مجلة الرسالة/العدد 101/الأدب العربي في المغرب
→ تطور الحبشة | مجلة الرسالة - العدد 101 الأدب العربي في المغرب [[مؤلف:|]] |
النهضة التركية الأخيرة ← |
بتاريخ: 10 - 06 - 1935 |
أبو العباس أحمد المقري
1041هـ - 1631م
بقلم عبد الهادي الشرايبي
- 1 -
إننا نشاهد، بملء الأسف، كثرة مفكرة من شباب المغرب ورجاله، يساور نفوسهم ضعف الثقة وارتياب مؤلم من ماضيهم القومي وتراثهم الجليل. فنجدهم لذلك يتأففون ويضجرون كلما عرضت عليهم صورة من ذلك الماضي الزاهر، ويكيلون للمغرب والمغاربة عواصف من النقد اللاذع والسخط الشديد
ولعل منشأ ذلك، فيما نرى، هو الجهل بما للمغرب في عصوره الغابرة من روعة وسمو يفوقان كثيراً ما يتخيله أولئك في تاريخ المغرب
ولو أنهم عمدوا إلى الوقوف على بعض من تلك الآثار الجليلة، واستعراض النماذج المتناثرة في ثنايا الكتب، لوجدوا في سجل المغرب من الصور الطريفة الرائعة ما يكون غذاء لروحهم المجدبة، ورياً لنفوسهم الظمأى!
ولعلهم إن فعلوا فتذوقوا من ذلك الجمال الحي الخالد، ونهلوا من تلك المتع اللذيذة، فسوف يجدون فيه المرهم الشافي لنفوسهم المريضة بداء اليأس، ويستبدلون بتشاؤمهم القاتل تفاؤلاً
- 2 -
وها نحن أولاء نجلى لهم اليوم صورة حية من ذلك التراث المجيد، وينتزع لهم من بين الصور الكثيرة مثلاً سامياً لنهضة الأدب العربي في المغرب في القرن الحادي عشر:
شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني المالكي الأديب الكبير، الشاعر المؤرخ، ولد في تلمسان، ونشأ بها في بيت علم وأدب، وثقف كثيراً من الفنون على عمه أبي عثمان سعيد المقري الأديب العالم الشهير، وأتقن اللغة العربية وآدابها، وبرع في معرفة أخبار العرب وأنسابها. وكان له ميل شديد واطلاع واسع على الآداب العربية وتاريخها في مختلف العصور، وأولع من لدن نشأته بالمطالعة والتنقيب عن أحوال الدولة الإسلامية، واستظهار آثارها، وبصفة خاصة ما كان متعلقاً منها بدولة العرب في الأندلس، والوقوف على سر عظمتها، وتطورها بين صعود ونزول، وكيف عبثت يد الزمان بتلكم الآثار الحافلة التي خلدها العرب في أوربا
شب الفتى، خصب الفكر، متقد الذهن، واسع الذاكرة. يتقلب في فنون من الحديث، ويحلق في جو رائع من الخيال. ينتقل بين قصور قرطبة ومغانيها، ويقلب نظره الحائر في بدائع الحمراء ومجاليها، ثم يعود فيسترحم القدر إشفاقاً على مجالس أدبها الممتعة ونواديها
وقد حدثته نفسه الطموح إلى مشاهدة آثار الفن الأندلسي الجميل بالذهاب إلى (فاس) وريثة الحضارة الأندلسية، ورؤية هذه الآثار عن كثب، إذ هي صورة مصغرة من الحياة الأندلسية، بما فيها من مبان وآثار، ومجالس علمية وأدبية تضم أئمة الأدب وفطاحل العلم. فقصد فاس سنة 1009 وملأ بها وطابه، وأخذ عن جلة العلماء كالشيخ القطار، وابن أبي النعيم، وأحمد بابا السوداني التمبكتي وغيرهم؛ وأقام بفاس ميمون الحظ بين مظاهر الإجلال والاحترام إلى أن صار مفتى فاس وخطيب (جامعة القرويين)؛ ثم رحل إلى مصر والشام، وتردد على الحجاز كثيراً، وألف بالقاهرة كتابه (نفح الطيب). وله مطارحات ومساجلات مع أدباء مصر والشام
- 3 -
آثاره الأدبية: أبو العباس المقري متشعب النواحي كثير المباحث لمن شاء دراسته. له آثار قيمة في الفقه والكلام والأدب والتاريخ، وشعر متناثر في ثنايا كتابيه الجليلين: (نفح الطيب، من غص الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب) و (أزهار الرياض، في أخبار القاضي عياض)
