2 - تركيا مجلة الرسالة/العدد 1009/تركيا للأستاذ أبو الفتوح عطيفة (حققوا للشعوب حريتها فإن قلوب الأحرار خير حصن ضد الطغيان والاستبداد والاستعمار) غلادستون موطن نزال تشغل تركيا مكاناً يمتاز بأهمية موقعه الدولي. . فهي تضع قدما في آسيا وتضع قدمها الأخرى في أوربا وتتحكم في الملاحة بين البحرين الأبيض والأسود. وقد كانت أرضها ميدان النزال بين الفرس واليونان في التاريخ القديم، وموطن الصراع بين المسلمين والروم في العصور الوسطى، وكانت طريق الصليبيين إلى الشرق أثناء الحروب الصليبية، وهي الحروب التي شنها الغرب على الشرق وانتهت بانتصار الشرق وخذلان الغرب. وفي العصور الحديثة كانت تركيا وما زال ميدان صراع دولي عرف في التاريخ باسم المسالة الشرقية. المسألة الشرقية في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي نزل الأتراك العثمانيون في آسيا الصغرى وأسسوا دولتهم التي بدأت صغيرة ثم أخذت تنمو وتتسع حتى شملت آسيا الصغرى، ثم عبروا البحر إلى أوربا ونزلوا بشبه جزيرة البلقان واستولوا على القسطنطينية عام 1453 واتخذوها عاصمة لدولتهم الكبيرة. واستمر الأتراك في فتوحاتهم ففتحوا بلاد الشام والعراق وفلسطين وبلاد العرب ومصر وشمال أفريقيا؛ وفي أوربا استمر جندهم في فتحهم حتى قرعوا أبواب مدينة فينا عاصمة الإمبراطورية النمساوية. في ذلك الوقت لم تكن هناك مسألة شرقية وإنما كان يوجد ما يمكن أن يسمى بالمسألة الغربية. ما هو مصير غرب أوربا أمام الزحف التركي وما الذي سيؤول إليه أمر غرب أوربا في حالة استمرار انتصار الأتراك؟؟ لكن الأتراك ردوا عن فينا ثم ما لبثوا أن استقروا في البلاد الشاسعة التي فتحوها وأصابهم الترف ونزل بهم الوهن وتجلا ضعفهم شديداً شنيعاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين وظهرت المسألة الشرقية واتخذت مكانا بارزاً في التاريخ الحديث. وكانت روسيا أكبر عدوة لتركيا: ذلك أن روسيا نهضت على يد بطرس الأكبر وبدأت تحتل مكاناً بارزاً في التاريخ منذ أوائل القرن الثامن عشر. وكانت روسيا تريد الوصول إلى البحرين الأسود والأبيض وكان هذا لا يتأتى إلا على حساب تركيا ومن أجل هذا قامت الحروب بين الدولتين ووضعت روسيا يدها على شواطئ البحر الأسود الشمالية والشرقية. لكن روسيا كانت ترنو دائماً إلى الوصول إلى القسطنطينية وهذا هو محور سياستها، ويتجلى لنا واضحاً جلياً في جميع حوادث التاريخ منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم. وقد ساعد روسيا على تنفيذ سياستها أن تركيا لم تعمل على إدماج رعايا البلقان في رعاياها؛ بل تركت لهم حريتهم الدينية وحكومتهم الذاتية ولغتهم القومية واكتفت منهم بما قدموا لها من جزية وضرائب. واستغلت روسيا الروابط الدينية والجنسية التي تربطها بسكان البلقان، وعملت دائماً على خلق المتاعب في وجه السلطان، وسارعت إلى نصرة الثائرين بقواتها وأملت على تركيا شروط الصلح لفائدتها. وكانت النمسا العدوة الثانية لتركيا، فقد اقتطع الأتراك جانباً كبيراً من أملاكها في البلقان وفي الدانوب، ولما ضعفت تركيا عملت النمسا على استرداد ممتلكاتها ونجحت في ذلك إلى حد كبير في القرن الثامن عشر. أما فرنسا - وكانت عدوة للنمسا - فقد أقامت علاقات ودية مع تركيا منذ القرن السادس عشر. ولكن إنجلترا في الفرن الثامن عشر كانت تجد في روسيا حليفاً طبيعياً؛ فقد كانت روسيا سوقا هامة للتجارة الإنجليزية وكانت إنجلترا ترى أنها بحاجة إلى صديق وحليف ليعاونها ضد عدوتها التقليدية إذ ذاك وهي فرنسا. لكن حملة نابليون على مصر نبهت إنجلترا إلى الخطر المحدق بها من جراء مطامع روسيا، فقد كانت روسيا تطمع للاستيلاء على القسطنطينية والوصول إلى البحر الأبيض وكان ذلك خطراً يهدد مصالح إنجلترا في الشرق. ثم أن روسيا كانت تستطيع الوصول براً إلى الهند. وهكذا وجدت إنجلترا في مطامع روسيا خطراً عليها ومن ثم وقفت بجانب تركيا وأخذت تعمل على المحافظة عليها ولكنها لم تر بأساً من اقتطاع كثير من أملاكها في الوقت المناسب. ويتجلى اهتمام إنجلترا بمصير تركيا في وقوفها بجانبها هي وفرنسا أثناء حرب القوم 