الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1019/الدعوة الوهابية وأهدافها

مجلة الرسالة/العدد 1019/الدعوة الوهابية وأهدافها

مجلة الرسالة - العدد 1019
الدعوة الوهابية وأهدافها
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 12 - 01 - 1953


أسرار الحرب بين أسرة محمد وعلي وآل سعود

للأستاذ محمد كامل حته

آن أن يكتب التاريخ من جديد. . .

هكذا قلت لصديقي ونحن نسمر في فندق مصر بمكة، ونستعرض تاريخ تلك الحروب الدامية التي نشبت بين مصر والحجاز في عهد محمد علي الكبير.

وأتصل بنا الحديث فتناول تاريخ الدعوة الوهابية، التي تعتبر إحدى انتفاضات ثلاث كان لها شأن كبير في تاريخ الحركات الدينية والسياسية في العالم العربي: الوهابية في جزيرة العرب، والسنوسية في شمال إفريقية، والمهدية في السودان. .

فما هي البواعث الحقيقية لتلك الحروب التي شنها محمد علي وأولاده على الحجاز؟

وما هي حقيقة الدعوة الوهابية وأهدافها الدينية والسياسية؟

أما هذه الدعوة، فهي - كما قلت - إحدى الانتفاضات الدينية التي أنفعل بها العالم العربي، والتي كانت منبعثة من صميم الإحساس بما وصلت إليه كل المسلمين من الجهل بحقيقة الإسلام، وتدهور العقيدة وتحلل مقوماتها في النفوس، مما تخلف بهم عن مكانهم الطبيعي في الصدارة، وجعلهم خولاً للأجنبي، يطأ أعناقهم ويستولي على بلادهم، ويسلبهم ما بقي من مقومات حياتهم وميراث تاريخهم. .

وفي قرية (عيينة) من قرى نجد ولد محمد عبد الوهاب صاحب هذه الدعوة، في مطلع القرن الثامن عشر. وقضى صدر شبابه مرتحلاً إلى الأحساء والحجاز والبصرة وبلاد فارس: وتتلمذ على ما كتبه أبن تيمية وأتباعه، وخاصة أبن القيم وأبن كثير، وهم من الأئمة السلفيين الذين كان لهم في تاريخ التوحيد الإسلامي جهود ضخمة، ردت إليه اعتباره وجددت شريعته السمحة البيضاء.

إذن فقد أجتمع للرجل في اتصاله بحياة المسلمين في كثير من الأقطار، وفي فقهه لأسرار الشريعة الإسلامية؛ ما ملأ قلبه غيرة على حال المسلمين، وحسرة على ما وصلوا إليه من جهالة وضعف وانحلال. وحفزه ذلك إلى الجهاد في سبيل تجديد إيمان هذه الأمة، وتسديد عزائمها إلى مواطن العزة والشرف.

وكانت الجزيرة العربية لذلك العهد ممزقة الأوصال، متعددة الولايات والولاة؛ لا تهدأ بينهم نار الحرب، ولا تخبوا الإحن والثارات. وكذلك كان الشأن بين البدو والحضر، وبين القبائل بعضها وبعض، بل وبين أبناء البيت الواحد ممن يتنافسون على المناصب والمغانم. حتى أن أحد أشراف مكة لم يتورع عن قتل أخيه ثم طبخ لحمة وقدمه إلى بقية أخوته في وليمة ساهرة!

وكانت الخرافات والعقائد الضالة قد استحوذت على العقول، حتى لأوشكوا أن يرتكسوا في جاهلية عمياء، وهي شر من الجاهلية الأولى؛ لأن أهلها يزعمون مع ذلك انهم مسلمون. .

وبدأت دعوة محمد بن عبد الوهاب بالعمل على إصلاح العقيدة الدينية. وهل إلى ذلك من سبيل غير الرجوع إلى منابعها الصافية: الكتاب والسنة!

ومن خصائص العرب في جميع العصور، أن طبيعتهم السمحة القوية، وبيئتهم البادية المتصلة بالكون، المتفاعلة فيه، هي أقرب الطبائع البشرية إلى روح الإسلام وطبيعته. وليست كذلك طبيعة الأمم التي أغرقتها الحضارة، واستغرقتها العقائد المادية، وأنهكها الترف العقلي، وخدرتها أوهام التصوف وتهاويل الفنون. .

ولذلك استطاع الإسلام أن يحقق بأولئك العرب، بعد أن زالت عن طبيعتهم السمحة القوية أدران الجاهلية، وتطهر جوهرها النقي مما شابه من عقائد وأفكار - استطاع أن يحقق بهم أروع وأسرع معجزة في فتح الأمصار ونشر كلمة الله.

