مجلة الرسالة/العدد 1011/على هامش الدفاع عن الشرق الأوسط
→ بمناسبة الذكرى الثالثة | مجلة الرسالة - العدد 1011 على هامش الدفاع عن الشرق الأوسط [[مؤلف:|]] |
الميسر والأزلام ← |
بتاريخ: 17 - 11 - 1952 |
3 - على هامش الدفاع عن الشرق الأوسط
للدكتور عمر حليق
العوامل الاقتصادية في سياسة توازن القوى
ألمت بالوضع الدولي إبان بعث سياسة توازن القوى عوامل اقتصادية هامة وللاقتصاد في توجيه السياسة العالمية شأن كبير
ففي أعوام 1947 - 1949 أخذ الاقتصاد الأمريكي خاصة والاقتصاد الأوربي (خارج الاتحاد السوفيتي) يمر في نكسات وضائقات اقتصادية لعينة. ففي أمريكا كان الاقتصاد القومي في سنوات الحرب قد توسع بصورة هائلة. فازداد عدد المصانع وتضاعف إنتاجها إلى أرقام فلكية وأصبحت مقدرة السوق الأمريكي على استهلاك المنتجات الأمريكية محدودة مقيدة والسوق الأمريكيهو المستهلك الرئيسي للإنتاج الأمريكي
وكانت الوضعية الاقتصادية في شعوب أوروبا الغربية مزعزعة بسبب الخراب الواسع الذي ألم بذلك الجزء من العالم من جراء الحرب العالمية الأخيرة
وفي آسيا وأمريكا اللاتينية أخذ الوعي الاقتصادي يزداد نموا ويدفع الحكومات والشعوب لأن تلجأ إلى سياسة الاستكفاء الذاتي لتتفادى عودة الاستعمار بألوانه العديدة الاقتصادية والسياسية، ولذلك أصبحت مقدرة الشعوب الآسيوية واللاتينية على استهلاك المنتجات الأجنبية محدودة مقيدة، وذلك لأن الميزان التجاري في دول آسيا وأمريكا اللاتينية يعتمد على تصدير المواد الخام إلى الدول الصناعية في أوربا وأمريكا الشمالية ليحصل مقابلها على عملة أجنبية تعينه على استيراد السلع والمنتجات الصناعية وأصناف التبادل التجاري الأخرى. فإذا أصيب النشاط الصناعي في أوروبا وأمريكا الشمالية بنكسة فإن حاجته من المواد الخام ستضائل، ومن ثم يتضاءل مورد الدول المصدرة للمواد الخام (ومعظمها في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية)، والاقتصاد الدولي الحر حلقة متشابكة الأطراف إذا وهن بعض أجزائها تعرض الكل إلى الوهن
ولم تكن النكسة الاقتصادية العالمية مقتصرة على أوربا الغربية وأمريكا الشمالية - وبالتالي على آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية - بل إنها شملت الاتحاد السوفيتي نفسه ومنطقة النفوذ السوفيتي كذلك. ومثال ذلك سعي روسيا للسيطرة على الاتحاد اليوغسلافي وسعي يوغسلافيا للتحرر من هذه السيطرة وما أدى هذا الصراع إلى قطيعة سياسية تامة بين البلدين
إلا أن أخطار الضائقات الاقتصادية العالمية تختلف باختلاف المناطق والشعوب والنظم الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها الشعوب والحكومات
ففي ظل الحكم المطلق - خصوصا إذا كانت التعاليم الاشتراكية وفلسفة الاقتصاد المنظم ديدنه يسهل على الدولة أن تضبط التيارات الاقتصادية العاصفة وأن كان ذلك على حساب الحرية الفردية للكثيرة الساحقة من الشعب
وفي البلدان الآسيوية والإفريقية واللاتينية التي لم يكتمل بعد نموها الاقتصادي تكون أضرار الضائقات الاقتصادية مقصورة إلى حد بعيد على برامج الإنشاء والتعمير، فاقتصاديات هذه البلدان اقتصاديات غير معقدة، مستوى المعيشة بها زهيد على مستوى ضئيل، ومهما ألمت أضرار النكسات الاقتصادية العالمية بهذه البلدان فإنها لن تؤثر إلا تأثيرا محدودا في مستوى المعيشة، ولما كان هذا المستوى ضئيلا ممعنا في الضالة فإن هذا التأثير لن يزيده ضالة، فليس في ذلك المستوى بعد مجال للتضاؤل، إذا استثنينا حالات المجاعات والقحط في بلدان كالهند والصين مثلا فان معظم المجتمعات الزراعية (كالمجتمعات الآسيوية مثلا) تستطيع في فترات الضائقة الاقتصادية العالمية أن تحفظ برؤوسها عائمة فوق الماء
