مجلة الرسالة/العدد 1008/تركيا
→ مع البائسين | مجلة الرسالة - العدد 1008 تركيا [[مؤلف:|]] |
من أدب التاريخ ← |
بتاريخ: 27 - 10 - 1952 |
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
دولة يثير اسمها في نفوس المصريين ذكريات وشجوناً
وأمة كان لها في التاريخ صولة وجولة وكان لها مركز عظيم ومقام كبير، ثم دار الزمن دورته فدالت دولتها وهانت وذلت إلى أن أصبحت كرة في يد اللاعبين من أمم الغرب.
وكان ساسة أوربا يتحدثون عنها طوال القرن التاسع عشر وينعتونها باسم الرجل المريض (المحتضر).
إلى أن جاءت سنة 1920 فنهض بطل من أبنائها وقائد من قوادها هو مصطفى كمال أتاتورك فأعاد إليها مجدها ورد إليها روحها وبث في أبنائها قوة وعزة فوقفت من جديد على أقدامها.
لكن تركيا الحديثة اتجهت في سياستها اتجاهاً جديداً؛ فولت وجهتها شطر أمم الغرب وحاولت أن تقطع صلتها بالشرق: عمدت إلى أزياءها فغيرتها وإلى مألوف عاداتها وتقاليدها فبدلتها. . وحتى الدين لم تحرص الدولة على أحكامه ولم يعد دينها الرسمي.
لقد وقع أتاتورك في خطأ جسيم إذ اعتقد أن ما أصاب تركيا من ذل وهوان وضعف واضمحلال إنما يرجع في أساسه إلى الخلافة، وفات هؤلاء إلى أن فساد الخلفاء لا يرجع إلى فساد الدين وإنما يرجع إلى أشخاص الخلفاء؛ وأن ضعف الخلفاء ليس مصدره الدين وإنما مصدره انحراف الخلفاء عن كنه العقيدة وعما يأمر به الدين. وهكذا وقع الكماليون في الخطأ. . ولكن الأتراك وإن أطاعوا ظاهرياً إلا أنهم احتفظوا بعقيدتهم سليمة كما وضح لنا أخيراً.
وقطعت تركيا علاقتها بالدول الشرقية إذ أرغمت بسبب هزائمها في الحرب العالمية على أن تنسحب من الدول الشرقية: من مصر وبلاد العرب وبلاد العراق وفلسطين والشام وغيرها. وقد اعتقد الأتراك خطأ أنهم نزلوا عن عبء باهض كانوا يحملون، والحقيقة أن هذه الأمم قد تنفست الصعداء حين زال عنها الكابوس التركي.
لقد نظرت هذه الأمم إلى علاقتها الماضية بتركيا وإلى تاريخ الحكم التركي فلم تجد فيه شيئا يسر أو يرضي. لقد قام الحكم التركي على الاستغلال والظلم. والطغيان والاستبداد.
لقد كان الحكم التركي يهدف أولاً وأخيراً إلى جمع المال لتنفق على موائد الخلفاء في ترفهم ولهوهم. وكان المال يجمع بطرق وحشية فيها غلظة وفيها تعذيب وفيها جلد وحبس إلخ.
ولم يكن الأتراك يهتمون بإصلاح حال رعاياهم ومن ثم شلت كل حركة للإصلاح وكانت جناية الأتراك على الشرق فظيعة قاسية.
وانزاح الكابوس التركي ولكنه ترك وراءه أمماً ضعيفة، تستطيع أن تدافع عن كيانها، ومن ثم سقطت هذه الأمم في يد الدولة الأجنبية فوضعت العراق وفلسطين تحت الانتداب الإنجليزي وسوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وأما مصر فكانت تحت الحماية البريطانية!! وهكذا كانت جناية الأتراك على الشرق.
على أن هذه الأمم جاهدت الاستعمار والمستعمرين وظفر بعضهم باستقلاله كاملاً وما يزال البعض الآخر يجاهد في سبيل استكمال أسباب استقلاله وسيادته عن قريب سيزول بأمر الله كل أثر للاستعمار البغيض في الشرق.
