الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1014/الميسر والأزلام

مجلة الرسالة/العدد 1014/الميسر والأزلام

مجلة الرسالة - العدد 1014
الميسر والأزلام
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 08 - 12 - 1952

6 - الميسر والأزلام

للأستاذ عبد السلام محمد هارون

العامل الديني:

كان (هبل) أعظم صنم لقريش في مكة، وكان مكانه في جوف الكعبة وفيه يقول ابن الكلبي: (وكان فيما بلغني من عقيق أحمر، على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدا من ذهب). وهو الذي قال له أبو سفيان بن حرب حين ظفر يوم أحد:

أعل هبل!

- أي أعل دينك - فقال رسول الله ﷺ:

الله أعلى واجل!!

عند هذا الصنم الجليل القدر لديهم كانت توضع (الأزلام)، ويقوم الكهان أو السدنة بإجالتها وإفاضتها لمن يريد الاستقسام، إعظاما للأمر الذي يبتغونه، فهم يختارون موضع القضاء في أقدس مكان لهم، وإعظاما للحكم الذي يرتضونه، فإن الذي حكم به هو سادن الكعبة أو أحد كهانهم.

فكانوا يذهبون إلى (هبل)، ومعهم (مائة درهم) و (جزور)، ويعطونها لصاحب القداح الذي يضرب بها، ثم يقربون صاحبهم الذي يريدون الحكم في نسبه إن أرادوا، ثم يقولون: (يا إلهنا، هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه!) ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب! فيجيل القداح ويفيضها، فإن خرج (منكم) كان منهم وسيطا، وإن خرج (من غيركم) كان حليفا، وإن خرج (ملصق) كان على منزلته، لا نسب له ولا حلف.

وإن استشاروه في أمر يقتضي (نعم) أو (لا) فخرج (نعم) عملوا به، وإن خرج (لا) أخروا الأمر عاما كاملا ثم أتوا مرة أخرى يستقسمون بالأزلام.

بهذا العامل الديني، وبهذا الشعور الروحي الوثني استقسم عبد المطلب بن هاشم مرتين:

1 - في حفر بئر زمزم، حينما أمر في منامه عدة مرات بحفرها، وقام ليقضي ما كتب عليه في منامه، فحفر في البئر - ولم يكن له من الولد حينئذ إلا الحارث بن عبد المطلب - فلما تمادى به الحفر وجد فيما حفر غزالين من ذهب خالص، ووجد أسيافا قلعيه وأدراعا، فقالت له قريش: يا عبد المطلب، لنا معك في شرك وحق!! قال: لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم، نضرب عليها بالقداح. قالوا: وكيف نصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج له قدحاه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له. قالوا: أنصفت! فجعل قدحين (أصفرين) للكعبة، وقدحين (أسودين) لعبد المطلب، وقدحين (أبيضين) لقريش، ثم أعطوا تلك القداح لصاحب القداح التي يضرب بها عند (هبل)، فضربها على الغزالين فخرج (الأصفران) فكانا من نصيب الكعبة، ثم ضربها أخرى على الأسياف والدروع فخرج (الأسودان) فكانا من نصيب عبد المطلب، وتخلف قدحا قريش لم يظفرا بشيء. فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب، فأرضى بذلك نفسه وشعوره الديني العميق، وحسم الخلاف بينه وبين قومه بما حكم به (هبل)، وهو الذي لا يرد له قضاء!!

2 - والمرة الثانية حينما نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر بئر زمزم واستخفافهم به لقلة ولده: لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم لله عند الكعبة!! فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟ قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني. فغفلوا ثم أتوه، فدخل بهم على (هبل) في جوف الكعبة، وكان منصوبا على بئر يجمع فيها ما يهدي إلى الكعبة. فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها قام عبد المطلب عند (هبل) يدعوا الله جاهدا، ثم ضرب صاحب القداح فخرج القدح على (عبد الله) وهو أعز ولده عليه، فأخذ عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها، وكذلك قام بنوه، فقالوا: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه! لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا؟!

وكان أن لجئوا إلى عرافة في (خيبر) يسألونها في ذلك، فقالت: كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل. قالت، فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرا من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضى ربكم ونجا صاحبكم!

فرجعوا إلى مكة وضربوا بالقداح بين عبد الله وبين عشر من الإبل، فخرج القدح على (عبد الله)! فزادوا عشرا وضربوا، ثم زادوا عشرا وعشرا حتى بلغت مائة، فضربوا فخرج القدح على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب فزعموا أن عبد المطلب: قال لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات! فضربوا ثلاث مرات توثيقا للأمر، كل ذلك يخرج القدح على الإبل المائة. فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع.

فهاتان الحادثتان تدلان على مقدار خضوع سادة العرب وأشرافها لحكم الأزلام، ومبلغ اضطرارهم وتقديسهم لأحكامها.

تقديس الأزلام

وبلغ من تقديسهم للأزلام أنهم جعلوا في البيت الحرام صورة لإبراهيم عليه السلام، وفي يده الأزلام التي يستقسم بها.

وفي حديث فتح مكة أن رسول الله ﷺ دخل البيت فرأى إبراهيم وإسماعيل بأيدهما الأزلام.

قال ابن هشام: (وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله ﷺ دخل البيت يوم الفتح فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم عليه السلام مصورا في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: قاتلهم الله، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام؟ ما شأن إبراهيم والأزلام؟! ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا، ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين. ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست).

وفي مسند أحمد برقن 3093 عن ابن عباس (أن رسول الله ﷺ لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل. عليهما السلام، في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله ﷺ قاتلهم الله! أما والله علموا ما اقتسما بها قط).

