الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1019/بلزاك

مجلة الرسالة/العدد 1019/بلزاك

بتاريخ: 12 - 01 - 1953


للكاتب الكبير ستيفان زفايج

للأستاذ علي كامل

(يعتبر ستيفان زفايج من اعظم كتاب التراجم المعاصرين كما أنه في مقدمة كتاب القصة. وكتابه عن القصصي الفرنسي الخالد أونوريه دو بلزاك من أحسن ما كتب عن الأديب الكبير. ولقد كان كتاب (البرازيل أرض المستقبل) هو آخر كتاب أصدره زفايج في حياته. وقد وضعه بعد رحيله إلى البرازيل عام 1940 هرباً من الطغيان النازي. أما كتابه عن بلزاك فقد مات زفايج منتحراًن كما هو معروف، قبل أن يتمكن من نشره وكان قد أعد محتوياته. فلم تكد تضع الحرب أوزارها حتى سعى ناشره إلى الحصول على أصوله وتوصل إليها ونظم أبوابها بعد جهد مضن ثم أصدر الكتاب منذ عهد قريب وكان بذلك آخر كتاب ظهر لزفايج في عالم الأدب)

كانت والدة بلزاك تصغر أباه باثنين وثلاثين عاماً، ولم يكن زواجها منه عن حب، بل كان نتيجة إرغام من جانب أسرتها التي رأت في مركز برنار فرانسوا بلزاك ما يشجع على قبول هذا الزواج. كانت عصبية المزاج حادة الطبع تسئ معاملة أبنها أونوريه. ولم ينس أونوريه، حتى بعد أن شب عن الطوق وأصبح رجلاً وكاتباً تطبق شهرته الآفاق، إساءات والدته إليه. فقد كتب في أحد خطاباته إلى آخر عشيقاته وزوجته فيما بعد مدام دوهانسكا يقول: (آه لو عرفت أي نوع من النساء والدتي. إنها الرعب والهول مجتمعين. إنها الآن في سبيل القضاء على شقيقتي بعد أن قضت على جدتي. إنها تكرهني، تكرهني حتى قبل مولدي. إن والدتي هي سبب كل ما حل بي من مآسي الحياة)

ولقد كانت هذه الحياة العائلية الشاذة سبباً في أن يكرر بلزاك في كثير من المناسبات بأنه (قاسى افظع طفولة رآها إنسان على الأرض). ولاشك إن هذه الطفولة المعذبة قد اشتركت في توجيه مستقبل حياته فيما بعد.

لم يكن بلزاك في حياته المدرسية مجداً. وكان كثيراً ما يشرد بفكره أثناء الدرس، مبدياً عدم الاهتمام بما يلقيه أساتذته من الدروس. وقد نسب هو ذلك فيما بعد إلى أن امتلاء ذهنه بالأفكار جعله يرى فيما يلقي عليه أقل من المستوى المطلوب الذي يتطلبه ذكاؤه وطموحه واطلاعه، وذلك الاطلاع الذي أنكب عليه كوسيلة لعزاء في البداية، قبل أن يكون وسيلة للتثقيف.

وظل بلزاك طول حياته الدراسية محروماً من العطف العائلي حتى بلغ العشرين وحصل على إجازة الحقوق، ولكنه بدلا من أن يسير في الطريق الذي أهلته له دراسته وكما تبغي أسرته، استيقظت فيه فجأة الرغبة في مزاولة حرفة الأدب، واستطاع أن يقنع أسرته بعد كفاح مستميت أن تمده بمبلغ من المال للذهاب إلى باريس ليجرب حظه مدة معينه لا تزيد على سنتين إذا فشل بعدها عاد إلى موطن الأسرة ليزاول الحياة التي أهلتها له دراسته القانونية.

ورحل بلزاك إلى باريس؛ وأقام في رقم 9 شارع ليدبجويير في غرفة في سطح المنزل، غرفة صغيرة تعابها النفس، اختارتها له والدته بنفسها خصيصا لتبغض إليه الحياة التي يطمع فيها. بيد أن بلزاك أحتمل حياته الجديدة بعزم وعناد. فكان ينظف الغرفة بنفسه ويذهب لشراء الطعام الرخيص كل يوم حتى يوفر ما تكلفه إياه المطاعم. حتى الماء كان يذهب لإحضاره من نافورة سان ميشيل كي لا يتكلف ثمن شرائه. ولم يكن كل ذلك ليثبط من عزيمته، وكان يتعزى عن شقائه بالتطلع من نافذة غرفته الصغيرة إلى أضواء باريس، متأملا سحرها، حالماً بذلك المجد الأدبي الذي يصبو إليه ليكون أسمه علماً بين كتاب تلك المدينة التي أضاءت سماءها أسماء أعاظم رجال الأدب والفكر في مختلف العصور.