وقد قصرنا هذا البحث على الناحية الأدبية، إذ كانت هي البارزة في حياته، فهو (حافظ المغرب وجاحظ البيان) شاعر رقيق العاطفة، يصطبغ شعره بلون الأدب الأندلسي في الرقة والجزالة، والسهولة والامتناع
ولا بدع، إذا وجدنا ذلك الطابع بارزاً في آثاره الأدبية، فقد رأيناه كلفاً بالفن الأندلسي وآثار العرب في الأندلس منذ النشأة إلى حد التوهم أنه كان يعيش في ذلك الوسط الخصب المشبوب العاطفة وقد قال في أكثر أغراض الشعر: في الغزل، والشوق، والمدح، والوصف، والحكم، والعتاب، والذكرى المؤلمة، والقصص الشعري
وإذ كان الشطر المهم من حياته قد أمضاه في الشرق بعيداً عن الأهل والوطن، نائياً عن معاهد الصبى ومسارح الطفولة الأولى التي لم يبق في ذهنه منها إلا الذكريات المرة الممضة، فنستطيع أن نكشف كيف كان الشوق والحنين أبرز صفة في شعره؛ ولنسق لك مثلاً من ذلك. فمن قوله وهو في الشام يتشوق إلى بلاد المغرب:
كساها الحيا بُرد الشباب فإنها ... بلاد بها عق الشباب تمائمي
ذكرت بها عهد الصبي فكأنما ... قدحت بنار الشوق بين الحيازم
ليالي لا ألوي على رشد ناصح ... عناني، ولا أثنيه عن غي لائم
أنال سهادي من عيون نواعس ... وأجني مرادي من غصون نواعم
وليل لنا بالسد بين معاطف ... من النهر ينساب انسياب الأراقم
تمر إلينا، ثم عنا، كأنها ... حواسد تمشي بيننا بالنمائم
وبتنا، ولا واش نخاف كأنما ... حللنا مكان السر من صدر كاتم
وأسمعه يقول:
شربت حميا البين صرفاً وطالما ... جلوت محيا الوصل وهو وسيم
فميعاد دمعي أن تنوح حمامة ... وميقات شوقي أن يهب نسيم
ويثور كامن عواطفه كلما سمع ترجيع حمامة بصوتها الشجي، فيصف لك حاله عند سماعها بهذه القطعة الرقيقة:
رُب ورقاء في الدياجي تنادي ... إلفها في غصونها المياده
فتثير الهوى بلمس عجيب ... يشهد السمع أنها عواده
كلما رجَّعت توجعت حزناً ... فكأنا في وجدنا نتبادَه
ثم يحاول أن يطفئ غلة ذلك الشوق المضني بالصبر، ويتخذه شعاراً وسلوة، فيسير على سنن غيره من الشعراء، ولكنه يخفق إذ يجد أن الصبر معناه إلهاب نار الشوق:
وإني لأدري أن في الصبر راحة ... ولكن إنفاقي على الصبر من عمري
فلا تُطفِ نار الشوق بالشوق طالباً ... سلواً، فإن الجمر يسعر بالجمر ويعاوده الأمل في أن يلمس غرة من الدهر، فيلتقي بعد طول البين، ويجتمع بعد أليم الفراق
فنلتقي، وعوادي الدهر غافلة ... عما نروم، وعقد البين محلول
والدار آسنة والشمل مجتمع ... والطير صادحة والروض مطلول
ولو أنا ذهبنا في هذا الباب نقتطف قطعاً من زهراته المتناثرة، لاقتضى ذلك منا وقتاً أوسع مما افترضناه لهذا البحث من الإيجاز
وفي الوصف نجتزئ بهذه القطعة:
ورياض تختال منها غصون ... في برود من زهرها وعقود
فكأن الأدواح فيها غوان ... تتبارى زهوا بحسن القدود
وكأن الأطيار فيها قيانٌ ... تتغنى في كل عود بعود!
وكأن الأزهار في حومة الرو ... ض سيوف تُسَلُّ تحت بنود
ويبهره ما يرى في جنة الدنيا (دمشق) ضريبة الأندلس والمغرب في بساتينها، وأنهارها، وجداولها، فتعاوده الذكرى ويقول:
ذكرتني الورقاء أيام أنس ... سالفات فبت أذرى الدموعا
ووصلت السهاد شوقاً لحبي ... وغراماً، وقد هجرت الهجوعا
كيف يخلو قلبي من الذكر يوما ... وعلى حبهم حنيت الضلوعا؟
كلما أولع العذول بعتبي ... في هواهم، يزداد قلبي ولوعا!
ثم يقول في وصفها:
محاسن الشام أجلى ... من أن تحاط بحد
لولا حمى الشرع قلنا ... ولم نقف عند حد:
كأنها معجزات ... مقرونة بالتحدي
ويقول:
قال لي ما تقول في الشام حبر ... كلما لاح بارق الحسن شامه؟
قلت ماذا أقول في وصف قطر ... هو في وجنة المحاسن شامه!
(البقية في العدد القادم)
عبد الهادي الشرابي