مجلة الرسالة/العدد 1015/الكتاب ولوازمهم
→ دموع البطل! | مجلة الرسالة - العدد 1015 الكتاب ولوازمهم [[مؤلف:|]] |
من الشعراء والأدباء الشباب في العراق ← |
بتاريخ: 15 - 12 - 1952 |
للأستاذ محمد فرحات عمر
دعاني إلى كتابة هذا المقال أمران طالما أثارا من دهشتي وعجبي:
أولهما ما راعني من التزام أكثر كتابنا بعض عبارات لا يسبغون عنها حولا، ولا يريدون بها بديلا.
وثانيهما مدى دلالة هذه اللوازم على شخصيات ملتزميها، بحيث يمكن أن تكون عنوانا لها ومرشدا عليها، ونبراسا مضيئا يكشف لنا عن أغوارها، وعما يختلج في لواعجها من مشاعر وميول.
وأول ما يصادفنا من هؤلاء الكتاب هو الدكتور طه حسين؛ فمن لوازمه قوله دائما (مهما يكن من شيء) و (ما استطعت إلى ذلك سبيلا)، هذا إلى جانب استعماله للمفعول المطلق استعمالا ظاهرا يثير الانتباه ويدعو إلى الالتفاف! وهذه اللوازم إن كانت جديرة بالاهتمام فهي من حيث أنها عنوان أمين لكيانه النفسي ومسبار صادق لسبر أغوار هذه الميول وتعقب أسباب هذه الأهواء التي ضربت بجذورها في أعماق هذه النفس الكبيرة. فبديا نعلم أن الدكتور طه قد فقد بصره إبان طفولته، فلا غرو أن تولد عن هذا فيما أسماه آدلر بمركب النقص الذي كان حافزا له على اصطناع أسلوب تعويض من شأنه أن يحقق تكامله الشخصي كفرد سوى.
ويجمل بنا كي ينجلي الأمر أمام القارئ أن نأخذ في بسط معنى (المركب) وفي التعريف بمعنى (النقص) بغاية الإيجاز ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. أما المركب فنعني به مجموعة العواطف التي تندس في العقل الكامل فتوحي إلينا باتجاهات خاصة وتملي علينا سلوكا معينا قد يستعصي علينا تعليله ونحار في فهم أسبابه فقال فرويد بمركب أوديب وقال آدلر بمركب النقص معتمدا في هذا على نظريته الغائية في حب السيطرة. . والذي يعنينا هو مركب النقص الذي يتولد عادة في أيام الطفولة حين يشعر الطفل بضعفه إزاء المحيط الخارجي، وقد يطول به الأمد إلى أيام الشباب ولكنه لا يجنح إلى الظهور ولا يحمي وطيسه عند الفرد إلا في حالة نقص طبيعي ظاهر والمصاب به يشعر بقصوره، ومن ثم يدأب على أن يخلق من نقصه كمالا وذلك في نطاق الظروف المواتية والأحوال الموائمة وعلى قدر الذكاء الموروث. وهذا السلوك التعويضي قد تترتب عليه نتائج بعيدة المدى تدعونا إلى العجب والإعجاب معا. ومن سمات المصاب به أن يكون كثير التهكم على الناس، عابثا بهم، ساخرا منه. ومن شواهدي على ذلك ما نراه من برناردشو وأبي العلاء مثلا. على أن المصاب به قد لا يجحد العبقرية كائنة ما كانت في أي شخص، ولا يفكر بالعظمة حتى يخر لها ساجدا، وكأنه حين يصل القمة في إيمانه بالغير يكون قد وصل الذروة في إيمانه بنفسه. فلقد كان شو على تهكمه اللاذع بالناس، وسخريته المقذعة منهم، شديد الاحترام للنبوغ، فلقد أبدى تواضعا غير معهود فيه حين قابل غاندي وقال له أقدم لك نفسي أنل المهاتما الصغير. كذلك أبدى احتراما فائقا حين جمعته الظروف بأنشتين. وعلى هذا الحال كان أبو العلاء المعري على عبثه بالناس معجبا بالمتنبي إلى حد التقديس!
ومن الإمارات التي تهدينا أيضاً إلى التعرف على شخصية الرجل الذي تنطوي نفسه على هذا المركب تكلفه السلوك وتصنعه له تصنعا ظاهرا يدعو إلى العطف والإشفاق.