فإذا ما أراد بلزاك أن يخرج من سجن غرفته ذهب إلى الأحياء الشعبية يتأمل ساكنيها ويدرس نواحي الحياة بين أرجائها. وكان لا يجد غضاضة أو غرابة أثناء تجواله إذ كانت ملابسه كما يقول، لا تلفت إليه الأنظار لأنها لا تفترق في بساطتها عن ملابس العمال والبسطاء من ساكني تلك الأحياء، فوق أن مشاعره كانت تتجاوب مع مشاعرهم، فيرثى لضروب تعاستهم، متضامنا وإياهم في سخطهم على رؤسائهم الذين يستبدون بهم ويرهقونهم في مقابل لقمة العيش. ولقد كانت هذه الفترة من حياة بلزاك حاسمة في تحديد تفكيره وإدراكه لنفسية الطبقات الكادحة وما يختزن فيها من مواهب إذا اكتشفت وأحسن توجيهها أخرجت للنور الكتاب والمخترعين والفنانين وسائر القادة في مختلف ضروب الفكر الإنساني.

وانقضى شهران دون أن يعرف بلزاك ماذا يكتب وقد تكدست في ذهنه المشاريع المختلفة. وأخيراً أستقر رأيه على كتابة مأساة شعرية بعنوان (كرموبل) فبدأ توافي على كتابتها وكان يريد أن ينتهي منها سريعاً قبل أن تجئ إليه والدته لتحاسبه على ما أعطته من نقود وعلى ما إذا كان قد استطاع أن يوفي بوعده في أن يصبح أدبيا؟! وأنهمك بلزاك في الكتابة وحيداً في غرفته، لا يغادرها مرة كل بضعة أيام حتى انتهى منها. وحمل بلزاك مأساته إلى أسرته وأتفق الجميع على عرضها على صديق للأسرة ملم بأصول الأدب والنقد. وبعد أن قرأها أبدى رأيه بعدم صلاحيتها. ولم يحاول بلزاك أن يناقش أو أن يحرج كبرياءه بعرضها إلى أشخاص آخرين أو على أحد المسارح فألقى بها في زاوية مكتبه ولم يخرجها من مكانها حتى مماته!

على أن هذه المسرحية؛ رغم فشلها، قد أنالته شيئا من الثقة من جانب والدته في أن يكون يوماً من الأيام أديباً يلمع اسمه بين رجال الأدب في فرنسا.

لم ييأس بلزاك من عدم نجاحه في عمله الأدبي الأول. وكان إيمانه بنفسه كافياً لأن يدفعه ليواصل صراعه. لكن المشكلة الكبرى التي أمامه الآن هي إن المال الذي منحته إياه أسرته يوشك أن ينفذ، ولذا يجب أن يجد طريقة للحصول عليه حتى يستطيع أن يبقى في باريس ويواصل هذا الصراع. وأخيراً أتفق مع أحد أصدقائه ويدعى أوجست لو بواتفان على أن يتعاونا معاً على كتابة قصص يوقعانها باسم مستعار.

وأنتقل بلزاك من غرفته إلى المنزل الذي كانت تسكنه شقيقته لور بعد أن هجرته بعد زواجها وجعله مقرا له يكتب فيه القصص المتوالية بمعاونة صديقه أوجست. ولاشك إن هذه الفترة من حياة بلزاك لا تشرف تاريخه الأدبي. فقد كان يسعى إلى كتابة أي نوع من الكتابة سواء كان قصصاً أو غيرها مادام يدر ربحاً مادياً. وكان يلجأ إلى اقتباس الموضوعات من أي مصدر يصادفه. ولقد كان عذره الوحيد أمام ضميره في ذلك الوقت هو السعي لأن يكسب حياته بأي سبيل حتى يستقل عن الحاجة إلى معونة أسرته، ويستطيع البقاء في باريس تمهيداً لمجده الأدبي الذي لم يتنازل عن العزم على الوصول إليه. ولقد أدى هذا التهافت من بلزاك على كسب حياته بأية طريقة إلى أن لا يتروى في كتابته فكان يؤجر قلمه لكتابة كل ما يطلب منه في مقابل أجر معلوم. ولم يغتفر له مؤرخو حياته فيما بعد هذه الزلة التي أستمر عليها بضعة أعوام رغم سعيه إلى تبريرها بمنطقه البليغ وقدرته الفذة في الإقناع.

