مجلة الرسالة/العدد 1018/مبادئ العالم الحر!
→ هذه الثورة. . من صنعها | مجلة الرسالة - العدد 1018 مبادئ العالم الحر! [[مؤلف:|]] |
المعاني الحية في رسالة محمد ← |
بتاريخ: 05 - 01 - 1953 |
للأستاذ سيد قطب
(العالم الحر) اسم يطلقه الاستعماريون في إنجلترا وفي فرنسا وفي أمريكا على تلك الكتلة الاستعمارية التي تكافح ضد الزمن، وتقاتل ضد الإنسانية، وتقاوم ضد الحرية. ثم تطلق على نفسها في النهاية اسم (العالم الحر)!
و (العالم الحر) مشغول في هذه الأيام بتمزيق إهاب (الحرية) في تونس ومراكش وفي كينيا وفي فيتنام. . وفي كتم أنفاس (الأحرار) في كل مكان لأن رسالة العالم الحر هي أن يكون حراً في قتل الحرية حسبما يشاء!
و (العالم الحر) يرتكب من الجرائم ما يقشعر له ضمير البشرية. وذلك رغبة في نقل مبادئ الحضارة الغربية إلى القارة المظلمة. وإذا كانت هذه القارة لا تريد أن تتحضر على يد البعثات التبشيرية فلتتحضر إذن بالسيف والمدفع والطيارة والدبابة؛ وهي أقدر ولاشك على نقل مبادئ الحضارة إلى الشعوب المختلفة!
و (العالم الحر) يشرد الشعوب من ديارها - على نحو ما فعل في فلسطين - وذلك رغبة منه في أيجاد (لاجئين) يتولى رعايتهم، والعطف عليهم، وإقامة الخيام لهم في العراء. فمبادئ العالم الحر تقتضي العطف على المشردين، الذين لا وطن لهمفي هذه الأرض المعذبة!
و (العالم الحر) يتساند ويتكاتف في هذه المهام الضخام. أليس الدولار هو الذي يشد من أزر فرنسا في تونس ومراكش وفيتنام، ويشد من أزر إنجلترا في كينيا ومصر وفي كل مكان؛ ويشتري الصحف والأقلام والجماعات والجمعيات والرجال والنساء في هذه الأيام؟!
وأنا لا أعيب على (العالم الحر) أن يمزق إهاب الحرية ويمثل بجثث الضحايا من الأحرار، ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ في القرى الآمنة، ويرتكب الجرائم الوحشية التي يرتكبها بلا تحرج. . فإن هدفه السامي من وراء ذلك كله واضح - كما قلت - وهو نقل بادئ الحضارة الغربية بطريقة عملية إلى الشعوب المتأخرة، التي لا يجوز أن تظل متأخرة!
إنني لا أعيب على هذا (العالم الحر) حريته هذه. حرية وحوش الغابة في أنت صنع في الغابة ما يؤهلها له الظفر والناب. فمبادئ الحضارة الغربية هي هذه كما كانت وكما هي كائنة، وما ستكون حتى يأذن الله لها بالفناء
كلا! إنما أنا أتلفت إلى شعوبنا وحكوماتنا ومفكرينا وكتابنا وشعرائنا وجماعاتنا وجمعياتنا. . ألفت إليهم لأرى هل سكتت الأبواق التي تهتف بحمد الحضارة الغربية؟ هل خرست الألسن التي تتحدث عن الصداقة الأمريكية والصداقة الإنجليزية والصداقة الفرنسية؟ هل انزوت الجماعات والجمعيات التي تحمل ألوية الصداقة مع (العالم الحر) وتشيد بجهوده في الخدمات الاجتماعية والتعليم الأساسي واليونسكو والنقطة الرابعة وسائر الوسائل الاستعمارية الحديثة التي تنجز في صخرة المقاومة الشعبية؟
أتلفت لأرى هذه الأبواق لا تزال مفتوحة، ولأرى هذه الألسنة ما تزال طليقة، ولأرى هذه الجمعيات والجماعات ما تزال تتبجح وتعلن عن نفسها بلا حساب، وتنفق الأموال الضخمة في هذا الإعلان، والدولار من خلفها يمكن لها من العمل ويمكن لها من الإعلان!
إن (العالم الحر) لا يحاربنا بالمدفع والدبابة إلا في فترات محدودة؛ ولكنه يحاربنا بالألسنة والأقلام ويحاربنا بالمنشآت البريئة في مركز التعليم الأساسي، وفي هيئة اليونسكو، وفي النقطة الرابعة؛ ويحار بنا بتلك الجمعيات والجماعات التي ينشئها وينفخ فيها ويسندها ويمكن لها في المراكز الحساسة فيبلادنا. . . وأخيراً فإنه يحاربنا بأموال أقلام المخابرات التي تشتري الصحف والأقلام، وتشتري الهيئات والجماعات.