وقد كان يحز في نفوسنا نحن المصريين ما كان يترامى إلى أسماعنا من أن تركيا تعارض في جلاء القوات البريطانية عن أرضنا باعتبار أن مصر قاعدة ضرورية لحماية ظهر تركيا. وقد كان ذلك يؤلمنا أشد الألم، فقد كنا نتوقع أن تقف تركيا في صفنا لا ضدنا وكنا نتساءل إذا كانت تركيا ترغب في أن يحمي الإنجليز أرضها فلما لا تسمح لهم باتخاذ قاعدة في بلادها وحينذاك يكونون أقرب إلى حمايتها وأسرع إلى نجدتها وإنقاذها؟
وقد حدثتنا الصحف أخيراً أن تركيا تتجه الآن في موقفها السياسي إزاء مصر اتجاهاً جديداً يهدف إلى تأييدها في طلب الجلاء الناجز عن أرضها واعتبار القاعدة الإستراتيجية في منطقة القنال قاعدة ثانوية. . وكانت تعتبر من فبل ضرورية لحماية ظهر الجيش التركي.
ونحن نحمد لتركيا أن تعدل من سياستها وأن تقف بجانب أخواتها المكافحات في سبيل الحرية فإن ذلك خير لها وأجدى.
وجدير بي أن أذكر أن سياسة تركيا الخارجية إنما يمليها عليها موقعها الجغرافي، فهي تقع في ملتقى قارتين، أوربا وآسيا، وتفصل بين بحرين، البحر الأبيض والبحر الأسود، وتصل ما بينهما بواسطة بحر مرمرة وبوغازي الدردنيل والبسفور وبحر إيجه.
وقد نشأ عن هذا الموقع عدة مشاكل أهمها مشكلة البوغازات وما عرف في التأريخ باسم المسألة الشرقية.
فأما مشكلة البوغازات فأساسها سيطرة تركيا على بوغازي الدردنيل والبسفور وتحكمها في الملاحة بين البحرين الأسود والأبيض، ذلك أن روسيا لها شواطئ على البحر الأسود وهي تسعى دائما للوصول إلى البحر الأبيض، وسفنها مضطرة على أن تمر ببوغازي الدردنيل والبسفور الواقعين بيد تركيا، وهكذا كانت السفن الروسية ولا تزال تحت رحمة الدول المسيطرة على البوغازات، ومن هنا نشأ الخلاف بين تركيا وروسيا وقامت بينهما الحروب.
وفي سنة 1809 كانت إنكلترا تناصب نابليون سيد أوربا العداء وفي الوقت نفسه كان نابليون حليف روسيا إذ ذاك، وكانت الحرب قائمة بين روسيا وتركيا، ومن هنا قامت صداقة بين إنجلترا وتركيا إذ كانتا عدوتين لروسيا ونابليون، فوقعت روسيا وإنكلترا معاهدة سنة 1809 عرفت باسم معاهدة البوغازات في وجه السفن الحربية الأجنبية، ومن البديهي أن المقصود بالسفن الأجنبية إنما السفن الروسية، إذ ليس ثمة صالح لإنجلترا أن تدخل البوغازات.
وقد انتهت حروب نابليون بهزيمته، وقام تحالف إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا ولكن معاهدة البوغازات ظلت قائمة.
وفي سنة 1830 قامت الحرب بين محمد علي وتركيا، وتدخلت روسيا للدفاع عن عدوتها التقليدية تركيا ضد محمد علي، ودبت عقارب الشك في نفس إنجلترا فتدخلت وانتهى الخلاف بين محمد علي والسلطان سنة 1841 ونصت المعاهدة الدولية على الاحتفاظ بالمبدأ السابق في معاهدة البوغزات.