على أن أعجوبة بلزاك الكبرى أنه رغم هذا الإسفاف الأدبي خلال تلك السنوات قد استطاع أن يتطهر منه فيما بعد، وأن يكون في أدبه عالي الضمير، يتأنق في فنه ويعيد تصحيح ما كتب بعد إرساله إلى المطبعة عدة مرات حتى ضج منه الناشرون إلى درجة أن قاضاه بعضهم من اجل ما يتحملون من نفقات نتيجة تصحيحاته وتغييراته التي لا تنتهي.

وبلغ بلزاك الثالثة والعشرين وهو في أوج كفاحه المضني بمعاونة صديقه أوجست في سبيل التحرر من إعالة أسرته والبقاء في باريس. وإلى هذه السن لم يكن يعرف عن العلاقات النسائية شيئاً. فقد كان شديد الخجل، مهمل الهندام، لا يجذب إليه نظر الجنس الآخر لبدانته وبعده عن كل جاذبية وانطوائه على نفسه. ولطالما شعر بالألم عندما كان يرى شبانا في عمره يعتبرهم اقل منه ذكاء وشأنا في صحبة فتيات جميلات لا يستطيع هو أن يصل إلى معرفتهن.

وفي ذات يوم هيأت له الظروف رؤية مدام دوبيرني صديقة عائلته وكانت في عمر والدته إذ كانت في الخامسة والأربعين بينما هو في الثالثة والعشرين. فوقع في غرامها وظل يمطرها بخطاباته الملتهمة. ورغم صدها له في البداية فقد انتهى الأمر بها إلى الاستسلام والسماح له بلقائها ذات ليلة في منزلها فتحقق له حلم في التمتع (بتلك الليلة الصاخبة الممتلئة باللذة، تلك الليلة لا يستطيع التمتع بها إلا مرة واحدة ذلك الطفل الذي بلغ مرحلة الرجولة والتي يسعد بها عندما يصادفها لأول مرة في حياته).

ولقد دامت صداقة بلزاك لمدام دوبيرني قرابة عشر سنين. وحتى بعد هجره لها وإنشائه علاقات أخرى مع غيرها فقد بقي وفياً لذكرى صداقتها، يراسلها بين وقت وآخر ويسترشد بآرائها. فقد كان يرى على يديها وحدها تفتحت أمامه أبواب السعادة النفسية وعرف الحب الأول مرة في حياته وفي وقت بلغ به اليأس مبلغاً جعله يفكر في إن الموت هو السبيل الوحيد للخلاص من عذابه.

ولقد كان التفاوت الكبير بين عمريهما مما سهل التغلب على سذاجته العاطفية ومشكلة خجله المرضي. ألم يكن يتمثل مدام دوبيرني أمام ناظريه حين قال كلمته الخالدة: (ليس إلا الحب الأخير للمرأة الذي يستطيع أن يرضي الحب الأول للرجل)؟! ولقد رسم هذا الحب الأول لبلزاك طريق ميوله الغرامية طول حياته ونوع المرأة التي تستطيع في نظره أن تملأ فراغ قلبه وتروي ظمأ حواسه الملتهبة المتدفقة؛ فالحبيبة النموذجية في نظر بلزاك هي تلك المرأة التي تخطت الثلاثين والتي تكون منه بمثابة الأم لطفلها المدلل، تغمره بعطفها وتحنو عليه وقت الشدة، وتمده بالمعونة المالية وقت الحاجة. هي تلك المرأة الواعية التي ترتفع بتجاربها عن الأنانية التي تريد أن تجعل من الرجل وسيلة لا غير لتحقيق أطماعها وإطفاء لهيب نزواتها. هي تلك المرأة التي أوشكت بحكم سنها أن تفقد الأمل في صداقة جديدة والتي تشعر بالسعادة الحقة إذ أتيحت لها تلك الفرصة النادرة التي تشعرها بأنه لا يزال هناك من الرجال من يعجب بها وترغب في صداقتها. وما بطلتا قصتي (المرأة المهجورة) و (المرأة ذات الثلاثين ربيعاً) إلا صورتان عن بطلات حياته الغرامية اللواتي خلدهن في قصصه العديدة ومنحهن حق التمتع بالحياة رغم العرف السائد في ذلك الوقت من الخصوص الذي يحرم عليهن بعد هذه السن التمتع بهذا الحق.

