكثر منه، بيد أن في مقدورنا أن نقدمها في صورة أليق، وتحت ضوء انسب. لا ندعي إنا أهل للدفاع عن هذا (الشيطان)، والظهور أمام هذا اللهيب الأزرق والغاز الخانق، وإنما نحاول فقط أن نكون ما يصح أن يسميه الرجال السمحاء دفاعاً مقبولاً عن اكبر الخصوم شبهة، على ترجيح هذه القضية. قامت طائفة من الأنظمة الاجتماعية الصالحة باعتراف الجميع أو اغلب الناس على أساس من الخرافة لدى بعض الشعوب وفي بعض مراحل التاريخ)

تخير فريزر بين هذه الأنظمة أربعة من أهمها، وهي الحكومة، والملكية الشخصية، والزواج، واحترام الحياة الإنسانية وبذل غاية الجهد في إثبات أن الخرافة ساعدت على تكوينها ودعمها مستعيناً في كل ذلك بالواقع والتاريخ. فلاحظ في دقة أن مهمة الحكومة ذللت لدى كثير من القبائل الهمجية المعاصرة بسبب الرأي القائل إن الحكام ينتسبون إلى طبقات سامية، وينعمون بسلطان سحري خارق للعادة؛ وأذ كانوا كذلك وجب على المحكومين أن يخضعوا لهم دون إبداء آية ملاحظة. فلدى سكان جزائر السود في أفريقية يزعم الناس أن الرؤساء قوى غير طبيعية استمدها من الملائكة والجن المتصلة بهم اتصالاً وثيقاً. وفي هذا سر نفوذهم؛ فمتى ضعفت هذه العقيدة فقد الرئيس كثيراً من سلطانه. ويعتقدون كذلك أن الحاكم أو الوالي يستمر بعد موته في سهره على رعاياه، ويعاقب بالجدب والغرق والصواعق إن أخطئوا ولم يقدموا القرابين لجدثه. ويعتبر الرؤساء السياسيون في زيلندة الجديدة كآلهة أحياء مقدسة في مختلف أجزائها بحيث لا يستطيع أحد الاعتداء عليها، وإذا قدر لمحارب أن يقتل أحد هؤلاء الرؤساء، سارع إلى عينيه فاقتلعهما وابتلعهما ليأمن شر ما يحيط به من أرواح خفية، ذلك لأنه يظن أن هذه القوى تسكن هذين العضوين ويقول بعض الأمراء الزيلندين. . (لتظن أنى رجل وأني من هذا العالم الأرضي، كلا فأنى نزلت من السماء حيث يسكن آبائي الآلهة، وسأعود إليهم يوماً). ويروون إنه بينما زيلندية تتذوق خوخة جميلة انتزعتها من سلة تحملها، علمت إنها نبتت في مكان مقدس، فاسقط في يديها وصاحت بالويل والثبور وأنها لابد هالكة لغضب الآلهة عليها وحكام ذلك المكان المقدس؛ وما اصبح الصباح إلا وقبضت روحها. ويعتقد سكان أفريقية الغربية أن حياتهم وأموالهم ملك لأمرائهم يتصرفون فيها كما يشاءون. وفي مقدور هؤلاء الأمراء أن يكسفوا الشمس ويخسفوا القمر وينزلوا المطر من السماء، لذلك يلجأ الأهلون إليهم إن ضاقت بهم الحال أو أقفرت عليهم الأرض

لم يقف أمر هذه العقائد الخرافية عند القبائل البدوية الموجودة في أفريقيا وأستراليا وأمريكا، فقد اعتنقها من قبل الشعوب المتحضرة القديمة. فقدماء المصريين كانوا يقدسون ملوكهم ويصعدون بهم إلى اصل سماوي، وإذا نقصت حاصلاتهم أرجعوا ذلك إلى غضب المليك عليهم. وفي قوانين مانو الهندية كتبت العبارة الآتية (إن الملك بفضل سره الخارق للعادة، نار وهواء، وشمس وقمر). وكان اليونان في عهد هومير يعدون ملوكهم ورؤساءهم آلهة أو كالآلهة. وما لنا نذهب بعيداً وفي التاريخ الحديث ما يؤيد بعض هذه الخرافات؟ فقد كان عامة الإنجليز يستشفون بملوكهم إلى عهد قريب، فإذا لمس الملك مريضهم برئ لساعته، واستمرت هذه الخرافة إلى أخريات القرن الثامن عشر إذ كان يعالج روبير الصالح، وإدوارد المعترف، بعض المرضى بهذه الطريقة. ونرى في فرنسا شيئاً من ذلك في فجر الثورة وبعدها بعشرات السنين، فإن لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر وشارل العاشر لمسوا آلاف المرضى لشفائهم. هذه الأمثلة القليلة تكفي للبرهنة على أن عدداً من القبائل والشعوب نظروا إلى قادتهم ورؤسائهم وملوكهم نظرهم إلى موجودات ممتازة مزودة بقوى عظيمة ترغم الرعية على اتباعهم والتعلق بأهدابهم، وإذا فقد ساعدت الخرافة، في بعض الشعوب وفي بعض الأزمنة، على احترام الحكومة وخاصة الاستبدادية؛ وفي هذا ما أعان على تثبيت دعائم النظام الجمعي بوجه عام

يتبع

إبراهيم بيومي مدكور دكتور في الآداب والفلسفة