وفي سنة 1853 قامت حرب القرم بين روسيا في جانب، وتركيا وإنجلترا وفرنسا في جانب آخر، وقد انتصر الحلفاء ضد روسيا. وفي معاهدة باريس سنة 1856 تقررت حيدة البحر الأسود ومنعت روسيا من إقامة حصون عليه وحرم عليها أن يكون لها به سفن حربية، وتقرر الاحتفاظ بالمبدأ السائد في معاهدة البوغازات وهو إغلاق البوغازات في وجه السفن الحربية الأجنبية.
ولكن روسيا مزقت نصوص المعاهدة في سنة 1870 منتهزة قيام الحرب بين فرنسا وألمانيا، وفي سنة 1877 قامت الحرب بينها وبين تركيا وتدخلت إنجلترا وأنذرت روسيا بأنها إذا هاجمت القسطنطينية عاصمة تركيا فستضطر إلى التدخل، وأذعنت روسيا لتهديد إنجلترا ووقعت مع تركيا معاهدة سان استفانو التي عدلت في مؤتمر برلين سنة 1878 وعقدت معاهدات احتفظ فيها بمبدأ إغلاق البوغازات في وجه السفن الأجنبية.
وقد مزقت هذه المعاهدة أملاك تركيا في أوربا، فقد استقلت عنها رومانيا والجبل الأسود والصرب (يوغسلافيا) ونالت بلغاريا استقلالاً ذاتياً واسع النطاق، واستولت إنجلترا على قبرص وأخذت روسيا قارص وباطوم، وكان اليونان قد حصلت على استقلالها منذ سنة 1829، وهكذا تحطمت الإمبراطورية العثمانية في أوربا وجثمت الدول الأوربية الكبرى على صدر تركيا.
أحفظ ذلك تركيا فلجأت إلى ألمانيا وقامت بينهما علاقات صداقة، وقد وقفت تركيا إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية سنة 1914 - 1918.
ولما هزمت ألمانيا وحلفاؤها مزقت الدول المنتصرة أملاك تركيا خارج أوربا، بل أن أراضي تركيا نفسها كانت موضع النهب والتنافس بين الدول العظمى والدول الصغيرة، ولولا أن الله قد بعث لتركيا مصطفى كمال لضاعت إلى الأبد.
وفي خلال الحرب العالمية الثانية سنة 1939 - 1945 وقفت تركيا على الحياد فأفادت من ذلك كثيراً: أولا استطاعت أن تقوي جيشها وأن تجعله مستعداً للدفاع عن أراضيها إذا تعرضت لخطر. ثانيا: جنب هذا الحياد تركيا ويلات الحرب وكوارثها، وما الحرب في هذه العصور إلا الدمار والخراب والفناء والبؤس والشقاء.
وقد أعلن تشرشل أن العامل الوحيد في منع قيام الحرب الثالثة. هو الخوف من ويلات الحرب. وها نحن نرى بأعيننا آتون الحرب الملتهبة في كوريا ونلاحظ أن الدول تلقي فيه من الوقود بقدر مخافة أن تزداد النار اشتعالاً فتلتهم العالم كله.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية انقسمت الدول المتحالفة إلى كتلتين: إحداهما شرقية تتزعمها روسيا، والأخرى غربية تتزعمها أمريكا وإنجلترا. ولما كانت روسيا تطمع دائما في الاستيلاء على القسطنطينية والبوغازات لتتمكن من الوصول إلى البحر الأبيض، ولما كان هذا لا يتأتى إلا على حساب تركيا فقد انضمت تركيا إلى المعسكر الغربي حرصاً على سلامتها.
ولكن خوف تركيا على سلامتها يجب ألا يدفعها إلى الوقوف في وجه الأماني القومية المصرية؛ فهناك القاعدة البريطانية العسكرية في قبرص وهي قريبة منها، وقد أخذت إنجلترا قبرص من تركيا سنة 1878 نظير تعهدها بالدفاع عن أراضيها.
للبحث صلة
أبو الفتوح عطيفة