فلما اتصلت حياتهم بتلك الأمصار، وتذوقوا ما فيها من ألوان الحياة الحضارية، وبهرتهم دنياهم الجديدة بما فيها من زينة وزخرف ومتاع، تأثروا بذلك كله، فضعفت قواهم المبدعة الغلابة، ولم يستطيعوا أن يتابعوا جهادهم بعد الفتح في تطوير عقائد تلك الأمصار، وانبعاث صور جديدة للحياة في شتى مناحيها العقلية والاجتماعية، يتصل إلهامها بروح الإسلام وطبيعته، فكان أن ذرت العقائد الموروثة التي حاربها الإسلام بقرونها من جديد، في صور موشاة بألوان تخيل للرائي أنها صورة إسلامية، وإن كانت في مادتها ووحيها بعيدة كل البعد أو بعضه عن مادة الإسلام ووحيه. .

وأنظر معي الآن - ولا تجزع - إلى ذلك الميراث الضخم الذي خلفته العصور الإسلامية منذ أنحسر عنها مد العروبة المسلمة أو غاض، وانطلقت غرائزها تبني للإسلام حضارته العمرانية والعقلية، في مصر وفارس والهند وتركيا وغيرها من الأمصار، فتنشئ العمارة، وتمارس العلم والفلسفة، وتصوغ فنون الحياة. . أترى معي حقيقة - إذا تجردنا من أوهام ذلك التاريخ الذي نعيش فيه، وتحررنا مما رسب في أعماقنا من معايير وموازيين - أن هذه الحضارة الإسلامية في ماضيها وحاضرها، وذلك الميراث الضخم الذي تزهو به وتلك الحياة التي أبدعت هذه الحضارة وذلك الميراث، والتي نحياها الآن على نمط قريب مما كان يحياها أولئك الآباء والأجداد؛ أتراها معي حقيقة، حضارة إسلامية بكل ما في هذه الكلمة من معنى؛ أم أنها حضارات متعددة تمتد جذورها إلى أعماق الأمم التي صنعتها، في مصر، وفارس، والهند، وتركيا، وغيرها من الأمصار؟

قد تتهمني بالمغالاة والتجني على مقومات الحضارة الإسلامية. وقد تقول: إن هذا التعدد في ألوان الحضارة الإسلامية لا يتصل إلا بمظاهرها، وبالقدر الذي تختلف به طبيعة كل أمة ومؤثراتها الخاصة، وإنها في جوهرها ومجموعها تنبع من معين واحد هو معين الإسلام. . .

وفي هذا الاعتراض نوع من المغالطة؛ فإن هذه الألوان المتعددة في معالم الحضارة الإسلامية، لا يقتصر تعددها واختلافها على المظهر فحسب، ولا يرجع ذلك التعدد والاختلاف إلى تأثير البيئة واختلاف الطبيعة - وأذن لهان الأمر؛ ولكنه أعمق من ذلك جذور أو أبعد أساً؛ ذلك لأن هذا الاختلاف في المظاهر لا يقاس إلى ما بين العقائد والأفكار والمشاعر التي تكمن وراءها من تباعد واختلاف. . وبالقدر الذي يباعد بين هذه العقائد والأفكار والمشاعر الموروثة، وبين الإسلام في حقيقته الأولى وتمثله للكون والحياة.

وفي هذا الاعتراض كذلك شبهة لا يمكن إزالتها إلا بالاحتكام إلى الإسلام ذاته؛ لا عن توهم أنه دين تأبى طبيعته التطور، وينكر حق العقل في بحث أسرار الكون وإخضاع نواميس الطبيعة، ولكن عن إدراك طبيعة الإسلام باعتباره دينا يقوم على (التوحيد) في كل شئ: التوحيد الذي يسمو بالإنسان عن توحيد عبودية إلا لله، ويجعل المسلم قواما على الحياة والكون، يسيطر عليهما ويسخرهما لتحقيق الرسالة التي جاء بها الإسلام لخير الفرد والمجتمع؛ لا أن يكون عبداً للكون والحياة، تستخدم مواهبه في الفنون حتى يكاد يعبد ما خلق، وتستغرق عقله بالفلسفة حتى تصرفه عن العمل. . .

على أني أراني قد أبعدت كثيراً فيما أعالج من أمر الدعوة الوهابية وبواعثها وأهدافها، فلندع هذا الحديث الذي لا توفيه هذه الإلمامة حقه من الحجة والبيان. ولنعد إلى حديثنا عن صاحب الدعوة محمد بن عبد الوهاب:

أراد هذا الإمام أن ينهض بدعوته. وهل لها إلا تلك (الخامات) العربية التي تنطوي على عناصر الحرية، والاتصال المباشر بالكون، والاستواء على أقطار الحياة يبرئها مما أصابها من غشاوة الجهالة، ويردها إلى فطرتها السمحة، ويغذيها بوحي الكتاب والسنة؛ ثم ينطلق بها خفيفة مؤمنة صابرة، تحمل أعباء الدعوة، فتنشر الهدى المحمدي، وتقر الأمن المضطرب، وتحمي البيت الذي يتخطف الناس فيه، ثم تمضي برسالتها إلى أبعد الآفاق. .

