الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1012/القصص

مجلة الرسالة/العدد 1012/القصص

بتاريخ: 24 - 11 - 1952


السفينة السوداء

عن الإنجليزية

كانت تحب الأطفال حبا ملك عليها قلبها فلم تر صغيراً إلا وجدت من نفسها دافعا قويا إلى حمله بي يديها ومداعبته، وكانت تعلو ثغرها عند ذلك ابتسامة مؤلمة.

وكانت (لينا) على الرغم من سعادتها الزوجية لما بينها وبين قرينها من الحب المتبادل تشعر بأنها تعسة لأنها لم ترزق قط مولودا يملأ عليها منزلها مرحاً وسروراً. وكانت تتمنى لو أنها فقيرة معدمة تتوسد التراب وتأكل خبز الصدقات على أن يكون بجانبها طفل ينظر إليها نظرة احن من نظرات الملائكة.

وكانت تفكر في ذلك تفكيراً يستغرق الساعات الطوال ولحظها في هذا الأثناء معقود بنقطة من أرجاء الغرفة.

ولقد يحسبها من رآها على هذه الحال تمثالاً لولا أن لونها الدائم التبدل يدل على أنه مستغرقة في التفكير. لكنها كانت حريصة على إلا يطلع زوجها على اشتغال بالها وعلى وجهة تفكيرها، فهي أمامه تضحك وتلعب وتقترح التنزه والتلهي وتزعم أنها سعيدة.

وكانت تدعي أنها لا تميل إلى النسل ولا تبالي أن تقضي بقية العمر كما هي الآن.

وللقد كان صواحبها يقلن لها في السنوات الأولى من الزواج إنها سترزق الأبناء في الوقت المناسب. وكانت تعلل نفسها بذلك. ولكن لما انقضى العام بعد العام وكاد يجف عودها ولم يثمر دب في نفسها دبيب اليأس وظلت في وحدتها تعاني ألمها الخفي. وكانت في بعض الأحيان تأنس بالوحدة لتستمتع بلذة هذا الألم. ولكنها في أحيان أخرى تهرب إلى الضجيج والزحام من الآم الوحدة وكان ملجؤها الأول في الحالات الأخيرة في الحفلات الراقصة ففيها لا يسمع القلب مناجاة نفسه.

وكان زوجها يسر من مرافقتها إلى تلك الحفلات لأنه يحب أن يراها سعيدة. وكانت تقدر له هذا الشعور نحوها وتتمنى لو تستطيع أن تخلي له قلبها من كل حب لولا أن حب النسل كان مالئا فراغ هذا القلب.

والأطفال إن لم يوجدوا فهم معان. ولا بد لتعلق القلب أن يكون بشيء ملموس. ولا بد لك إنسان من تعليق قلبه بإنسان أو بشيء آخر. ولكن (لينا) كانت ترى حولها من الرجال بلداء وما يحيط بها من الأشياء لا يطاق. فبعد أن جالت جولة في ميدان الطرد انتهى بها المطاف إلى حب نفسها، وأخذت تعامل نفسها كأنها تعمل طفلا مدللا فهي تهدي إلى نفسها الهدايا من الجواهر إلى الأزاهير.

وكانت تجلس الساعات الطوال أمام المرآة تبادل وجهها النظرات، وتقبل صفحة المرآة حيث يرتسم ثغرها. وبودها لو تستطيع تقبيل خدها في المرآة. وكانت تناجي نفسها بأعذب الكلمات وتفزع عندما تسمع بعض الاصوات، ثم تفكر في أيام الدراسة وفي الأشهر الأولى من عهد الزواج فتحس بحاجة قوية للبكاء.

وكانت نتيجة هذا التطور في عهود حبها أنها رأت جسامة الفروق بين طفولتها اللاهية وبين شبابها الحزين، فبدأت نفسها المعشوقة تخاف من نفسها العاشقة.

وبدأت كذلك تشعر أنها بعد ازدواج نفسها صارت اكثر وحدة واكثر وحشة، ولجأت من حب نفسها إلى حب زوجها فوجدت فيه ذلك المهذب الذي لا ينسى واجبه والذي يفهمها حق الفهم ويعطف عليها ابلغ العطف.

