الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 102/صيف الأديب

مجلة الرسالة/العدد 102/صيف الأديب

بتاريخ: 17 - 06 - 1935


زفرت جهنم زفرتها السنوية كما تزعم الأساطير، فعقدت على وجهي (الوادي) غشاء من سموم ودخن؛ فالطبيعة في غلافها الناري مكبوتة، والأرض من حماها الصلب مسبوتة، والناس من إلحاح القيظ متبلدون هامدون يقابلون لفحه بجلد المضطر، ويعالجون برحه بصبر الشهيد! ولكن الجلد ينماع فهو عرق يقطر والصبر يرفض فهو بخار يتصاعد، وبين هذا التقطير وذلك التصعيد نفس تذوب، وجسم يذبل، وعزم يسرق، وفكر يضمحل؛ فليت شعري ماذا عسى أن يعمل من اضطر إلى أن يعمل؟ هذا مكتب الأديب الصحفي يشع الوهج كأتون الفرن، وينفث الضيق كحجرة السجن، ويبعث القلق كغرفة الانتظار؛ وهو مع ذلك مقضي عليه أن يفكر ويعبر، ويرتب ويهذب، ويقابل ويجادل، حتى يهن عصبه، وينقطع سببه، فيعود إلى منزله المعلق في الجو الأغبر على زحمة الشارع وضوضاء العامة، يطلب الهدوء فلا يجده، ويلتمس النوم فلا يناله!

ليس له وا أسفاه قصر يبسم بالنعيم، وينسم بالعطر، ويشرق بالجمال،

ويموج بالزهر، وتطري بالماء، ويتمطى في الظل، ويتبسط بالسعة،

ويسجوا بالخفض، ويغرق في السكون، ويضرب حواليه نطاقاً سحرياً

من الأحلام واللذة، فيعود به من وقدة الجو، ويلوذ به من مشقة العمل

وليس له وا أسفاه يعبر عليه ثبج البحر، ويرد به مدن الماء، ويبلغ فوقه قرى الجبل، فيسرى عن نفسه بعض عناء العام وبلاء الأيام بما يرى من مفاتن الطبيعة على الربى، ومجالي الفردوس فوق السهول، ومباهج المدنية على الشواطئ

وليس له وا أسفاه ما للأديب الموظف من المؤتمرات العلمية، والسياحات التعليمية، يغشاه في منازه أوربا، أو خمائل لبنان، فينال من زهرة الدنيا ومتعة العيش على حساب الدولة وعلى حب العلم

الطالب يعود في العطلة إلى الريف، والموظف الصغير يذهب في الإجازة إلى المصيف، والموظف الكبير يجد من مرتبه فضلاً يشتري به السياحة والراحة والبهجة، والموظف الأكبر يجثم نفسه الكبرى (خدمة) للحكومة في (الخارج)، فيؤديها على أتمها نائماً فوق صدور الأماني، حالماً على هدهدة الأغاني، هائماً وراء الخدمة المنشودة في أودية الشعر والسحر، ثم لا يكلف الخزينة العامرة إلا بضع مئات لمكافأته، وبضع كلمات لشكره؛ والكبراء الذين يعيشون علينا، ولا ينتسبون ألينا، يجمعون دم الفلاح الغالي في حقاق من ذهب، ويلفون لحمه اللذيذ في حقائب من حرير، ثم يرحلون بها إلى أسواق إبليس، في (مونت كار لو) و (نيس)، فيشترون بهما أبهة أشهر، وعربدة أسابيع، ومخازي عمر!

إذن لا يبقى لسعير الصيف إلا الطبقة التي تنسج لهؤلاء جميعاً برد السعادة: طبقة العمل التي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يجدي على أهله إلا قوت يوم بيوم: طبقة الموظف الأصغر، والصانع المستذل، والعامل المستغل، والفلاح المهمل، والتاجر المدين، والأديب المسكين، فهم يعملون في عطلة الناس - أجرهم على الله - حتى لا تسكن الدنيا، وحتى لا يقف الفلك!!

أنشأت الأمة مصا يف لأطفال الفقراء، واعدت الدولة قطار (البحر) وقطار (النزهة) لأنصاف الأغنياء، فماذا أنشأت الأمة أو أعدت الدولة لمساكين الأدباء؟ أليسوا رسل الحق والخير والجمال والمعرفة إلى من زهتهم السطوة فلجوا في الباطل، أعمتهم الشهوة فتدفقوا في الشر، ولوثهم الطمع فطمأنوا إلى القبح، وركبهم الغرور فجنحوا للجهالة؟ أليسوا أحرياء بأن تقيم لهم الحكومة (جبل البرناس) على بقعة من ضفاف النيل، أو على رقعة من شواطئ البحر، يستجمون عليه من الإعياء، ويتصلون فيه بالسماء، وينشدون الأمة من روائع الوحي اجمل مما أنشدته (الموز) التسع الهات الأدب والفنون، على قيثارة إله الشعر والبلاغة أبولون. . . ولكن رويدك يا أشعب!! إن الحكومة التي لا تشترك في مجلة الصحفي إلا بعد طلب ورجاء، ولا تشتري نسخة من كتاب الأديب إلا بعد اخذ وعطاء، يشق عليها أن تقيم (جبل البرناس)، على مثل هذا الأساس! على أن الخيال عالم والحقيقة عالم أخر، والأديب حريص على أن لا يسبح في عالمه غيره، فلماذا يمد عينيه الرغيبتين إلى عالم الناس؟

إن في ليلي القاهرة الساحرة الرخية لرضى للنفس الشاعرة: سماء كصفحة الأمل المشرق تتألق بالأنوار، وفضاء كغيب الله يموج بالأفكار والأسرار، ونسيم كأجنحة الأملاك يذهب عن الأجسام رهق النهار، وجنات الجزيرة، وخلوات الجيزة، ومسرات الجسر، ومسارح النيل، تخلق في الذهن الخصيب والشعور الفتان، مالا تخلقه جنات سويسرا ولا رياض لبنان!

أحمد حسن الزيات