وواجبنا نحن أن نكافح، واجبنا أن نكافح الوسائل الاستعمارية الحديثة، ونكافح الهيئات والجماعات والمؤسسات التي تيسر العمل لهذه الوسائل: مهما كانت أسمائها بريئة إن الاستعمار الروحي والفكري هو الاستعمار الخطير حقاً. فاستعمار الحديد والنار يثير المقاومة بطبيعته، ويؤرث الأحقاد القومية التي تقتلع الاستعمار من أساسه. أما الاستعمار الروحي والفكري فهو استعمار ناعم لين، مخدر، ينوم الشعوب ويستل أحقادها المقدسة التي يجب أن تتأجج، وتستحيل ناراً وشواظاً يحرق ويدمر الاستعمار عملاءه في يوم من الأيام.
لقد قام بيننا في وقت من الأوقات رجل يسمى (أمين عثمان) يحمل لواء الصداقة الإنجليزية في فجور وتبجج، ويؤسس جمعية نادي العلمين. كما قامت في ظله (جماعة إخوان الحرية). ولقد هرعت الشخصيات الكبيرة يومها إلى أمين عثمان وجمعيته. الشخصيات المستوزرة التي تشمرائحة الحكم من عشرات الأميال. . . ولكن حاسة الشعب السليمة ظلت تنفر من الرجل وجماعته على الرغم من انضمام (الشخصيات الكبيرة) لأن الشعب يعرف قيمة هذه الشخصيات ودوافعها!
واليوم يقوم رجل آخر بدور أمين عثمان. يقوم به في محيط آخر وتحت عنوان آخر. وتهرع الشخصيات الكبيرة ذاتها إلى الانضمام إليه. . . وما من شك في أن الأمة بحاستها السليمة ستظل في معزل عن هذه المحاولة الجديدة. . ولكن الاطمئنان إلى حاسة الأمة لا يجوز أن يقعد بالشباب الواعي عن التنبيه إلى هذا الخطر الجديد، وإلى التحذير من وسائله الناعمة وعنوانه البريء.
إن الحرب المقدسة مع الاستعمار اليوم تقتضي تخليص ضمائر الشعوب أولاً من الاستعمار الروحي والفكري، وتحطيم الأجهزة التي تقوم بعملية التخدير، والخدر من كل لسان ومن كل قلم، ومن كل جمعية أو جماعة تهادن معسكراً من معسكرات الاستعمار، التي ترتبط جميعها بمصلحة واحدة، ومبادئ واحدة. مبادئ العالم الحر ومصالح العالم الحر!
في الغرب يقوم (العالم الحر) وفي الشرق تقوم (الديمقراطية الشعبية) ونصيب هذه الديمقراطية من اسمها كنصيب العالم الحر من اسمه بسواء!
فالديمقراطية الشعبية هي الديمقراطيات التي تحكم حكماً ديكتاتورياً مباشراً، تحرسه الجاسوسية الرهيبة؛ ولا تسمح لفرد من الشعب فضلا على الشعب كله أن يفكر بحرية، لا أن يفكر في الحريةذاتها بحال!
وإذا كان العالم الحر أجهزته وأقلامه وألسنته، فان للديمقراطية الشعبية أجهزتها وأقلامها وألسنتها. . وكلها تعمل في محيطنا العربي والإسلامي. . . وكلها تستحق منا المكافحة كما نكافح الاستعمار. . . إلا أن الاستعمار يجثم على صدورنا اليوم ويخنق أنفاسنا بعنف. والواجب يقتضينا أن نوجه المقاومة الإيجابية للاستعمار، والمقاومة الفكرية للديمقراطيات الشعبية!
والراية التي تجمعنا لنكافح. . . هي وحدها راية الإسلام.
إن بعضنا يؤثرون أن يتجمعوا تحت الراية العربية. . . وأنا لا أُعارض في أن يكون هذا تجمعاً وقتياً يهدف إلى تجمع أكبر منه، فليسهناك تعارض جدي بين القومية العربية والوطنية الإسلامية إذا نحن فهمنا القومية العربية على أنها خطوة في الطريق. إن أرض العرب كلها جزء من أرض الإسلام، فإذا نحن حررنا الأرض العربية فإننا نكون قد حررنا بضعة من جسم الوطن الإسلامي، نستعين بها على تحرير سائر الجسد الواحد الكبير.
والمهم أن نتجمع اليوم ونتساند كما يتساند العالم الحر ضدنا. فكل بلد صغير لا يستطيع وحده أن يكافح عالما. والسياسة القصيرة النظر التي تريد أن تحصرنا في حدودنا الجغرافية المصطنعة هي سياسة حمقاء؛ فالعالم يسير نحو التكتل في الشرق والغرب سواء. ومن واجبنا أن نتكتل على الأقل تمشياً مع منطق العصر؛ إن لم يكن تمشياً مع منطق الإسلام.
والمجموعة الآسيوية الإفريقية تحاول أن تكون كتلة محايدة. ولا ضير من السير معها، وإن كنت أنا شخصياً لا أرى أن هنالك مقومات حقيقية ودائمة لقيامها. فهنالك تيارات مختلفة تتجاذبها. والمصالح التي ترتبط بينها اليوم مصالح مؤقتة. أما الكتلة التي يمكن أن تقوم على أسس حقيقية وعميقة ودائمة فهي الكتلة الإسلامية، وهي آتية لا ريب فيها على الرغم من جهود (العالم الحر) وجهود (الديمقراطيات الشعبية) فلنعجل بقيامها فهي سندنا الحقيقي الوحيد.
سيد قطب