تلك كانت دعوة محمد بن عبد الوهاب. وهذه وسيلته. . ولقد نجح هذا الداعية في المرحلة الأولى - مرحلة الانتصار على أهواء الجاهلية، وأدواء الجهالة، واستنفار (الإخوان) للدعوة إلى سبيل الله - نجاحاً كاد أن يتجاوز حده فيقع بهم في السرف، أو قد كان.

وكانت دعوة محمد بن عبد الوهاب تسير جنباً إلى جنب مع مراحل الدولة السعودية، فلما دانت الجزيرة العربية لآل سعود في مطلع القرن التاسع عشر، كانت هذه الدعوة تزلزل قلوب كثير من السلاطين والولاة في البلاد الإسلامية، ويرون فيها خطراً جائحا يخشى أن تمتد آثاره فتقضي على الأوضاع الظالمة والعقائد الفاسدة التي تقوم عليها كثير من العروش والتيجان. . .

أحس بهذا الخطر سلطان تركيا، وكان يعيش في تلك الأسطورة التي توهمه، أو يوهم هو بها الناس، بأنه ظل الله في أرضه!

وأحس به محمد علي في مصر. . .

وكان إحساس سلطان تركيا بخطر الدعوة الوهابية مزدوجاً، لأنه كان يحس في الوقت نفسه بخطر محمد علي في مصر. فأراد أن يضرب الضربة يصيب بها الاثنين معاً، فطلب إلى محمد على أن يغزو الحجاز؛ وأن يقضي على أولئك المتمردين العصاة!

ووجدها محمد علي فرصة يضرب بها ضربته، باسم خليفة المسلمين، ظل الله في أرضه. .

ثم كانت الغزوات والحروب التي ذهب وقودها مئات الألوف من أبناء مصر، وعشرات الألوف من أبناء الجزيرة العربية. والتي خلقت في نفوس الشعبين تلك الموجدة التي تذكو نارها تارة وتخمد أخرى. . .

وكتب التاريخ الزائف قصص البطولة والنصر لجيوش الخليفة وولاته في مصر، على الدعوة الثائرة المتمردة في جزيرة العرب. هذه الجيوش المغلوبة على أمرها، والمسخرة لأطماع الولاة وأهوائهم. والتي حبست عشرات السنين عن أن تودي واجهتا الحق حين كان أشراف مكة يرشون السلاطين والولاة: ثم يعيثون في الأرض المقدسة فساداً، فيقتلون ويسلبون، ويغرون سفهاء البدو فيهدرون دماء الحجاج، وينهبون أموالهم ويهتكون أعراضهم، ولا يرسلون من هذه الجيوش إلا كتيبة لحراسة (المحمل) وهي تحدو ركبه بالطبول والمزامير.

ويبدو أن لتلك الحروب أثراً كبيراً في توقف الدعوة الوهابية عند خطوتها الأولى، وهي المناداة بالشريعة الإسلامية لتكون أساس الحكم، والرجوع إلى الكتاب والسنة في كل أمر، واستنفار أهل البادية ذوي الحمية والبأس للاضطلاع بأعباء هذه الدعوة. أما ما وراء ذلك من خطوات تتصل بتدعيم هذه الدعوة بالعلم، وتخرج أفواج الدعاة الذين لا يقتصرون على سورة الحماس الديني، دون البصر بشريعة الإسلام في الحياة؛ وتعبئة قوى الأمة للتحرر الديني والسياسي - فذلك ما قصرت عنه الأسباب، وما انتهى بالدعوة إلى أضيق الحدود.

ولقد كان من أثر ذلك أن الملك عبد العزيز ذاته، حين أراد أن يخرج قليلاً من نطاق تلك الحياة الجامدة الراكدة، وأن يدفع بلاده خطوات يسيرة في سبيل الحياة؛ أنقلب عليه أشد أعضائه وأنصاره من (الإخوان) أعداء ألداء، ووقعت بينه وبينهم فتنة دامية، انتهت بغلبته عليهم، ووقوع زعيمهم فيصل الدويش أسيراً في يده، وعندئذ تنفس الملك عبد العزيز الصعداء وقال: من اليوم سنحيا حياة جديدة!

محمد كامل حته