الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1018/مسرح وسينما

مجلة الرسالة/العدد 1018/مسرح وسينما

بتاريخ: 05 - 01 - 1953


صندوق الدنيا

تأليف الأستاذ توفيق الحكيم

إخراج: الأستاذ سعيد أبو بكر

تمثيل: فرقة المسرح المصري الحديث

للأستاذ علي متولي صلاح

لا أدري من الذي أطلق على هذه التمثيليات القصيرة اسم (صندوق الدنيا)؟ أهو المؤلف؟ أم المخرج؟ وسواء أكان هذا أم ذاك فإن الشيء الذي لا شك فيه هو أنه إنما أريد بهذه التسمية جلب المتفرجين، فإن كلمة (صندوق الدنيا) كلمة شعبية لها استدعاء خاص في نفوس سواد الناس الذين كان هذا الصندوق الخشبي يبهرهم ويستهويهم عندما يطوف بهم في القرى والمدن وهم أطفال يدرجون.

ولو أنهم سموه (صندوق العجائب) لكانت التسمية أدنى إلى الصدق؛ فإن الذي طلع به علينا هذا الصندوق إنما هو من الخوارق العجائب حقاً:

وهل نشاهد في حياتنا الدنيا كثيراً من أمثال (صالح بك زهدي) الذي يحتقر المال ويزدريه وهو ومن يعولهم أحوج ما يكونون إليه؟ أو هل نرى كثيراً من أمثال (سهام) تلك الفتاة التي ملأت نفسها شهوة القتل وتأجج بها فؤادها وملكتها (رغبة جامحة وقوة قاهرة تدفعها إلى أن تقتل شخصاً) كما تقول؟ أو هل نرى كثيراً من أمثال (عبد الغني بك) البخيل الذي أربي على البخلاء العالميين الأفذاذ من أمثال (الكندي) و (ليلى الناعطية) بخيلي الجاحظ، و (هارباجون) بخيل موليير، و (شيلوك) بخيل شكسبير، و (أوجين جرانديه) بخيل هونورية دي بلزاك؟ إن هذه الشخصيات فلتات في الحياة الدنيا، ولكن الرغبة في ازدحام المسرح بالناس هي التي أدخلتهم (صندوق الدنيا) ولا أدري لماذا يتشبث الأستاذ توفيق الحكيم بأن يصف هذه التمثيليات المتفرقة باسم (مسرحية) ويأتي جاهداً إلا أن تكون مسرحية واحدة رغم ما بينها جميعاً من (كمال الانقطاع) كما يقول رجال البلاغة؟ مع أ المسرحية القصيرة أكثر مشقة على المؤلف، وأشد تضييقاً عليه بحكم قصرها وقلة أشخاصها ومناظرها عن المسرحية الطويلة، وتوشك المسرحية القصيرة أن يكون لها القدح المعلى في العصر الحديث؟ أغلب الظن أن المؤلف لم يجد بداً من هذه التسمية وهو يقدم هذه الفصول إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، أو أنه استشعر الحرج إن هو سماها باسم جديد لم يألفه الناس فجنح إلى السلامة وتكلم باللغة المألوفة عند الناس - وهو يضمر غير ذلك - ثم أخذ يبحث عن الأسباب هنا وهناك! وأخذ يؤكد للناس أن الحكمة في جمع هذه الصور المتعددة في صعيد واحد أن ذلك (ما يساعد على إظهارصور المجتمع في أضاعه العديدة المختلفة) وذلك قول مردود؛ فليس المهم في المسرح أن تكثر المعروضات وتزدحم الموضوعات فهذا ميدانه الملحمة لا المسرحية، وقد يتناول المؤلف المسرحي غريزة واحدة أو معنى واحد فيقيم عليه مسرحية ضخمة، تنبثق منه العبرة، ويفيض على جوانبها الفن والجمال، كما فعل شكسبير مثلاً حيث تناول غريزة (الغيرة) فأقام عليها مسرحية عطيل، غريزة (الجشع) فأقام عليها مسرحية مكبث، وغريزة (الانتقام) فأقام عليها مسرحية هملت، وغريزة (الحماقة) فأقام عليها مسرحية الملك لير، والمسرح (لقطة) واحدة من الحياة تعيشها ساعتين أو ثلاثاً متحداً مع ما تراه، مندمجاً فيه بقلبك وعطفتك، وليس المسرح (معرضاً) كبيراً أو (موكباً) ضخماً يمر بك وأنت منفصل عنه تراه بنظرك ولا يستطيع قلبك وعاطفتك أن يتابعاه!