1853 - 1856 وهي الحرب التي شنتها روسيا على تركيا وانتهت بانتصار إنجلترا وفرنسا وتركيا عليها وكان سببها مطامع روسيا في تركيا. في 1844 زار قيصر روسيا نقولا الأول إنجلترا وتحدث مع لورد أبردين وزير خارجيتها حديثا عبر به عن سياسة روسيا إزاء تركيا: (إن تركيا رجل مريض يحتضر ويخشى أن يموت فجأة وحينئذ يحدث خلاف بين الدول حول تقسيم تركيا ولذلك فمن الأجدر أن تتخذ الدولتان إنجلترا وروسيا الاهبة لمواجهة الموقف وخير لهما أن يتفقا على تقسيم لأملاك تركيا) وقد كرر القيصر حديثه هذا مرة أخرى مع سفير بريطانيا في روسيا 1853 وكان ذلك من أهم الأسباب التي دعت إنجلترا إلى الدخول في حرب القرم ضد روسيا، فقد كان بلمرستون رئيس وزراء إنجلترا يؤمن بأن ما يقال كل يوم من أن تركيا رجل مريض يحتضر كلام فارغ لا يؤبه له؛ وأنها لو أعطيت وقتا كافيا بدون قلاقل أو متاعب لاستطاعت أن تصلح من شأنها وأن تستعيد مجدها كدولة قوية لها وزنها في السياسة الدولية. وفي معاهدة باريس 1856 أعطيت تركيا الفرصة الملائمة وحرم على روسيا أن تنشئ قواعد حربية على شواطئ البحر الأسود إذ أن يكون لها فيه أسطول حربي وأعلن حيادالبحر الأسود. لكن تركيا لم تقم بالإصلاح المطلوبولم تنزل شعوب البلقان عن مطالبها القومية فقد كانت تريد الاستقلال عن تركيا. وكانت الدول تخشى أنه في حالة استقلال هذه الدول: رومانيا والصرب والجبل الأسود وبلغاريا. . أن تقع في يد روسيا ولكن غلادستون زعيم الأحرار في إنجلترا صرح قائلاً: (حققوا للشعوب حرياتها فإن قلوب الأحرار خير حصن ضد الطغيان والاستبداد والاستعمار). وفي 1876 ثارت شعوب البلقان ضد تركيا وتقدمت روسيا لمساعدتها وهزمت تركيا ووقف الجند الروس أمام القسطنطينية. . وهنا تقدمت إنكلترا وأمرت أسطولها بدخول ميناء البسفور ومقاومة الروس إذا دخلوا القسطنطينية، وأمام تهديد إنجلترا وقفت روسيا ووقعت مع السلطان معاهدة سان ستفانوا 1878. لكن إنجلترا لم توافق عليها ودعت الدول إلى عقد مؤتمر دولي لبحث المشكلة؛ وقد اجتمع المؤتمر في برلين في يوليو 1878 ووقعت الدول معاهدة برلين وبها تحقق استقلال رومانيا والجبل الأسود والصرب وأعطيت بلغاريا حكومة ذاتية وأخذت روسيا قارص وباطوم واستولت إنجلترا على جزيرة قبرص وبعدها بسنوات احتلت مصر. وتحقق لإنجلترا ما تبغيه من إبعاد روسيا عن القسطنطينية. وتتجلى أهمية القسطنطينية في نظر روسيا في الحديث الذي دار بين القيصر إسكندر الأول ونابليون الأكبر إمبراطور فرنسا، وكان نابليون يطمع في صداقة القيصر ليتمكن من هزيمة عدوته اللدودة إنجلترا. قال القيصر (القسطنطينية هي مفتاح بيتي ويجب أن يكون في حوزتي). فرد نابليون (القسطنطينية! من المستحيل. . إن هذا معناه تكوين إمبراطورية عالمية). وهكذا لم يستطع القيصر والإمبراطور الاتفاق بشأن القسطنطينية، وكان ذلك من أهم أسباب اختلافهما وانضمام روسيا إلى إنجلترا ضد نابليون مما كان له أكبر الأثر في القضاء على نابليون. وهكذا نرى أن المسألة الشرقية كانت عاملا كبيرا في سقوط نابليون وفي تحويل مجرى التاريخ. وفي 1939 عقدت روسيا مع هتلر ميثاق دم اعتداء مما كان له أكبر الأثر في نشوب الحرب العالمية الثانية، وفي اعتقادي أنه لولا هذا الميثاق لما نشبت الحرب. اطمأن هتلر إلى روسيا وقام يحارب، وأحرز جنده النصر في كل مكان، وسرعان ما سجدت أوربا تحت أقدامه واحتل البلقان، وهنا تقدمت روسيا تطلب أن تعطى ميناء على البحر الأبيض، ولكن هتلر رفض، فانضمت روسيا إلى إنجلترا، وكانت الدولة الأوربية الوحيدة التي بقيت صامدة أمام هتلر وإلى أمريكا. وكان انضمام روسيا إلى إنجلترا وأمريكا أكبر أسباب هزيمة هتلر وسقوط دولته. وانتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1945، وانقسم حلفاء الأمس إلى كتلتين متعاديتين: إحداهما شرقية وهي روسيا، والأخرى غربية وتضم إنجلترا وأمريكا وفرنسا. ومن الطبيعي أن تنضم تركيا إلى الدول الغربية، فهي تعلم أن روسيا لم ولن تتخلى عن مطامعها في أراضيها، ولعل في انضمامها إلى المعسكر الغربي ما يحفظ كيانها ويبقي على سلامتها. أبو الفتوح عطيفة