ولكنه بعد مدة لم يعد يستطيع التفرغ لها فقد كان محامياً واشتغل أخيراً بالسياسية وسعى لترشيح نفسه للعضوية في مجلس النواب. وكان لذلك كثيراً ما يتخلف عن منزله أسبوعا أو أسبوعين. وكان الزوجان في ذلك الوقت يقيمان في مغنى صيفي مجاور للبحر؛ وقد أنست الزوجة بالسكنى في هذا المكان طلباً للوحدة فيه وفراراً مما تشعر به في المدينة من الإغراء، وكان الهواء الخالص في ذلك المصيف يهدئ من أعصابها، ولكن مشغول البال بخاطر واحد لا يمكن أن يستريح سواء أقام في جوار البحر أو في ذروة الجبل.

وكان لا يزورها في هذا المغنى إنسان ولا تزور إنساناً، ولولا زوجها الذي يأتي بين فترات انقطاعه لكانت في هذا المسكن في وحدة كاملة.

واعتادت أن تقضي أوقاتها في هذه الوحدة جالسة في حديقة المنزل وفي يدها كتاب تمر بنظرها فوق سطوره ولا تقرأ شيئا منه أو ماشية في الأدغال المجاورة تقطع الوقت الذي لا تشعر بمروره أو جالسة شاردة الذهن في خواطرها وأمانيها. وكانت ترى بين حين وحين سفينة سوداء فيها صياد شاب تتمنى أن يكون الابن الذي ترزقه مخلوقاً على مثاله.

وكانت تطرب إلى الصوت الذي يحدثه مجدافه في الماء، لكنها إلى جانب هذا الطرب كانت تشعر بشيء من الخوف وتسرع بالعودة إلى منزلها كأنما رؤية هذا الصياد الفرد تضيع عليها سرور الوحدة.

وكانت كثيراً ما تفكر في معيشته فتقول: إن صياداً وزوجته لا يكاد رزقهما المحدود يكفيهما؛ ولكن إذا كان بينهما ابن صغير فقطعة من الخبز عندهما ألذ مأدبة، والكوخ الضيق أرحب بها من ملكوت السماء. . . ثم تذكر حظها وتتنهد. وكانت في كل ليلة يتلو رؤية الصياد تصاب بالأرق وتشتد عليها وطأة الهم حتى تكاد تلقي بكل أثاث المنزل من النافذة في البحر لتكون حياتها بسيطة كحياة الصيادين. وكانت تشعر في هذا الحين كأن إنساناً ينتظرها أو أنها على موعد؛ فهي لذلك تترقب وهي لا تعرف مدى ترقبها، ولا من هو الطيف الذي تنعكس أحلامها عليه.

وكان شعورها جلياً صريحاً فهي تدرك كنهه وإن كانت تجهل سببه. وكانت تدرك أن ذلك الإنسان الذي يصوره لها الشعور مرتبط بها من عهد بعيد وأنها قضت كل هذا العمر في انتظاره.

وكانت في ساعات وحدتها تخاطبه بأعذب الجمل وارقها، وتخال أنها تسمع من فمه السحر الحلال. وأي ضرر في التمادي في حبه؟ أليس شخصاً خفيا يحبها سراً فما يشعر بحبه إنسان؟

وسواء قضت ليلها ناعسة الطرف، أو مؤرقة، فقد كانت تقوم في الصباح مبكرة، فتسقي أزاهير الحديقة، وتتعهد أحاديث النبت منها كأنه مولود جديد. وتهش إلى الفراش الطائر. ثم تجلس في الظلال بين الألوان الزاهية، والروائح العطرة. . .

وفي يوم من هذه الأيام، سمعت طلقة عيار ناري. ثم وقع تحت قدمها عصفور مصاب بهذه الطلقة. ففزعت ووقفت في مكانها، وقد امتعق لونها. . . وبعد لحظة جرى نحوها كلب من كلاب الصيد فاختطف العصفور وظهر على الأثر ذلك الصياد صاحب السفينة السوداء. فلما رآها رفع قبعته محيياً، وهم بأن ينطق بكلمات الاعتذار. . . ولكن ألفاظه اختنقت!. . . فنظرت إليه نظرة طويلة دون أن تتحرك. ومشى نحوها الشاب وقال: (إنني آسف يا سيدتي! لأني ما كنت احسب هذا المفنى معموراً وقد كنت اصطاد في الأدغال المجاورة فأصابت طلقتي طائراً هنا، ولولا اعتقادي أن المكان خال لما دخلته. ولو كنت أستطيع عقاب نفسي على إزعاجك لعاقبتها. .).