ولقد كتب الأستاذ توفيق الحكيم هذه المسرحيات بلغة أقرر أنها المسرح حقا، كتبها باللغة العربية السمحة السهلة المشرقة التي لا تعلو على إفهام السواد الأعظم من الناس، والتي لا تزيد على ما يتكلمونه إلا خطوة ضئيلة هي أقصر خطوة - فيما نعرف - بين العامة والعربية، وذلك أمر ليس - كما يتصوره البعض - سهلاً ميسوراً؛ فإن تقريب العربية إلى العامية مع المحافظة على سلامتها ونقائها وإمكان أن يفهمها الناس جميعا، أمر فوق أنه لا غنى عنه في لغة المسرح، فهو عسير غاية العسر، وقد استطاعه - إلى حدكبير - صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم كما استطاعه صديقنا الأستاذ علي أحمد باكثير.

هذا أمر أشهد به ويسرني أن أشهد به، وأرجو أن يعلم المؤلفون المسرحيون أن الجزالة والفخامة وضخامة الألفاظ وغرابتها ليست من المسرح في شئ. . وإن كنت ما أزال أرجو المزيد من الأستاذ توفيق الحكيم؛ وآخذ عليه بعض كلمات كان الأولى أن يتجنبها، كقوله (مقدم الصداق) ولو قال (المهر) لكانت أيسر، وكقوله (إنني أثيرة عندك) ولو قال (إنني مفضلة عندك أو إنني عزيزة عليك) لكان أقرب، وكقوله (وهكذا دواليك) وهذه عسيرة جدا على المسرح ولو قال (وهكذا تدور أو هكذا تمضي الأيام) لكان أخف كثيراً. على أنني أرجو كذلك أن يجمع الأستاذ إلى سهولة اللغة سلامتها من فساد قد يكون أضفاه عليها العرف، فهو يقول مثلا (إن رزقه محدود لا يكاد يكفي لفتح هذا البيت) وكلمة (فتح بيت) هذه قد أعطاها العرف معنى غير كريم فكان أولى أن يتجنبها المؤلف. . ولقد أسلم المؤلف هذه المسرحيات بلغتها السمحة السهلة التي يقرؤها الناس في كتابه (مسرح المجتمع) إلى ممثلين أبوا - كما حدثنا الأستاذ المؤلف - إلا أن ينزلوا بها إلى العامية اعتقاداً منهم أنها عسيرة على إفهام الناس وأنهم لن يستطيعوا متابعتها، وقد تنتهي ذلك بالإعراض عنها، ولكنهم في ذلك جد مخطئين.

أما المسرحية الأولى (دنيا المبادئ) فتقوم على رجل لا تستهويه المادة وهو أشد الناس حاجة إليها، رجل يؤثر الفضيلة والأخلاق على أعراض الحياة؛ ويؤمن إيماناً بالمثل العليا ولو جلبت له الفقر ولذويه الحاجة والحرمان ويذكرني هذا الرجل الذي قدمه لنا توفيق الحكيم في مسرحيته هذه وأعنى به (صالح بك زهدي) برجلين قدمهما لنا من قبل الكاتبان الشهيران: مولييرو هنريك إبسن، فقد قدم لنا الثاني (دكتور ستوكمان) وهذان الرجلان وصاحبهما الجديد (صالح بك زهدي) يقفون من الحياة موقفاً واحداً، ويتخذون صفات واحدة، وإذا عرفت أحدهم فقد استغنيت عن صاحبيه!

وليس في هذه المسرحية بناء مسرحي على الإطلاق وإنما هي حوار طويل جداً بين رجلين أستغرق في كتاب الأستاذ المؤلف اثنتي عشرة صفحة كاملة لا حركة خلالها، ولعل الأستاذ المؤلف قد استشعر الملل الذي استشعره النظارة، فأراد أن يكسر حدته بأية حركة، فأدخل الخادم بصينية القهوة بعد تسع صفحات كاملة! على أن المخرج مسئول عن ذلك أيضاً، فالمخرج ينبغي أن يكون أكثر إحساساً بعواطف الجمهور من المؤلف، والمخرج ليس آلة صماء في يد المؤلف، ولكنه متمم له يستدرك ما يفوته، ويكمل ما ينقصه. ولم يكن بطل هذه التمثيلية وأعني به (حمدي غيث) يمثل وإنما كان يخطب! وتلك النزعة إلى الخطابة تلازمه كثيراً، ويبدو أنه يجد فيها نوعاً من التميز والتفرد والبروز على إخوانه، وأنا أرجو أن يحد من هذه النزعة المسيطرة عليه، وأن يلبس لكل حال لبوسها قبل أن يستحيل إلى يوسف وهبي آخر! وإن لم يستطع فليعتزل التمثيل إلى سواه. . .