ولقد كانت هذه الصور الخالدة للمرأة التي تخطت الثلاثين في قصص بلزاك سبباً في أن يخلق حوله طبقة من المعجبات لم يتمتع بها غيره من كتاب القصة في القرن التاسع عشر. وفي جو هذه الصور الحية كان بلزاك يبشر بفلسفته الجديدة على لسان أبطاله كقوله (إن المرأة ذات الأربعين تعطيك كل شئ. أما ذات العشرين فلا شئ إطلاقاً). ولقد طبق بلزاك طوال حياته الغرامية هذه العقيدة فكان (شديد الكره للفتيات) لأنهن يأخذن كثيراً ويعطين قليلاً. كما أنه لم يلجأ إطلاقاً في علاقاته إلى بائعات الحب أو إلى ذلك النوع من الغانيات اللعوبات المغرورات. وما كانت صداقته بعد مدام دوبيرني كصداقته لدوقة إبرانتيز ومدام ريكامييه ومدام رولما كارو ودوقة كاسترى ثم أخيراً مدام دوهانسكا إلا تطبيقا لتلك العقيدة التي كونها لنفسه على ضوء حبه لمدام دوبيرني وهو أن تكون المرأة له أماً وشقيقة وصديقة وعشيقة في وقت واحد، يلوذ بها أيام المحن والكوارث فتغمره بتشجيعها وسلواها وتهرع إليه في ليالي الشقاء كما كانت تفعل مداد دوبيرني التي كانت (تأتي إليه كل يوم كما يأتي النوم الكريم يسكن وقر الآلام).

بقي بلزاك حتى الثلاثين من عمره يكافح بعناد دون أن يخرج عملاً أدبياً ذا قيمة إلى أن أصدر أول قصة طويلة له (التعويذة) فكانت فتحاً جديداً في الفن القصصي من حيث قوة التحليل ودقة الوصف وكان نجاحها بداية فجر مشرق. فمنذ ذلك الوقت رسم بلزاك لنفسه هدفاً رئيسياً لموضوعات قصصه وهي أن تكون دراسة للمجتمع بكافة نواحيه يختلط فيها كل من الغنى والفقر، السعادة والشقاء، الطبقة العليا والطبقة السفلى، قوة المال وضعفه، وبالاختصار كل ما يعج به المجتمع من متناقضات. ذلك أن بلزاك كان يعتبر أن هذه المتناقضات أشبه ما تكون بالعناصر الكيمائية التي يتوقف كل منها على الآخر. فثراء طائفة من الناس سببه فقر الآخرين. والفقر المميت لا ينتج إلا لأن البعض قد أستحوذ على معظم الثروات. . وسعادة البعض كثيراً ما تكون على حساب تعاسة الآخرين وهكذا. ولقد كانت حياة بلزاك الخاصة في باريس وما عركه بنفسه بين مختلف طبقاتها هو المصباح الذي أرشده إلى حقائق المجتمع الإنساني في عصره. وما قصصه (الأوهام الضائعة) و (لويس لامبير) و (سيزار بيروتو) و (الأب جوريو) و (أوجيني جرانديه) وغيرها إلا ثمرة دراساته الشخصية وحياته العاصفة التي جعلت منه الأديب المؤرخ لعصره والمصور الصادق والطبيب البارع للمجتمع الباريسي الصاخب والمجتمع الإنساني بوجه عام.

ولقد استطاع بلزاك خلال هذا الكفاح العنيف في سبيل تأدية رسالته وفي سبيل (أن يحقق بعلمه ما حققه نابليون بحسامه) كما قال - أن يكتب في مدة عشرين عاما - عدا المسرحيات والمقالات والقصص القصيرة - أربعاً وستين قصة طويلة وأن يخلق في هذه القصص إلفي شخصية إنسانية، كل منها نموذج قائم بذاته للطبيعة البشرية بفضائلها ورذائلها، محققاً بذلك حلمه في أن يرسم صور المجتمع الإنساني بكافة ألوانه وطبقاته في قالب قصصي في سلسلة أطلق عليها فيما بعد ذلك العنوان الخالد على الدهر (المهزلة الإنسانية).

