مجلة الرسالة/العدد 1017/ذكرى الأبطال
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 1017 ذكرى الأبطال [[مؤلف:|]] |
الإسلام في موكب الإصلاح: ← |
بتاريخ: 29 - 12 - 1952 |
للأستاذ أنور المعداوي
(فإن مت فأعلن إلى كل مصري أني شاب متزوج ولي ثلاثة أطفال ولي أمي وأخواتي. . . ومع هذا فقد ضحيت بنفسي ليعيشوا أحرارا في بلدهم؛ فالحرية لا تمنح ولكنها تؤخذ بأعز التضحيات وإلى اللقاء إن مت أو عدت!)
هذه كلمات تلقتها مصر يوما عن بطلها الشهيد، وكنت واحدا من الذين عاشوا في ظلالها السخية، وشعروا شعورا عميقا بأنها لم تكن خاتمة رسالة وإنما كانت بداية تاريخ. . أقسم لقد بدأت مصر تاريخها الحقيقي في تلك اللحظة التي سجل فيها أحمد عصمت كلماته الخالدة، وخر بعدها صريعا ليكتبها مرة أخرى بدمه!
إن طلاب الحرية لا يغمسون ريشتهم إلى في دماء القلب، لأنهم لا يكتبون عادة إلا بالمداد الأحمر. . ولقد آثر أحمد عصمت أن يكتب بهذا المداد! آثر أن يكتب به لأنه لم يكن يسطر رسالة لأخيه وإنما كان يسطر رسالة لأمته. . وهكذا نكتب وثائق التحرير ونسطر رسائل الكفاح!
كلمات قليلة ولكنها كثيرة، كثيرة جدا في حساب الشعور. . وكلمات بسيطة ولكنها عميقة؛ عميقة جدا في حساب الفن! إن البلغاء من أمثال أحمد عصمت لا يميلون أبدا إلى الثرثرة. . سطر واحد أو سطران أو ثلاثة، تؤلف في مجموعها كتابا ضخما يهدى إلى جيل من بعده أجيال؛ أجيال ستقف حتما عند كل صفحة من صفحاته لتستنشق عطر الكرمة وتستروح أنسام الإباء!
لم يكن أحمد عصمت بحكم عمله أديبا ولا فنانا، ولكنه كان ضابطا (طيارا) بشركة مصر للطيران. . ومع ذلك فقد أحال الحياة إلى فن، وأحال الموت إلى فن، وقدم لعشاق الفنون أروع الأمثال! لقد كان (محلقا) في حياته، وكان (محلقا) في مماته، وكان (محلقا) في كلماته. . والفن في كل صورة من صوره ما هو إلا (تحليق) في شتى الآفاق والأجواء.
لقد خرج البطل من بيته ذات صباح؛ خرج ونصب عينيه هدف، وملء قلبه أمل، وفي قرارة نفسه عزم وإصرار. . لم ينس إن هناك أما هو بالنسبة إليها الملاذ الوحيد بعد الله، وأن هناك زوجة ألقت بآمال العمر كلها بين يديه، وأن هناك أطفالا لا يعرفون عن الحياة إلا أنها هنا بين أحضانه، هناك هؤلاء حقا ولكنهم يعيشون غير أحرار. . أنه يريد أن يقدم للأم ما هو أبقى من الابن، وإلى الزوجة ما هو أغلى من الزوج، وإلى الأبناء ما هو أخلد من الآباء. أنه يريد أن يقدم إليهم الحرية، وهذا هو المعنى الكبير الذي دارت حوله السطور الأخيرة في رسالته؛ تلك الرسالة التي سجلت نقطة البدء في تاريخ أمة!
