مجلة الرسالة/العدد 1012/سليمان العبسي في ديوانه (مع الفجر)
→ شلر | مجلة الرسالة - العدد 1012 سليمان العبسي في ديوانه (مع الفجر) [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 24 - 11 - 1952 |
للأستاذ احمد الفخري
تتمة
ليس بإمكان النفس المطمئنة أن تستريح والزمن يمضي سريعاً، والجديدان كل يوم في شان، فما بالك بالشاب العربي الجريح، الذي ينتظر بحماس نافذ الصبر يوماً يمسح بعزته ذلة كلومه فلا تزيده الأيام إلا كلوماً. . . والذي يترقب، فارغ الصبر نشيد الحرية والنجاة فلا يسمع إلا نشيد الوهن والخيبة والهزيمة. . . ويل لهذا التعس المفؤود. . . إذا هو اغمض عينيه هزمت عنهما الرقاد ذكريات المآسي، وإن هو منحهما فلا يلمح فيهما إلا ما يحز قلبه وينكأ جراحه.
أين ألقيت ناظري فعلى نصل ... مميت يحتل صدر بلادي
وطن الضاد. يا شهيد الأفاعي ... كل يوم جريمة واعتداء. . .
ويل لهذا الشاعر المسكين. . . ما الذي بمقدوره أن يفعله لهذا الوطن المسكين. . .
ما الذي يستطيع إنقاذه من ... ك قصيد ودمعة خرساء؟
إنه لا يملك إلا نفسه وإلا هذه الأماني. . . فلتهب رفافة ندية تروي هذا القفر تارة، ولتعصف ملتهبة منتقمة تارة أخرى. . .
أإذا ذبت كالندى لأروي ... كل شبر من قفرنا الظمآن؟
أإذا ما أفنيت في ميعة العمر ... انتفاضاً على الاذى، والهوان؟
أإذا ما أحرقت روحي لأهدي ... بسناها مسالك الاظعان؟
هل يعود الربيع والطير يا روض ... هنئ وتغدو الحياة مثل الجنان؟
ليتني كنت في يمين الليالي ... خنجراً. . . ما لشفرتيه أرتواء!
ليتني في صميم كل فؤاد ... أضمر الغدر. . طعنة نجلاء!
ولكنها لا تزال أمنيات ... على أنها لو عاشت في خيال
شاعر غير عربي لحققها له زعماؤه، فلنسأل زعماء العرب، وهذا صف قرن يصولون فيه ويجولون. . . لنسألهم هل استطاعوا أن يحققوها؟ أو فرطوا فيها وساعدوا على فقدانها؟ ويل لأكثرهم من سخرية التاريخ! وويل لهم من حساب هذه الأمة إذا انفجر بركانها. . . آ يا فلسطين.
أوليت أمرك خادعين يمزقونك كيف شاءوا. .
هم داؤك الفتاك لا البؤس الملح. . . ولا الشقاء. .
بدمارك افترشوا النعيم وماج حولهم الثراء. .
بدم الجياع. . . ودمعهم شيدت قصورهم الوضاء. .
مهلا. . سينتهك الستار إذا تكلمت الدماء. .
ماذا؟ أترتقبين خيراً من (جنانك) أو فلاحاً!
يكفيك إغضاء على البلوى. . ويكفينا جراحاً. .
عرفوا القيادة (منصباً) يعلى. . وتضليلاً صراحاً. .
وتجارة يتقاسمون بها دم الشعب المباحا. .
في صدرهم. . يا أمتي - إن تشهري يوماً سلاحا
قالوا: فلسطين فقلنا: دونها وخز القتاد. .
شرف العروبة لن يكون على الأذى سلس القياد
أسمعت أبواق (العبيد) تصم آذان الجهاد؟
وتهز بالخطب الشداد دعائم السبع الشداد؟
وتصيح ناذرة دماها للمعارك والجلاد
أين الجهاد؟ وأين أبواق البطولة. . يا بلادي. .
لفظت فلسطين الحياة (ومجرموك) على الحياد
أو لك يزالوا (يلتقون) على الخيانة والفساد؟. .
أعلمت أين ممزقوك ومسلموك لكل عادي؟
أجل. . . هؤلاء الزعماء هم الذين مزقوا البلاد، وأضاعوا فلسطين. . . كما أضاعوا من قبلها لواء (الإسكندرية) وإذا يزاحوا فستصبح البلاد العربية و (في كل زاوية فلسطين مدينة التراب) وإذا لم يحاسبوا.