الأزلام في التاريخ الديني القديم

نص القرآن الكريم على حادثين اثنين كان للأزلام فيهما نصيب، ولكنها لم تكن على ما كانت عليه عند العرب من التقديس الوثني، بل كانت بمثابة القرعة التي سيأتي الكلام عليها:

الحادث الأول أشار إليه الكتاب الكريم في قوله تعالى: (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) آل العمران 44

والحادث الثاني أشار إليه قصة يونس: (فساهم فكان من المدحضين). الصافات 141

1 - أما الأول فهو ما كان من أمر زكريا عليه السلام. روى أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون - وهم في بيت المقدس كالحجة في الكعبة - فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة! فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، وكانت بنوا ماثان رءوس بني إسرائيل وملوكهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها. قالوا: لا حتى نقترع عليها. فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر الأردن فألقوا فيه (أقلامهم)، فأرتفع قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكلفها.

واختلف المفسرون في هذه الأقلام فقال بعضهم: هي أقلام الكتابة كانوا يكتبون بها التوراة، فاختاروها للقرعة تبركا بها وقال بعضهم: الأقلام هنا الأزلام، وهي القداح.

وقال أبو مسلم: كانت الأمم يكتبون أسمائهم على سهام عند المنازعة، فمن خرج له السهم سلم له الأمر. وهو شبيه بأمر القداح التي يتقاسم بها الجزور.

وقال ابن قتيبة: وكانوا تشاحوا في كفالتها، فضربوا بالقداح، وهي الأقلام، فخرج قدح زكريا فكفلها.

2 - وأما الثاني فما كان من أمر السفينة التي ركب فيها يونس عليه السلام فرارا من قومه، حين ذهب مغاضبا، فلما أبعدت السفينة في البحر ويونس فيها ركدت، فقال أهلها: إن فيها لمن يحبس الله السفينة بسببه فلنقترع. فأخذوا لكل منهم سهما على أن من طفا سهمه فهو، ومن غرق سهمه فليس إياه. فطفا سهم يونس، ففعلوا ذلك ثلاثا تقع القرعة عليه، فأجمعوا على أن يطرحوه، فألقى بنفسه فلتقمه الحوت.

وقصة يونس هذه - وتسمية كتب العهد القديم يونان - مذكورة بتفصيل في سفر (يونان) جاء في الإصحاح الأول:

(فقام يونان ليهرب إلى (ترشيش) من وجه الرب، فنزل إلى يافا ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش، فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب. فأرسل الرب ريحا شديدة إلى البحر فحدث نوء عظيم في البحر حتى كادت السفينة تنكسر. فخاف الملاحون وصرخوا كل واحد إلى إلهه وطرحوا الأمتعة التي في السفينة إلى البحر ليخففوا عنهم. وأما يونان فكان قد نزل إلى جوف السفينة واضطجع ونام نوما ثقيلا. فجاء إليه رئيس النوتية وقال له: ألك نائما. قم اصرخ إلى إلهك عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك. وقال بعضهم لبعض: هلم نلقي قرعا لنعرف بسبب من هذه البلية. فالقوا قرعا فوقعة القرعة على يونان. فقالوا له: أخبرنا بسبب من هذه المصيبة علينا. ما هو عملك ومن أين أتيت؟ ما هي أرضك ومن أي شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبراني وأن خائف من الرب إله السماء الذي صنع البر والبحر. فخاف الرجال خوفا عظيما وقالوا له: ماذا نصنع بك ليسكن البحر عنا. لأن البحر كان يزداد اضطرابا. فقال لهم: خذوني واطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم لأنني عالم أنه بسببي هذا النواء العظيم عليكم). . (ثم أخذوا يونان في البحر فوقف البحر عن هيجانه، فخاف الرجال من الرب خوفا عظيما وذبحوا ذبيحة للرب ونذروا نذورا: وأما الرب فأعد حوتا عظيما ليبتلع يونان، فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال).

وبعد أن يسرد سفر (يونان) صلوات (يونان) في جوف الحوت يقول: (وأمر الرب الحوت فقذف يونان إلى البر).

فهاتان القصتان على ما فيهما من حمل المفسرين الأقلام فيهما والمساهمة على معنى أزلام الجاهلية، لا ريب أن ما فيهما من صنيع هو بعيد كل البعد عن صنيع أهل الجاهلية فيما كانوا يجعلون لتلك الأزلام من قداسة ومن شرائط دينية وتقاليد خاصة، وإنما هاتان ضرب من (القرعة) لا يزيدان عن تلك شيئا ولا ينقصان شيئا.

والنص الذي سقته من سفر يونان مؤيدا أنها قرعة بعيدة عن الاستقسام الوثني.

التمرد على الأزلام

وقد بدت ظاهرة من ظواهر التمرد على تلك الأحكام الدينية في ما رواه بن الكلبي من أن أمرؤ القيس بن حجر أقبل يريد الغارة على بني أسد، فمر بذي الخلصة - وكان صنما بتبالة - وكانت العرب جميعا تعظمه، وكانت له ثلاثة أقداح: الآمر، والناهي، والمتربص. فاستقسم عنده ثلاث مرات فخرج (الناهي) فكسر القداح وضرب بها وجه الصنم وقال: (عضضت بـ. . . أبيك! لو كان أبوك قتل ما عوقتني!).

ثم قال في ذلك:

لو كنت يا ذا الخلص الموتورا ... مثلى وكان شيخك المقبورا

لم تنه عن قتل العداة زورا

ثم غزا بني أسد فظفر بهم

قال ابن لكلبي: (فلم يستقسم عنده بشيء حتى جاء الله بالإسلام، فكان امرؤ القيس أول من أخفره)

للبحث بقية

عبد السلام محمد هارون