الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1007/في بلاد الأحرار

مجلة الرسالة/العدد 1007/في بلاد الأحرار

مجلة الرسالة - العدد 1007
في بلاد الأحرار
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 10 - 1952

4 - في بلاد الأحرار

للكاتب التركي الأستاذ آغا أغلو أحمد

للأستاذ أحمد مصطفى الخطيب

الحرية والجاسوسية

- ولكن أيها الأستاذ! أليس احترام الرجال العظام وتبجيلهم واجبا تقضي به رعاية الحقوق، والعرفان بالجميل؟

- بلا ريب! ولكن هناك حدودا بارزة بين خالص الاحترام والتبجيل. . ومحض التملق والرياء!

- كيف ذاك؟

- إن الاحترام والحب الحقيقيين يتطلبان الصدق والإخلاص، وشرطهما الأساسي أن تقول ما تفكر فيه أو تشعر به بغير زيادة أو نقصان. .

وعلى سبيل المثال أقول: ألا ترى لزاما عليك أن تصرح بما تراه من النقائص في أقرب الناس إليك، كابنك، أو أخيك، أو صديقك البار، وتواجهه بالنصيحة والإرشاد، بغية تقويم اعوجاه، وإصلاح عيوبه! قم ألا تعتبر مثل هذا العمل دينا عليك واجب الأداء تجاهه؟

والرجال العظام الذين تنجبهم الأمة، هم أعز وأغلى من الابن والأخ والصديق، لأنهم ينابيع الهناء، وأسس السعادة العامة المشتركة في الوطن

إذن أفلا يكون دينا علينا واجب الأداء أيضاً أن نون تجاه هؤلاء أصدق وأشد إخلاصا؟

ولكن المرائين والمنافقين لا يصنعون إلا نقيض هذا تماما. . فيخلعون على العظماء نعوتا زائفة، وينسبون إليهم مواهب وكفايات ليست لهم، ويظهرون جهلهم ونقائصهم وأخطاءهم بمظهر الفضائل العالية والمزايا النادرة، ويكتمون عنهم الصدق والحقيقة، ويدفعون بهم إلى الطرق الملتوية والمآزق. . ويرتبكون كل هذه الجرائم في سبيل الحصول على منافع شخصية محضة دنيئة فقط.

وفي الحق أن الرجل المتملق المتزلف لا يستطيع أن يكون صديقا حقيقيا لأي إنسان. . إذا أن فضائل سامية كالصدق والاستقامة والإخلاص ليست من نصيب ذوي النفوس المنحطة السافلة.

ففي أول أدبار الحظ يقلب هؤلاء ظهر المجن للرجال العظام ويشرعون في التهكم ونكران الجميل، وشن الحملات الشعواء عليهم، ومن ثم يأخذون في الالتفاف حول السيد الجديد الحائز القوة.

- كم أنت محق في هذا أيها الأستاذ! لقد شهدت بعيني غير مرة مناظر مؤلمة من هذا التقلب الفاضح. . وكم من مرة ضغطت فيها على أعصابي لك لا ينقلب تعلقي بوطني مقتا وكراهية، وحبي لأبناء بلادي حقدا وضغينة. .

- أجل! إن الرياء والتملق هي الطريق الخطر الذي سيؤدي بالمجتمع أيا كان إلى الانحطاط والتدهور لا محالة. .

- إذن لماذا يميل إليهما الناس؟ ولماذا لا يرضون بهما بديلا؟

- لأنهم ضعفاء، ومع ذلك فالذنب كله يقع على عاتق المجتمع وحده لكونه هو المكلف بمنع انتشار الرذائل وبمكافحة الفساد والانحلال الخلقي أولا وآخرا. .

أما إذا تقاعس المجتمع عن أداء واجبه بهذا الشأن فسوف يكون هو نفسه الخاسر في النهاية بعير شك.

- لم أفهم أيها الأستاذ!

- إذن لأتبسط في القول. . إن الرجال العظام في المجتمع هم بمثابة الزهرة أو الثمرة من الشجر، فكما أن الزهر أو الثمر هما اللذان يبقيان على نوع الشجرة ويضفيان عليها صفة الخلود، فكذلك العظماء هم الذين يبعثون في عروق المجتمع دم الحياة، ويمهدون أمامه سبل العيش، ويفتحون أمامه أبواب الارتقاء والتقدم.

وفي الحق أن قوة كيان المجتمع وتماسكه لا يقاسان إلا بعادات وقيم بعض العظماء الذين تنجبهم الأمة في مختلف ميادينها الفكرية والأدبية والعلمية والعسكرية وغيرها.

وفي مثل هذه الحالة يكون العمل لتنشئة هؤلاء وإعدادهم، ثم الحرص على سلامتهم. . مسألة حياة للمجتمع ذاته ليس إلا. .