ف: خل اللواء فإنهم لن يخجلوا ... أن يجعلوا كل البلاد
يل لهذا المسكين. . ويا لرفاقه الشبان المساكين. . . ويا لهذه البلاد المسكينة. . . أفلا تكفيها مخالب الغاشم المستعمر ليتعاون الزعماء على تمزيقها؟ مهلا أمتي مهلاً. . . فالنهاية لن تطول
ضمدي أمتي جراحك وأمضي ... لك يوماً. . . مع (الجناة) لقاء
سيوافيك من خلال المنايا ... والأعاصير. . . فجرك الوضاء. .
ويا وطني:
قل (لصهيون): دون أحلامك السو ... داء عض الشجا، ولسع القتاد
لم تهن - مثلما ظننت - على الصياد ... يوماً فريسة (الصياد)
لا يغرنك الهدوء على الغا ... ب وتطمعك هجعة الآساد
يعلم الناهلون من دمنا المه ... دور أن الثرات بالمرصاد
ويا شباب العرب:
قولوا (لسيدة البحا ... ر) الموج و (ظلها) من حاكمينها
قولوا لها: ليس الخضم كما أرادته. . . سكونا
إني لألمح خلف ... صمت الموج إعصاراً دفينا
وزعازعاً. . قد تحطم ال ... ربان يوماً والسفينا
إني لألمح في العبا ... ب تمرداً. . . لا بل جنونا
ويا وطني لا تخدعنك الفرحة البتراء. . ولا يغرنك الاستقلال إذا لم يكن شاملا ولم تتم فيه الوحدة: -
أبلغ الشام وهي مائجة الأف ... راح نشوى من فجرها المتهادي
وأغاني (الجلاء) تلعب بالعو ... د كما تشتهي، وبالعواد
لم يحن بعد موعد العرس (فيحاء) ... ولا جر عاطر الأبراد. .
لا تقيمي الأعياد فالفرحة (البت ... راء) شوك في جبهة الأعياد. .
أتغضين عن فجيعتك الطر ... ف أيبقى (الأسير) من غير فادي؟
أفتنسينا؟ ولم ننس يوماً ... أننا نذر فكرة، واعتقاد؟
أتنامين على (ضحيتك) البكر ... أهذا عهد الكرى والرقاد؟
وطني كل بقعة يتجلى ... فوق غبرائها محيا (الضاد) هذا هو العربي الصميم، وهذه هي الوطنية الصادقة التي إذا غشى عليها اليأس قبست من التاريخ الحي في أعماقها ما يجلو الدجى ويزيح الظلام؟
أرأيت أحر من هذا الفؤاد؟ أسمعت أروع من هذا الزئير؟ هذا هو سليمان. . . شعلة متأججة بالوطنية، وشباب يتدفق حماسة، وروح مرهف تدميه هذه المآسي والنكبات وفكر وقاد يرى ويدرك، وخيال خلاق يتصور ويصور، ولسان ماض أتته اللغة منقادة طيعة فصاغ بها تلك الآلام أناشيد دامية تهز الموتى، وأنطق بها تلك الفواجع زفرات مشبوبة تلسع الجماد. . ثم مضى يستوحي التاريخ العربي المجيد أسياده ويوقظ من نام كتابه، حتى ماج ديوانه بالعباقرة والأبطال، وزخر بالبناة الخالدين والقادة المراد. . . بعثهم في أروع صورة، وأنطقهم بأبلغ لسان:
لا تلمني إذا بكيت على الما ... ضي؛ على عربي، على عنفواني
أنا أحيي التاريخ في كل ومضي ... من خيالي، وخفقة من جناني
ثم عاد يصور أقزام هذا العصر تصويرا دقيقا شفافاً أظهر ما أسن في قراراتهم، وبين ما أحتقن في أعماقهم من خور وطمع، وجشع وجبن، ثم عرج على الشعب المخدر يوقظه ويصور له هول مآسيه وجمال ماضيه تصويراً يستفز الجماد ويلهب الجليد.
أتلمست نفساً أحر من هذا النفس؟ وزفرة أطول من هذه الزفرة؟ إنها الأمة حاضرها وماضيها. . لقد انصهرت في عواطفه فصاغها آلاماً وأمالاً. . وسيظل يسقي من هذا المعين الذي في فؤاده، والذي لا ينضب. . وهل تنضب الأمة العربية من إيحاء؟
أما أني - علم الله - لم اسمع مثل هذه الملحمة، ولم تهزني مثل تلكم الأناشيد. . وبقدر ما أنا معجب بها وبصاحبها أتألم له ولها. . وأتمنى لو تحققت آمالها لتحقق آماله ليخف الألم، وليسكرنا سليمان بأناشيد الشباب المرحة الخالدة: -
شعل الحب والصبا والرغاب. .
لست حراً. . لتعصفي بشبابي. . .
إهدئي الآن. . . واقذفي بركاني
في الأعاصير، في لهاة العباب
أنا لو حقق الزمان طلابي. . .
عشت وقفاً على العيون السود ... وأذبت الحياة عنقود. . .
احمد الفخري