الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1012/الميسر والأزلام

مجلة الرسالة/العدد 1012/الميسر والأزلام

بتاريخ: 24 - 11 - 1952


للأستاذ عبد السلام محمد هارون

هل بقي الميسر في الإسلام

كان لأهل الجاهلية الكثير من العادات والنظم الشنيعة التي جاء الإسلام من بعد ونص على تحريمها، ونهى عن مزاولتها ومن ذلك وأد البنات وما كان فيه من شناعة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. ومنها نكاح المقت، وهو نكاح زوجة الأب. ومنها توريث الذكر دون الأنثى. من ذلك شن الحروب فيما بينهم للسلب والتهب، ومنها الميسر، والاستقسام بالأزلام، وشرب الخمر، وكثير غيرها من عادات الجاهلية.

وقد قضى الإسلام على معظم هذه المفاسد قضاءً مبرماً، فلم نسمع بأن شيئاً منها حدث في الإسلام إلا ما كان من شرب الخمر، فإن غلبتها لضعاف النفوس من المسلمين كانت غلبة متصلة الحلقات، لم يسلم عصر ولم يسلم بلد ممن كان يشرب الخمر ويحد فيها، ويلقى جزاء الشارب.

ولكنا لم نسمع ولم نقرأ أن قوماً من المسلمين اجتمعوا لمزاولة الميسر الجاهلي على نحو ما كان يصنع العرب قديماً، فلم تكد تظهر شمس الإسلام على ذلك الباطل حتى أزهقته وقضت عليه قضاء، ومحت معالمه، حتى تعذر على بعض الرواة القريبي العهد بالجاهلية أن يعرف حقيقته أو يظهر على كنهه، وحتى وجدنا إماماً كبيراً من أئمة العربية - وهو الأصمعي - يخطئ في ذلك خطأً ظاهراً، كما أسلفنا القول في المقال الأول.

وحرم الإسلام القمار - وهو ضروب شبيهة بالميسر الجاهلي كما قدمنا - ولكن القمار ظل إلى عصرنا هذا يقترفه الآثمون في صور شتى، ولعل أفشى صوره أظهرها اليوم هو (لعب الورق) الذي صار إثما دولياً يلتقي عليه المصري والأوربي والآسيوي والأمريكي في يسر، وصارت قوانينه عرفاً عاماً بين المتقامرين على شتى أجناسهم وبلدانهم.

والاستقسام بالأزلام

أما الاستقسام فهو طلب القسم، أي ما يقسم للإنسان ويقدر. والأزلام: جمع زلم، بضم ففتح، أو بالتحريك، وهو القدح، بكسر القاف، أو السهم من سهام الاستقسام.

والأزلام ذكرت في كتاب الله مرتين:

أولاهما قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالأزلام، ذلكم فسق).

والأخرى قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من علم الشيطان فاجتنبوه).

وقد اختلف المفسرون في هذه الأزلام، هل هي أزلام الميسر وقداحه، أم هي أزلام أخرى معينة؟ والراجح المعتمد أن المراد بالأزلام في الكتاب العزيز ضرب آخر من القداح يستعمل في أغراض أخرى غير الميسر، سنبسط القول فيما يلي. ويرجح ذلك:

1 - أنها ذكرت في الآية الأولى بعد (النصب) فهاك علاقة بين هذه الأزلام وبين الأنصاب.

2 - وفي الآية الثانية ذكر الميسر، ثم ذكرت الأنصاب ثم الأزلام؛ ولو كانت الأزلام والاستقسام بها شيئاً هو الميسر لما ذكرت في الآية مرة ثانية، أو لذكرت بعد الأزلام مباشرة على طريق الترادف أو نحوه.

3 - قال الأزهري: (وقد قال المؤرخ وجماعة من أهل اللغة إن الأزلام قداح الميسر). وقال: (وهو وهم).

4 - وقال الفخر الرازي: (قال المؤرخ وكثير من أهل اللغة: الاستقسام هنا هو الميسر المنهي عنه، والأزلام قداح الميسر. والقول الأول اختيار الجمهور). يعني بذلك طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح.

5 - ومما يؤيد أن المراد بالأزلام في القرآن غير أزلام الميسر ما روى أبو الدرداء عن رسول الله ﷺ أنه قال: (من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة). فالاستقسام في هذا الحديث مقرون بالتكهن والتطير. وهذا يدل على أنها أزلام الاستخبار والاحتكام لا أزلام الميسر.