وأما المسرحية الثانية (دنيا الوفاء) فتقوم على أزمة نفسية خطيرة ملأت قلب فتاة شابة هي (سهام). . . أزمة الرغبة الجامحة في القتل، رغبة (ليس باعثها الانتقام بل لا باعث لها على الإطلاق. إنها شهوة القتل لذاتها مجردة عن أي باعث) إن هذه الفتاة كما صورها المؤلف (فتاة تصوم وتصلي ويتمزق قلبها رحمة بالطفل البائس أبن الكناس فتصنع له بيدها ثوباً يكسو عريه، فتاة حسناء وديعة مثقفة، لا تطيق سماع مواء قطة جائعة. ولكنها مضطرة برغبة جامحة إلى أن تقتل شخصاً، وما تكاد تنفرد بخادم في المطبخ وفي يدها سكين حتى تلمع عيناها ببريق غريب وتهم بطعنه) هذه هي فتاة توفيق الحكيم. . فتاة يرثى لها ويشفق الإنسان عليها، فلما تسلمها منه الممثلون أحالوها فتاة مضحكة ترفه عن النظارة وتسرهم بما تأتي من حركات بهلوانية متكررة طويلة!

على أني أسأل الأستاذ المؤلف لماذا سكنت ثائرة الفتاة في النهاية مع أن القتل لم يتم؟ هل يكفي لتسكين هذه الثورة الجامحة أنها (اعتقدت أنها قتلت) كما يقول الأستاذ مع أنها تبينت الأشخاص الثلاثة الذين صوبت إليهم مسدسها فوجدتهم في سلام؟ وتبينت كذلك أن مسدسها كان محشوا بالبارود الذي لا يقتل؟ لو أن المؤلف جعل الفتاة تولي الأدبار عقب إطلاقها مسدسها مباشرة ودون أن تتبين شيئاً مما حدث لكان أدنى إلى المعقول وأقرب إلى منطق الأشياء، لأن الفتاة كانت تعتقد حقاً أنها قتلت

وآخذ على الأستاذ المؤلف أنه يفسر موقف الفتاة فيقول (آه. . لقد قتلوا فيك روح الحياة، فحل فيك حب الموت) وذلك بعد تمهيد مفتعل ليؤدي إلى هذا الكلام. وهذا التفسير اللفظي ليس من المسرح في شئ، فالمسرح تفسره الأفعال لا الأقوال كما يعلم الأستاذ، وإنما يحتاج إلى الكلام إذا لم تستطع (الأفعال) وحدها أن تقوم بالتفسير والإفهام!

وأما المسرحية الثالثة (دنيا الأعمال) فهي أدنى هذه المسرحيات إلى واقع الدنيا، وتقوم على صورة من الاتصالات غير الشريفة بين الشركات وبين رجال الحكومة الذين يسترون أعمال هذه الشركات في دور الحكومة نظير سهرات لطيفة، ورشاوى و (إكراميات) طريفة، وهي مسرحية تقوم على مشاهد مألوفة كثيراً لدى رواد المسارح، والحوار فيها حسن، والدور الذي قامت به (سناء جميل) وهو دور المغنية المبتذلة كان شاقاً وقد أحسنت القيام به إلى حد كبير، غير أنها لم تخف تبذلها بعد حضور زوجة الرئيس وتقديمها إليها على أنها زوجة مدير الشركة رغم هذا! وأعجب من هذا وذاك ألا تكون بهذه الشركة الكبيرة حجرة للاستقبال فتدخل زوجة الرئيس إلى حجرات صغار الموظفين والمفروض أنها مشغولة بهم لولا المصادفة!

أما المسرحية الرابعة (دنيا المال) فتقوم على شيخ بخيل يذكرني بصفة خاصة بهارباحون بخيل (موليير). . ولا أدري كيف ينسى هذا البخيل العتيد أن يجعل للتلفون قفلاً ويتركه لخادمه مفتوحاً في حين أنه أوثق الرتاج على البن والسكر! ولا أدري كيف يبقي خادمه (بسطويسي) عنده عشرين عاماً متوهماً بأن له في (الوقفية) نصيباً وهو أدرى الناس بسيده وبكاذب وعوده؟ ولا أدري لماذا يأنى (عدلي كاسب) بحركات جسيمة كثيرة جدا لا مدلول لها في تصوير هذا البخيل؟ ولا أدري لماذا لم يظهر (عبد الرحيم الزرقاني) و (كمال يس) في صورة الكهلين الجليلي المنظر كما أرادهما المؤلف؟ ولماذا يكره الناس الكهولة حتى في التمثيل؟

وبعد: فهذه كلمة عرضنا فيها المسرحيات الأربع التي ألفها الكاتب الكبير الأستاذ توفيق الحكيم، ونجمل الرأي فيها بأنها خفيفة الظل جيدة الحوار حسنة اللغة، وأنهكان من سوء حظها أن وقعت في يد ناشئ لا يكتفي بأن يكون ممثلا ولا يرضى إلا بأن يكون مخرجاً أيضاً رغم عدم توفر الوسائل لديه، ووقعت في يد ممثلين كانوا أضعف من المسرحيات كثيراً.

علي متولي صلاح