ولقد أرتفع بلزاك بإنتاجه الأدبي إلى أن يكون كما كان يتمنى (على رأس الحياة الأدبية في أوربا) وأن يكون (خليفة بيرون ووالتر سكوت وهوفمان). والواقع أن بلزاك قد فاق الأدباء الذين كان يتخذهم في شبابه مثلاً أعلى له؛ فقصته (لويس لامبير) التي تعتبر أعمق وأقوى ما كتب بمثابة فتح جديد في الفكر الأوربي عندما كشفت العلاقة الخفية بين العبقرية والجنون قبل أن يكشفها علماء النفس في أوائل القرن العشرين بعشرات السنين. ولقد كان بلزاك يريد أن ينافس بقصته (لويس لامبير) قصة (فاوست) للكاتب الألماني جوت! ورغم أنه وصل إلى ما يبغي إلا أننا ندهش حين نعلم إن بلزاك كتب قصته في ستة أسابيع لم يفرغ جوت من كتابه (فاوست) إلا بعد ستين عاما من بدئه فيها.

وإذا كان بلزاك لم يحقق كل حلمه ولم يتم برنامجه إلى آخره فقد حقق معظمه وكتب أربعة أخماس (المهزلة الإنسانية) قبل أن يعاجله الموت في الثانية والخمسين. بيد أن بلزاك قد دفع الثمن غالياً من صحته التي أنهكها السهر الطويل المضني. ولعل العجب يتولى كل من يعرف طريقته في العمل التي تفوق طاقة البشر! إذ كان يقضي في كثير من الأحيان أسبوعين أو ثلاثة أسابيع لا يغادر أثناءها شقته الصغيرة في شارع كاسيني. وكان يبدأ الكتابة عند منتصف الليل حتى إذا ما طلع الصباح تناول إفطاره ثم شرع في تصحيح النماذج التي ترسلها إليه المطبعة فيغير وينمق وكثيراً ما يعيد كتابة صفحات بأكملها. فإذا ما حل المساء لجأ إلى سرير نومه حتى منتصف الليل ليستيقظ ويواصل الكتابة. ولقد ذكر طبيبه وصديقه الدكتور ناكار أن سبب موته يرجع إلى أن قلبه كان متعباً بسبب الإرهاق في العمل والمبالغة في شرب القهوة ليستعين بها على مقاومة النوم. ولقد أحصى أحد المقربين إليه عدد فناجين القهوة التي احتساها في حياته فبلغ خمسين ألف فنجان!!

ولقد كان موت بلزاك مأساة أخرى تختتم بها مآسي طفولته المعذبة وكفاحه الفكري العنيد. كان منذ سنوات قد وقع في غرام مدام دوهانسكا. وكانت سيدة روسية غنية متعجرفة تتعالى عليه وتعتز بأصلها الأرستقراطي وتجعل من صداقتها له ملهاة لغرورها. وكان بلزاك لسوء حظه ضعيفا مع النساء، شديد الإحساس بالنقص تجاه كل سيدة رفيعة المقلم: وبسبب هذا الإحساس تضخمت في ذهنه فكرة الزواج من مدام دوهانسكا لما سيناله بزواجها من شرف ومال فيحقق بذلك حلمه القديم في الحصول على (امرأة وثروة) تستقر بها حياته المضطربة ليتفرغ بعد ذلك في هدوء لإتمام رسالته الأدبية الضخمة.

وكان زوج مدام دوهانسكا عندما تعرف بلزاك لا يزال على قيد الحياة. فظل بلزاك صبوراً على علاقته بها سنوات حتى مات زوجها وحانت بذلك فرصة الزواج. إلا أن مدام دوهانسكا كانت تسوف في وعدها، مختلقة الأعذار دون أن تقطع علاقتها بالكاتب الكبير الذي كانت رفعة مكانته الأدبية في أوروبا بأسرها تضفي على من تصادمه رجلاً مثله هالة من الرفعة والمكانة.