فلم تجبه (لينا)! ولكنها أشارت إلى باب الحديقة. . . فأحنى الرجل رأسه ومشى نحو الباب! فلما وصل إليه التفت مرة وأحنى رأسه.

وكانت في هذه الأثناء قد عادت إلى الجلوس، وتظاهرت بأنها تقرأ، ولكن نظرها لم يرتفع عن الصياد، وقد أعجبتها صوته الرخيم الذي لم تسمع مثله قبل الآن، والذي دلت عذوبته على انسجامه مع حسن منظره.

وكانت توازن بين هذا المنظر وبين الرجل الذي تتوهمه وتشعر بأنها مرتبطة به من سالف السنين فلا تحد في الموازنة إلا انطباقاً؛ فخرجت من الباب الذي خرج منه باحثة عنه وقضت في البحث طوال النهار فلم تجده وكانت تسائل فسها: هل يعود؟ وتجيب عن هذا السؤال بأنه لا يمكن أن يعود بعد طردها إياه عندما طلب إليها العفو. وكنت تخجل كلما فكرت في لقائه مرة أخرى لشعورها بأنها ستلقاه، وستعتذر إليه لأنه ليس غريبا عنها ولأن لقاءه كان هو الموعد المنتظر.

وفيما هي تفكر على هذا النحو إذ سمعت صوت مجدافيه في الماء وهو يمر بسفينته أمام المغنى فأطلت من النافذة ورأته يقف لحظة لينظر إلى الحديقة، وأحست بأن السنة تصيح في قلبها بصوت مفرح: (هذا هو! هذا هو!).

ووقع نظره عليها فحدق فيها، وكان هو الآخر كان يحلم بها مثلما حلمها به. وكان يشعر بضعة مكانته وسمو مكانها فلم يجرؤ على مطالبتها بأن تحبه ولكنه تشجع فطلب إليها أن تفصح عنه.

وجرت بينهما جملة صغيرة يسمع الناس مثلها كل يوم ولكن (لينا) تبينت في لهجة هذه الكلمات حباً خالصاً وهوى مشبوباً، ونسيت في هذه اللحظة كل الماضي بل نسيت الحاضر أيضاً.

وسكت كلاهما،، ولكن نظراتهما كانت ابلغ في الخطاب من كل بيان. وقرأت في عينيه تضرعه في الاعتذار فقالت: (لقد عفوت عنك).

ثم ذهبت بعد ذلك منهوكة القوى فألقت نفسها على السرير وبعد تلك الليلة كنت السفينة السوداء تأتى كل يوم إلى المنزل فتنزل لينالاستقبال الصياد في الحديقة وتترك يدها البيضاء بين كفيه وثغره يقلبها كيف يشاء. ولم تعده بشيء آخر ولكنها سمحت له بأن يؤمل أنه قد يجوز في المستقبل أن. . .

وفي أحد الأيام وصل الزوج بعد غيبة طويلة. وكان مهتاجاً مشغول القلب والذهن لأن الوزراء سيزورونه في المساء في معناه وسيكون للوليمة التي سيقيمها لهم شأن عظيم يدنو به من مجلس النواب.

وجرى الاستعداد للحفلة على قدم وساق. وأُضيئت المصابيح على شاطئ البحر وعلى جوانب الحديقة. وجاء الوزراء واشتركت لينا في الجزء الأول من الحفلة. . . فلما دب دبيب الخمر في بدنها وأبدان الزوار غادرت المغنى إلى الشاطئ وركبت في السفينة السوداء مع الصياد للتنزه ساعة أو بعض ساعة تاركة زوجها والزوار. . .

ولما عادت إلى المنزل كانت أضواء الحفلة قد خمدت وأوشك الصباح أن يبزغ. وكان الزوج نائماً يحلم بأنه صارً عضوا في البرلمان فنامت لينا وهي تحلم بالسفينة السوداء وبمولود جميل ستضعه بعد تسعة اشهر.

ع. ن