6 - وجاء في اللسان رواية عن الأزهري: (ومعنى قوله عز وجل: وأن استقسموا بالأزلام، أي تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم. ومما يبين ذلك: أن الأزلام التي كانوا يستقسمون بها غير قداح الميسر ما روي عن عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو أبن آخي سراقة بن جشعم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة يقول:

جاءتنا رسل كفار قريش يجعلون لنا في رسول الله - ﷺ - وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتلهما أو أسرهما. قال: فبينا أنا جالس في مجلس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم فقام على رءوسنا فقال: يا سراقة، إني رأيت آنفاً أسودة بالساحل لا أراها إلا محمداً وأصحابه. قال: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بغاة. قال: ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت بيتي وأمرت جاريتي أن تخرج لي فرسي وتحبسها من وراء أكمة، ثم أخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخفضت عالية الرمح وخططت برمحي في الأرض حتى أتيت فرسي فركبتها ورفعتها تقرب بي حتى رأيت اسودتهما، فلما دنوت منهم حيث اسمعهم الصوت عثرت بي فرسي، فخررت عنها وأوهيت بيدي إلى كنانتي فأخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضيرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره: أن لا أضيرهم. فعصيت الأزلام وركبت فرسي فرفعتها تقرب بي حتى إذا دنوت منهم عثرت بي فرسي وخررت عنها. قال: ففعلت ذلك ثلاث مرات إلى أن ساخت يدا فرسي في الأرض).

قال الأزهري: (فهذا الحديث يبين لك أن الأزلام قداح الأمر والنهي، لا قداح الميسر).

الأزلام في الشعر العربي

1 - وقد نطق الشعر الجاهلي بأزلام الاستقسام، إذ يقول طرفة:

ففعلنا ذلكم زمناً ... ثم دانى بيننا حكمه

أخذ الأزلام مقتسماً ... فأتى أغواهما زلمه

عند أنصاب لها زفر ... في صعيد جمة أدمه

دانى، أي أقارب. ويعني بالحكم الغلاق بن شهاب السعدي، أنفذه النعمان الأكبر ليصلح بين بكر وتغلب فأصلح بينهم محتكما في ذلك إلى الأزلام. الزفر من العطايا: الكثيرة. يعني بها ما يهدي إلى الأنصاب من قرابين. ووعني بالأدم جلود ما ينحر عندها من الإبل ونحوها.

2 - ونطق الشعر الإسلامي بذلك الاستقسام. قال الحطيئة يمدح أبا موسى الأشعري:

لم يزجر الطير أن مرت به سنحاً ... ولا يفيض على قسم بأزلام يريد أنه لا يتطير من السانح والبارح، ولكنه يمضي متوكلاً على الله عز وجل، ولا يستسقم بالأزلام كما كانت تفعل الجاهلية.

وقال آخر:

هم المجيرون والمغبوط جارهم ... في الجاهلية إذ يستأمر الزلم

3 - ونلمح في الشعر العباسي أيضاً وميضاً من الإشارة إلى الأزلام أو أقداح الاستقسام فيما رواه أبو الفرج من القصة التالية، ن عن محمد وهيب الشاعر قال:

لما ولي الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك قلت فيه شعراً وأنشدته أصحابنا دعبل بن علي وأبا سعد المخزومي وأبا تمام الطائي فاستحسنوا الشعر وقالوا: هذا لعمري من الأشعار التي يلقى بها الملوك فخرجت إلى الجبل، فلما صرت إلى همذان أخبره الحاجب بمكاني فأذن لي فأنشدته الشعر فاستحسن منه قولي:

أجارتنا إن التعفف بالياس ... وصبرا على استدرار دنيا بإبساس

حريان ألا يقذيا بمذلة ... كريماً وألا يحوجه إلى الناس

أجارتنا إن (القداح) كواذب ... وأكثر أسباب النجاح مع اليأس

فأمر حاجبه بإضافتي. فأقمت بحضرته كلما وصلت إليه لم أنصرف إلا بحملان أو خلعة أو جائزة حتى أنصرف الصيف، فقال له: يا محمد، إن الشتاء عندنا علج فأعد يوماً للوداع فأنشدنني الثلاثة الأبيات، فقد فهمت الشعر كله. فلما أنشدته:

أجارتنا إن (القداح) كواذب ... وأكثر أسباب النجاح مع اليأس

قال صدقت فلم يزل يستعيدني هذا البيت وأنا أعيده عليه، ثم قالوا عدو أبيات القصيدة فأعطوه لكل بيت ألف درهم، فعدت فكانت اثنين وسبعين بيتاً، فأمر لي باثنين وسبعين ألف درهم.

للبحث صلة

عبد السلام محمد هارون