أما وضعية المجتمعات في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية خلال النكسات والضائقات الاقتصادية الشاملة فإنها تكون معرضة لأخطار جسيمة
ففي إبان النكسة الاقتصادية الخطيرة التي ألمت بالولايات المتحدة الشمالية وبأوروبا الغربية في أعوام 1948 - 1949 كان علىالدول والشعوب هناك أن تختار وحدا من الاحتمالات معينة لصيانة نفسها من الفوضى الاقتصادية والإفلاس التام
وأحد هذه لاحتمالات أن تسرع الدولة فتسن التشريعات وتطبق رقابة شديدة على الإنتاج الصناعي والنشاط الاقتصادي بأسره، وأن تحدد الإنتاج وتعين الأسعار وتقيد التصدير والاستيراد بشكل يحول الدولة الديمقراطية إلى نظام اشتراكي لأولى الحكم فيه سلطة واسعة قد تتسع فتصبح نوعا من الحكم المطلق. وهذا ما حاولت حكومة العمال في بريطانيا تطبيقه فلم تفلح طويلا بسبب طبيعة السلوك السياسي للشعب البريطاني وتأصل الوعي الديمقراطي فيه، وبسبب تعقد المشاكل الاقتصادية في بريطانيا بشكل لا يسمح بتطبيق برامج الاقتصاد المنظم والاحتفاظ بالحرية الديمقراطية في آن واحد
وثاني هذه الاحتمالات تخفيض مستوى المعيشة بين السكان بتخفيض الدخل القومي للعامل ولصاحب العمل والرجوع بألوان الحضارة المادية القهقري ووضع حد للتقدم الآلي وتوجيه الشعب نحو التقشف والتخلي عن أسباب الترف والمتعة التي أصبحت جزءا أساسياً من طبيعة المعاش الذي يعيش عليه الناس في العالم الغربي إجمالاً وفي الولايات المتحدة على وجه العموم. وقد استطاعت بريطانيا أن تطبق جزءاً من هذا الاحتمال فيما يتعلق بمسألة الدخل القومي ومسألة التقشف إلا أن حكومة العمال البريطانية فشلت في ذلك لأن السياسة الاقتصادية التي اتبعتها في بريطانيا كانت تواجه عقبات جسمية بعضها راسخ في صميم الوضع الاقتصادي البريطاني والبعض الآخر ناتج عن المنافسة الشديدة التي لقيتها بريطانيا في أسواقها التجارية التقليدية سواء جاءت هذه المنافسة من أمريكا أم من سياسة الاستقلال الاقتصادي والاستكفاء الذاتي التي أخذت تتبعها البلدان الآسيوية والإفريقية واللاتينية التي كانت فيما مضى منطقة نفوذ اقتصادي لبريطانيا
أضف إلى ذلك كله أن أي دعوة إلى تخفيض مستوى المعيشة سيتطور إلى سلاح في يد الحركة الشيوعية التي تتخذ تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية دلالة على فشل النظم الديمقراطية (الأوربية والأمريكية)
وثالث هذه الاحتمالات تجديد الحروب الاستعمارية وقيام الدول الصناعية الكبرى بغزو البلدان المتخلفة والسيطرة على الأسواق التجارية الرابحة في الشرق والغرب، وهذا الاحتمال بعيد المنال نظراً ليقظة الشعوب وتيقظ القوميات وحيوية التحرر من الاستعمار في كل مكان
ورابع هذه الاحتمالات إن تتكتل الدول الصناعية الكبرى تكتلا اقتصاديا تاما شاملا وتوزع فيما بينها الأسواق العالمية توزيعا يستند إلى اتفاقات ثابتة بين الدول المتكتلة، وقد نجح الاتحاد السوفيتي إلى حد بعيد في سياسة التكتل الاقتصادي في منطقة نفوذه في أوروبا الشرقية والبلقان والبلطيق وبعد ذلك في الصين وآسيا الوسطى - منغوليا وسينكيانغ أما دول أوروبا الغربية فقد وجدت نفسها لا تستطيع إن تجهر بهذه الرغبة لأسباب عديدة منها تفوق أمريكا الصناعي الهائل على بريطانيا وفرنسا وخسارة هولندا لجزر الهند الغربية (إندونيسيا)، فمصانع أوروبا الغربية القديمة المنهوكة لعب أطفال بالقياس إلى المؤسسات الصناعية الأمريكية، وجودة الإنتاج الأمريكي وتنوعه ورونقه إعلاناته شيء لم تعرف الصناعات الأوروبية في بلادها له مثيلا. ومقارنة السيارات الأمريكية بالسيارات البريطانية والفرنسية مثل على ما نحاول به شرحه هنا