والمحلل لشخصية عميد أدبنا العربي يعرف عن كثب مقدار تغلغل هذا المركب في نفسيته، وإلى أي حد كان حافزا له على المثابرة والكفاح حتى تألق نجمه وأصبحت له هذه المكانة المرموقة. فالسخرية من الغير هي مسلاته. . . وعبادة العبقرية أو على الأصح عبادة نفسه بطريق غير مباشر، أطيب الأمور إلى نفسه، فما أظن إعجابه بأبي العلاء وإشادته بذكره وتعصبه له، إلا إعجابا بنفسه وإشادة بذكره. وأنا أذكر على سبيل المثال هذه المناقشة التي قامت بينه وبين أحد نواب الوفد في قاعة البرلمان والتي ختمها الدكتور طه بقوله (إن طه حسين هو اللغة العربية).
ومن ثم فلا غرو أن كان لسان حاله يردد (مهما يكن من شيء) و (ما استطعت إلى ذلك سبيلا) ثم لا يلبث بعد ذلك إلا ريثما يستعمل المفعول المطلق استعمالا ظاهرا كأنه يرمي إلى توكيد ما ردده من قبل. فكل هذه اللوازم تدل على أنه قد طرح عن نفسه كل يأس، وخلع عليها كل فضل فوطدها على العمل وعقد عزمه على الشد من أزرها مهما كانت الظروف والملابسات.
والآن ننتقل إلى كاتب آخر هو الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد. . ولكاتبنا لوازم عديدة يعنينا منها هنا كلمة لا مراء وكلمة (مليحة) يعني أن فلانة جميلة! فبهاتين اللازمتين يمكننا أن نهتدي إلى (مفتاح) شخصية الكاتب الكبير فبديا الأستاذ العقاد رجل عاطفي إلى أبعد ما يتصور المرء، فإذا صادق تحمس في صداقته إلى حد أن يرفع صديقه إلى مصاف العظماء، وإذا سخط على أحد أو غضب منه أنزله أحط مرتبة وأسفل درك. فكلنا يذكر أيام خروجه على الوفد وأي حملة حملها عليه وأي تجريح وتقريع صبهما على رأس الوفد ورئيسه. هذا مثل حي من عداوته، أما صداقته فأنا أذكر على سبيل المثال رواية طريفة: كنت يوما بمجلسه وتجاذبنا أطراف الحديث في السياسة حتى انتهى بنا المطاف إلى الكلام عن شخصية المرحوم محمود فهمي النقراشي فما كان من الأستاذ إلا أن بادرنا بقوله (إن النقراشي في رأيي لا يقل إطلاقا عن المهاتما غاندي إن لم يزد) لقد قال الأستاذ قولا عظيما لا أظن أحدا يوافقه عليه؛ ولكن هذا هو إذا صادق فطوبى لصديقه، كما أنه لو عادى فويل لعدوه. ومن كانت هذه حاله فهو إنما ينظر إلى قيم الأشياء بوجهة نظر ذاتية لا بوجهة نظر موضوعية فهو يقومها بمقتضى هواه وبحسب ما يشتهي. ومن كان دأبه هذه النظرة فهو رجل شديد الإيمان بنفسه عظيم الاعتداد بشخصه! وعلى ذلك فلا عجب إن لازمت الأستاذ العقاد كلمة مثل (لا مراء) سداها الحسم ولحمتها القطع! بل العجب كل العجب ألا تلازمه مثل هذه (اللازمة).
وليس مما يشبن الرجل أو يقلل من قدره أن يقال عنه أنه معتد بنفسه، فإن هذا لعمري شيمة كل رجل عظيم لم يعرف قدره ولم يلق تكريما من أهل عصره، بل على العكس قد يلقي حسد وجحودا وبهتانا عظيما. فالأستاذ العقاد على الرغم من أنه أكثر كتابنا ثقافة وأوسعهم اطلاعا وأقواهم حجة وأرصنهم عقلا وأنظمهم فكرا ما زال أنصاره قلة وأعداؤه كثرة دون ما سبب سوى الهوى المغرض المستبد بنفوس الكثيرين من الناس.
ثانيا: يبدو الأستاذ في كثير من الأحايين متمسكا بالتقاليد الموروثة متعصبا لها، أو بالأحرى فيه حنين دائم إلى الماضي، فما زالت بعض تعاليم التربية التي تلقاها في فجر حياته تتحكم في كثير من تصرفاته وفي تحديد طرائق تفكيره، فهو مثلا لا يوافق على مساواة المرأة بالرجل على النحو الذي ينادي به كثير من أنصارها الآن، وله أدلة على ما ذهب إليه عديدة، بعضها فسيولوجي وبعضها سيكولوجي وبعضها الآخر سوسي ولوجي. . وسواء قويت هذه الأدلة أم وهنت، فإن هذا لا يعنينا في شيء؛ إنما الذي يعنينا هو اتجاه الرأي في ذاته. وزد على هذا أن للأستاذ زيا تقليديا خاصا لا يكاد يتأثر بموجات (المودة) وتياراتها فهو لا يبغي عنه حولا ولا يريد به بديلا. ثم فضلا عن هذا كله فإن ما نراه تغلغل العاطفة الدينية في شخصه تغلغلا لم تزلزله كثرة قراءاته لأفكار الغربيين والتي لولاها لما أخرج لنا كتابه عن الفلسفة القرآنية وسلسلة العبقريات والديمقراطيات في الإسلام. . . أقول إن ما نراه من تغلغل العاطفة الدينية فيه إلى هذا الحد لينهض دليلا كافيا على أنه ما زال متأثرا بملابسات بيئته الأولى. وإذا كان ذلك كذلك وكان الأستاذ العقاد ما زال متأثرا بملابسات بيئته الأولى، فلا عجب أن تظل على لسانه بعض الكلمات التي تتميز بها اللهجة الصعيدية، ولا غرو أن يمتد هذا إلى لغة الكتابة. ومن ثم فإن كلمة فلانة (مليحة) التي رددها مرارا على الأخص في قصة سارة هي لازمة لها مغزاها، ولا يمكن أن تمر على القارئ دون أن تثير انتباهه وتدعوه إلى الالتفات.