إن التاريخ سيروي يوما هذه القصة؛ سيقول للناس إن أحمد عصمت كان عائدا بسيارته بعد أن أدى رسالته؛ بعد أن ذهب إلى المجاهدين على ضفاف القتال ليدفع إلى أيديهم بسلاح وذخيرة، وعند نقطة التفتيش في قرية (أبو حماد) اعترض طريقه عدد من الجنود الإنجليز ليفتشوه! وتلفت البطل ليرى من حوله جمعا من المصريين قد رفعوا الأيدي فوق الرءوس، في موقف يوحي بالضيم ويشعر بالهوان. . وثارت عزة البطل واحتج إباؤه، وقدم إلى الضابط الإنجليزي وجنوده ما يكشف لهم عن حقيقة شخصيته، شخصية الضابط المصري الذي يستنكر التهجم على كرامة المصريين! وانطلقت من فم الإنجليزي السفيه بضع عبارات وقحة، خلاصتها أن المصريين أناس لا كرامة لهم: وفي ومضة البرق كان مسدس أحمد عصمت يلقى على صدر الضابط الإنجليزي أبلغ الدروس ويسكت منه اللسان القذر، ويخمد الصوت الأثيم! وانهال الرصاص الغادر من كل صوب على البطل المصري الباسل، ولكنه قبل أن يودع الحياة؛ كان قد أكد لخصومه أن كرامة مصر فوق الحياة!!
أحمد عصمت ومن قبله هؤلاء الأبطال: عادل غانم، وعباس الأعسر، وأحمد المنيسي، وعمر شاهين؛ طلاب الجامعة الذين عاشوا أطياف نجد وأرواح فداء. . لقد كان مقامهم في الدنيا أشبه بمقام الورد: عمرهم من عمره، ونظارتهم من نظارته، وإن كان عطر ذكراهم أبقى على الزمن من عطر شذاه! لقد ضحوا راضين بأيام الشباب؛ بما فيها من أمل، بما فيها من مثل، بما فيها من أهل وأحباب. . أعذروهم فقد كانوا عشاق حرية في هواها كم عرفوا معنى الوجد، وكم ذاقوا طعم السهد، وكم جادوا بالدمع فلما أعرضت. . جادوا بالحياة!!
لقد كانوا في الجامعة طلابا ولكنهم كانوا على ضفاف القنال أساتذة. . أساتذة كفاح لم يفتحوا الكتب قبل أن يلقوا دروسهم على الناس، وإنما فتحوا القلوب وحدها ليحيلوا الخفقات فيها إلى محاضرات وما كان أروع فهمهم للكرامة، وما كان أعمق إدراكهم للحرية. . لقد قالوا لمصر كلمتهم وهم يسيرون إلى الأمام محددين لها معالم الطريق: أنه مرهق ما لم يستعن عليه بالصبر، أنه طويل ما لم تختصر إليه رحلة العمر، أنه مظلم ما لم تضيء جوانبه شعلة الإيمان! قالوها ومضوا في طريقهم إلى لقاء الله. . وقبل أن يلحق بهم أحمد عصمت كان قد أضاف إلى الدروس دروسا، وإلى الكلمات كلمات: (فإن مت فأعلن إلى كل مصري أني شاب متزوج ولي ثلاث أطفال ولي أمي وأخواتي، ومع هذا فقد ضحيت بنفسي ليعيشوا هم أحرارا في بلدهم، فالحرية لا تمنح ولكنها تؤخذ بأعز التضحيات). . إن أحمد عصمت يوجه الخطاب هنا إلى كل من له أم يشفق عليها من الثكل، وكل من له ابن يخشى عليه من اليتم، وكل من له شريكة حياة يجزع من أن يتركها وحيدة في الحياة؛ وهذا هو دستور الكرام وإن شئت فقل أنها شريعة الأحرار!!
هناك، على ضفاف القنال، في تلك البقعة المجاهدة، سالت على رمال الصحراء دماء الأبطال. . ماتوا، ولكنهم أثبتوا للدنيا أننا أحياء! توقفوا، ولكنهم أقنعوا العالم بأننا نسير! سكتوا، ولكنهم أسمعوا الزمن صوت الأباة!
إن التاريخ يجب أن ينحني لهم في خشوع؛ يجب أن يفرد لهم من صفحاته أبرز مكان؛ يجب أن يقدمهم إلى عصوره المقبلة على أنهم كانوا صورة ضمها أجمل إطار!!
أنور المعداوي