ولذلك فلم يكن لدى الصناعة الأوروبية ما تستند إليه لتساوي أمريكا على اقتسام الأسواق العالمية - هذا فضلا عن أن الأمريكي تاجر لا يرحم، والمنافسة هي عماد النشاط الاقتصادي في أمريكانموذج راسخ في السلوك الأمريكي رسوخ عادات الأكل والشرب والنوم
ويبدو أن الاحتمال الأخير (وهو توزيع الأسواق العالمية) صادف هوى في نفوس الأمريكان ولكنهم احتاطوا له بشكل دقيق بحيث يوفر لهم حصة الأسد في أية مساومة يقومون بها مع دول أوروبا الغربية
وفعلا شهدت السنوات الأخيرة توسعا اقتصاديا أمريكيا حجم النشاط ولكنه في أغلب الحالات على حساب دول أوربا الغربية وعلى الأخص بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا، وقد ساعد أمريكا على هذا التوسع الاقتصادي كونها مسيطرة على مقدرات ألمانيا واليابان وهما عنصران هامان في ميدان التنافس التجاري الدولي وفي الشرق الأقصى حلت أمريكا محل اليابان وهولندا في سوق إندونيسيا والفلبين ومحل بريطانيا إلى حد ما في أسواق الملايو وأصبحت المشترية الرئيسية للمطاط والقصدير هناك
وفي الشرق الأوسط قصة التوسع الأمريكي في البترول معروفة للجميع، وكان من المقدر لبريطانيا إن تحقق هذا التوسع لنفسها لولا قوة المنافسة الأمريكية والظروف الأخرى التي صاحبت الوضع الاقتصادي في عالم ما بعد الحرب في بريطانيا
وفي أمريكا اللاتينية تلاشى تدريجا نفوذ بريطانيا التجاري هناك بعد إن تلاشى قبله نفوذ ألمانيا وأصبحت هذه القارة منطقة نفوذ تجاري وسياسي للولايات المتحدة الأمريكية
وفي شمال إفريقيا العربية توطد للأمريكان نفوذ اقتصادي طويل عريض بلغ من الأهمية بحيث اضطرت فرنسا أن تخاصم أمريكا عليه أمام محكمة العدل العليا
وفي أواسط إفريقيا تسرب رأس المال الأمريكي إلى مستعمرات بلجيكا الغنية بالمعادن الثمينة ومنها معدن الأورانيوم الصالح لإنتاج الطاقة الذرية
واستطاعت الولايات المتحدة الأمريكية بفضل هذا النشاط الاقتصادي الواسع أن تدفع مؤقتا عن نفسها أخطار النكسة الاقتصادية الأخيرة التي ألمت بالاقتصاد الأمريكي في أعوام 1947 - 1948 - 1949
وكان لابد لهذا التوسع الاقتصادي الهائل من أن يفرض على الولايات المتحدة الأمريكية مسؤوليات سياسة ودبلوماسية من النوع الدقيق والخطير
ومع أن فكرة التكتل الاقتصادي بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين دول أوروبا الغربية لم تتبلور في شكل قانوني (سري أو علني) إلا أن انسياق الأموال الأمريكية الخاصة والنشاط الاقتصادي الأمريكي إلى مناطق النفوذ البريطاني الفرنسي والهولندي والبلجيكي قد فرض على أمريكا مسئولية فعلية في صيانة النظم السياسية التي تعيش عليها هذه الدول الأوربية أضف إلى ذلك صيانة أوروبا الغربية من أخطار الانقلابات الشيوعية سيضمن لأمريكا حلفاء أوفياء يكونون سنداً للمبادئ والأيديولوجية السياسية التي يعيش عليها المجتمع الأمريكي؛ ففي تعزيز النظم الديمقراطية لدول أوروبا الغربية تعمير لأسواق تجارية حسنة تستهلك من الإنتاج الأمريكي أضعاف ما تستهلكه البلدان المتخلفة التي لم يكتمل بعد نموها الاقتصادي كبلدان آسيا وإفريقيا وأمريكيا اللاتينية - فهذه البلدان المتخلفة هي على العموم مصدر للمواد الخام وليست مستهلكة ألا كجزء محدود من المنتجات الأمريكية الجاهزة