بعد هذا يصادفنا المرحوم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني فقد كانت له - رحمه الله - لازمة هي أصدق ما تكون وصفا له ولفلسفته، ألا وهي بسيط ومشتقاتها، فيقول (هذا أمر بسيط) و (أمور بسيطة) (والرد عليه غاية في البساطة) وعلى الرغم من أن هذه الكلمة لا تؤدي المعنى المراد لغويا وإنما هي ترجمة غير دقيقة لكلمة فقد لاقت هوى في نفس كاتبنا، وربما كان هذا لأن الأستاذ المازني كان رجلا بسيطا في نفسه بعيدا عن التعقيد الذي انطوت عليه نفوس أهل زماننا، وربما كان هذا أيضاً لأن الأستاذ المازني كان ينظر إلى الحياة ببساطة منقطعة النظير. أذكر له مقالا كتبه في أخبار اليوم جاء فيه ما معناه: إن الصحافة ليست هي باب رزقه الوحيد فإنه في مقدوره أن ينقطع عنها غير نادم ويعتزلها غير آسف فإنه يملك سيارة يستطيع في يوم وليلة أن تصير (تكسي) كما أنه يستطيع أن يفتتح حانوتا للمرطبات وهو ضمين بأنه سيكسب من الكوكا كولا وحدها قدر ما يقتضيه من صاحبة الجلالة الصحافة. إن فكرة هذا المقال تدلنا على أنه كان ينظر إلى الدنيا على أنها يسر في أحرج مواقفها، وأشد أزماتها. وكذلك كان رحمة الله بسيطا في حياته الفكرية، فأبغض شيء عنده هو قراءة الفلسفة كما صرح بهذا في كتابه قبض الريح، وقال ما معناه أنه لا يفهمها ولا يهضمها ولا يرى طائلا ما تحتها. ثم لقد كان أسلوبه نموذجا للسهل الممتنع، كنت أقرأ له فيهيأ لي لأول وهلة أني بصدد كلام دارج، ولكني لا ألبث إلا أن أرجع عن ضني وأقول في نفسي ويحك يا فلان لقد ظلمت الرجل. . . والواقع ما ظلمت إلا نفسي. . .
إن المازني كان بسيطا، في جميع وجوه حياته، ولقد كانت هذه اللازمة هي أصدق ما تكون وصفا له ولفلسفته، رحمة الله لقد كان عظيما في بساطته.
يقابلنا بعد هذا كاتب له طابعه الفكري الخاص هو الأستاذ سلامة موسى وثقافة كاتبنا تكاد تكون غربية بحتة وهو يرى أن مهمته الكتابية تنصب على صبع الفكر الشرقي بالروح الغربية، وهو كثير التنبيه إلى هذا! ولذا كانت عبارته المأثورة التي يلتزمها وهي (مما هو ذو مغزى) خير ما تعبر عن التنبيه إلى نياته وما استقرت عليه أفكاره. إن الأستاذ صاحب رسالة يرنو إلى تحقيقها، أنه يرى وجوب هجر التراث العربي والأخذ بتلابيب الثقافة الأوربية وحدها. هذا هو مغزى كل كتاباته على اختلافها؛ وهو يريد من القراء الالتفاف إلى هذا المغزى. . فلا مناص إذن من التنبيه بعبارته التقليدية كلما اقتضت الحاجة ذلك.
هذه لوازم بعض كتابنا الكبار، ولقد شاهدنا مما سبق كيف أن هذه اللوازم لم يكن وجودها اتفاقا وصدفة، بل هي ترجع إلى أساس مكين في نفوس أصحابها. . . حقا إن الأسلوب هو الشخصية. . . أو قل إن اللوازم من الشخصية.
محمد فرحات عمر