والمجتمع الرشيد هو الذي يحاول دائما أن يفيد لنفسه أعظم فائدة من عظمائه عندما تسنح له فرصة الحصول عليهم، ولا يدع أن تمر أي لحظة من حياتهم دون أن يستغلها لحسابه أحسن استغلال، ويخلق منها مصدر خير وبركة للجميع بغير استثناء. . ذلك لأن العظماء لا يظهرون كل يوم أو في أي زمان، فقد يصادف أن الأمة الواحدة تحبل طوال عصور مديدة ثم لا تلد إلا واحدا من هؤلاء، وقد يتفق أيضاً أن عملية الولادة هذه تصبح قاسية ومخيفة جدا.

لهذا فالمجتمع الذي يعرف قدر نفسه يحرص على أمثال هؤلاء الأبناء كالحرص على بؤبؤ العين، ويبذل كل ما في وسعه لكي يفيد من حياتهم أعظم ما يمكن من الفوائد. .

وهذا هو السبب أيضاً في أن المداهنة والتلمق يعاقب المرء عليهما في بلاد الأحرار بعقوبة شديدة كالرجم بالأحجار، وذلك لكونهما من أفتك وسائل الإفساد والتخريب

- فهمت أيها لأستاذ! وقد أنار إيضاحكم هذا جوانب كثيرة من الماضي المؤلم القاتم أمام ناظري، فهل تتفضلون الآن بشرح المادة الرابعة من الدستور؟

- بكل ارتياح! تنص هذه المادة على أن الذين يشتغلون بالجاسوسية لا يستأهلون أن يكونوا من مواطني بلاد الأحرار، ذلك لأن الحرية والجاسوسية لا يمكنهما أن يجتمعا على صعيد واحد أو يأويا تحت سقف مشترك؛ فلا حرية حيث تسود الجاسوسية، ولا جاسوسية حيث تسود الحرية.

ولهذا ترى دوائر الاستخبارات وأوكار الدس والمؤامرات من أوقى الوسائل الفعالة التي يستند إليها الاستبداد في توطيد دعائم حكمه، وتثبيت أركان جبروته وطغيانه.

أما هدف الاستبداد الأوحد في هذا الخصوص، فهو أن تهون الروابط، وتفكك أواصر الثقة في نفوس أبناء الوطن الواحد، وتنفخ فيها روح الشك والارتياب، وليست ثمة وسيلة أقوى تمكنها من بلوغ هذا المأرب من الجاسوسية بلا مراء. .

ففي المكان الذي تنفق فيه سوق الدس والوقيعة لا نجد أحدا يثق يغيره؛ بل يجفل ويرتعد كل واحد من الآخر. . فيتلاشى بذلك الصدق، وتنتفي الصراحة بين المواطنين ليحل محلها الكذب والخداع والنميمة. . وهكذا يستحيل القيام بأي عمل اجتماعي تعاوني نافع، مهما كان نوعه أو كانت قيمته. .

والجماعات البشرية التي يصل بها الحظ العاثر إلى هذه المرحلة من الانهيار تكون أشبه شيء بقطعة مهلهلة من النسيج انحلت خيوطها، وتفككن أجزاؤها، فتفقد كل قابلية في نفسها لأي نوع من أنواع الكفاح، وتصبح لا هي قادرة على منازلة الاستبداد، ولا هي مستطيعة السير موحدة القوى في مسالك العلوم والفنون، أو الضرب في آفاق التجارة والمعاملات وغرها من مقومات الحضارة الحقيقية في هذا العالم.

وطبيعي بعد ذلك أن لا تستطيع بلاد الأحرار الرضا بما هو من شأنه إلحاق كل هذا الأسى بكيان المجتمع، واستجلاب كل هذه الويلات والكوارث له. .

إننا نغرس في نفوس مواطنينا شعور الكراهية والبغضاء نحو هذا الداء الوبيل منذ نعومة أظفارهم وعهود طفولتهم، ولا ننظر نظرة ارتياح وتسامح إلى شكوى أبنائنا بعضهم من بعض، ونعاقبهم بقسوة متناهية على حوادث التهم والافتراءات التي تحدث بينهم، ونشهر بالصبي الذي يتجسس على أي عمل من أعمال زميله ردعا لغيره وزجرا.

وقصارى الكلام، أننا نبذل أقصى جهودنا قولا وعملا، لكي نبث شعور الكراهية والمقت في القلوب الفتية نحو داء الجاسوسية المرذول. وعندما يشب هؤلاء عن الطوق ويترعرعون، تتهيأ لهم فرصة الاطلاع على دستور البلاد وفهم مغازيه أيضا. . وحينئذ تكون الجاسوسية قد زالت بكلبتها من البلاد. .

- أيها الأستاذ. . إن إيضاحاتكم هذه قد أحدثت انقلابا في كياني، إنني أشعر بالحاجة إلى أن أخلو إلى نفسي وإلى أفكاري الآن، فهل تسمحون بأن نكتفي بهذا القدر اليوم!

- حسنا! سنحضر بعد يومين، ثم نهضوا لمصافحتي وانصرفوا

يتبع

أحمد مصطفى الخطيب