ومن هذه الصور الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية الشاملة تكونت فكرة المساعدات الأمريكية المالية للدول الأوربية التي عرفت بمشروع مارشال
ولخير أن تفكر ملياً في مشروع مارشال لأن صلته بتطور فكرة الدفاع المشترك وحلف الأطلنطي ومسألة الدفاع عن الشرق الأوسط صلة وثيقة
مشروع مارشال
يقول البروفيسور جون وليامز أحد كبار الاقتصاديين (في البلدان التي لم يكتمل بعد نموها الاقتصادي في آسيا وإفريقيا الأمريكان ورئيس الجمعية الاقتصادية الأمريكية ومستشار البنك الأمريكي المركزي ومندوب حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في عدة مؤتمرات دولية: إن الهدف الرئيسي لمشروع مارشال هو تنفيذ برنامج عملي لاستثمار رؤوس الأموال. وهدف هذا المشروع ليس فقط بناء ما دمرته الحرب في أوروبا وإنما زيادة الإنتاج والنشاط الاقتصادي في أوروبا الغربية والشمالية بحيث تتمكن دولها من أن تحفظ الميزان التجاري مستقيماً وهذا يعني مساعدة دول أوروبا الموالية للولايات المتحدة الأمريكية على زيادة الدخل الحقيقي للفرد وللدول الأوربية، وهذه الزيادة تشجع الفرد والحكومة هناك على مضاعفة استهلاكه للمنتجات والسلع وتوفر للشعب وللدولة فرصة لادخار رأس المال اللازم لاستثمار الاقتصاد المحلي (في الدولة الأوربية وفي الاقتصاد الأجنبي وأمريكا اللاتينية)
وهذه الأهداف تتمشى مع الصورة التي رسمناها عن الوضعية الاقتصادية في أمريكا وأوروبا وبقية أجزاء العالم (خارج الاتحاد السوفيتي) وهي صورة تشير إلى اختمار فكرة التكتل الاقتصادي بين الدول الصناعية الكبرى تحفظ للأمريكان حصة الأسد وتساعد الدول الأوربية على ملاقاة نكساتها الاقتصادية مستعينة بزميلة كبرى الولايات المتحدة الأمريكية
وجدير بالذكر أن فرنسا كانت أكثر الناس حماسة لمشروع مارشال، بل الواقع أن فرنسا كانت أول من نال مساعدات مالية سخية من الولايات المتحدة الأمريكية وذلك في عهد ليون بلون اليهودي رئيس وزراء فرنسا في السنوات الأوائل التي أعقبت الحرب العالمية الثانية
ومن الطبيعي أن تتحمس فرنسا لهذا المشروع، ففرنسا هي الدولة الوحيدة من دول أوروبا الغربية التي فرضت اتباع أي احتمال من الاحتمالات العديدة التي واجهتها دول أوروبا الغربية في عالم ما بعد الحرب، فهي لم تقتد ببريطانيا فتنفذ لونا من برنامج الاقتصاد الاشتراكي المعتدل، ولم تتبع سياسة التقشف والمراقبة الدقيقة التي فرضتها بريطانيا بالاستمرار في استغلال الأسواق المتوفرة لهم في المستعمرات الفرنسية - ولفرنسا اليوم ممتلكات خارجية تفوق ما لأي دولة استعمارية أخرى
ولتعلق بأذهاننا هذه الحقيقة - وهي حماس فرنسا الشديد لمشروع مارشال وما استتبع هذا الحماس من نشاط فرنسي لتنفيذ الحلف الأطلنطي والاتحاد الأوربي للنقد ومشروع مارشال ومشروع بليفان للجيش الأوربيكما سنأتي على استعراضه فيما بعد
وهنا يجدر بالباحث أن يفسر حماس أمريكا لمشروع مارشال ولفكرة المساعدات المالية للدول الخارجية أجمالا. وهذا التفسير لا يكون إلا بالتعرف على الفلسفة الاقتصادية النظرية والعملية التي يعيش عليها الشعب الأمريكي. وهي فلسفة (جورج مينارد كنيز) الاقتصادية منذ عام 1930 حتى الآن
(للبحث صلة)
نيويورك
عمر حليق