وكانت صحة بلزاك قد أخذت في الانهيار وأجمع الأطباء على أن حالة القلب لديه لا تسمح له بحياة طويلة. عندئذ. وعندئذ فقط دوهانسكا على أن تحقق للرجل الذي صبر السنين الطوال وعفر وجهه في الثرى تحت قدميها لينال يدها الأمنية الكبرى التي يجيش بها صدره. فما الذي ستفقده بهذا الزواج وقد أجمع الأطباء أنه لم يبق له في الحياة إلا شهور معدودة!

وسافر بلزاك إلى روسيا رغم اعتلاله ليعقد أخيراً زواجه في مارس عام 1580 في هدوء وصمت تحقيقاً لرغبة مدام دوهانسكا التي كانت تعتقد أن في هذا لزواج انتقاصاً من مقامها. ولهذا كتب العقد بغير احتفال ولم يشعر به أحد ولم يدع إليه إنسان وتمت مراسيمه في الساعة الرابعة صباحا قبل أن يستيقظ النيام من نومهم!

وفي مايو بدأ الزوجان رحيلهما إلى باريس ليقيما في ذلك البيت الذي ظل بلزاك منذ وقت طويل يعده في شارع فورتونيه بكافة ألوان الترف والنعيم في انتظار ذلك اليوم الموعود. وكانت الرحلة شاقة على صحة بلزاك حتى خيف ألا يستطيع أن يتمها سالماً، ذلك أنه لم يكد يصل إلى درسدن حتى انهارت قواه وتضاءلت قوة أبصاره ولكنه قاوم إرادته. فكل ما يأمله الآن هو أن يصل مع مدام دوهانسكا إلى منزل فورتونيه ليعيش فيه بين ذراعيها ولو بضعة أيام.

وقبل أن يصل بلزاك إلى باريس كان قد أرسل بكل تعليماته إلى والدته التي كانت تقوم بكل الترتيبات في منزله الجديد. فطلب منها ألا تكون بالمنزل عند وصوله إليه لأنه يعلم إن مدام دوهانسكا لا تريد رؤيتها. كما طلب أن يكون فرانسوا خادمه الخاص في انتظاره أمام المنزل بعد أن يضئ جميع أنواره. وعندما وصل الزوجان أمام المنزل الموعود لم يجد بلزاك فراسوا في انتظاره فظل يطرق الباب دون مجيب. وانتظرت مدام دوهانسكا في العربة حتى أستدعى أحد المختصين لفتح الباب عنوة. وعندما دخل العروسان وجدا فرانسوا في إحدى الغرف وقد أصابه الجنون فجأة فنقل في نفس الليلة إلى إحدى المصحات.

كان حلم بلزاك أن يعيش في هذا المنزل خمسة وعشرين عاما يكتب أثناءها خمسين كتاباً يتم قائمة مؤلفاته التي تكون (المهزلة الإنسانية) والتي يبلغ مجموعها مائة وأربعة وأربعين مؤلفاً. وكان قد أعد لذلك غرفة مكتب فاخرة إلى جانب غيرها من الغرف الحافلة بأفخم أنواع الأثاث؛ فإلى أي مدى تحقق هذا الحلم؟ لم يخط بلزاك حرفاً في غرفة المكتب الفاخرة. ولشد ما يبدو أن بلزاك كان يحس بما يخبئه له المستقبل الغادر فجعل من نفسه ومن أحلامه الفاشلة الشخصية الرئيسية لقصته (الأوهام الضائعة).

نعم! فلقد أراد القدر أن يأتي بلزاك إلى هذا المنزل، موطن خياله الذي صبر من أجله طويلاً، لتنهار صحته نهائياً بمجرد وصوله. فمنذ اليوم الأول لم يعد يقوى على القراءة أو الكتابة، ولم يلبث أن لزم فراشه لا يستطيع منه حراكاً. وعندما أقبل ملاك الموت في ليلة 17 أغسطس 1850 لم يكن بجواره إلا والدته فقد كانت زوجته مدام دوهانسكا قد غادرت المنزل قبل ذلك بعدة أسابيع.

ودفن بلزاك في مقبرة بيير لا شيز. تلك المقبرة التي كان يحبها والتي طالما تأمل بطله راستنياك من أعلاها إلى باريس التي تحدى جبروتها وسطوتها. ورسم جمالها وتعاستها، وخلد عبقريتها على صفحة الفكر البشري ليتغنى بها الأبناء جيلاً بعد جيل.

علي كامل