مجلة الرسالة/العدد 1007/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 1007 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 20 - 10 - 1952 |
فلوريدور ومرغريت
أقصوصة فرنسية
- أحبك حبا ملأ جوانب نفسي وملك عليّ مشاعري
- لقد وهبتك قلبي عربونا لحب لا انتهاء له
- أحق ما تقولين، أم هذا صدى غرامي تردده الأوهام؟
- يشهد هذا البدر المنير، وهذا الروض النضير، ويشهد مبدعهما أنني لا أحب سواك، ولا أقف حياتي إلا عليك.
وسمع من بعد وقع أقدام فذعر العاشقان، وتواعدا إلى الغد. وتسلق الشاب جدران الحديقة العالية وتوارى مبتعدا في الشارع وهو يناجي نفسه قائلا: من تكون يا ترى هذه الفتاة التي تقف حياتها على، وما أنا إلا ممثل على المسارح العمومية؟ إن كل ما يتجلى لي فيها ينم عن محتد رفيع وثقافة عالية. لقد أرادت أن تخفي اسمها عني فقالت: ما دمت في مدرسة الدير تلميذة أتلقن العلم فما أنا إلا أسيرة لا أملك نفسي، فاقنع بما أعلنته لك من حبي الآن إلى أن أبرح هذا المكان فأطلعك على الحقيقة وأسلمك يدي أمام الله والناس.
وكان الفتى فلوريدور يستعيد ذكرى اليوم الذي رأى فيه لأول مرة هذه الغادة الفاتنة تطل من نافذة الدير وترسل إليه نظرة أو قدت جذوة الغرام في قلبه. وتابع السير حتى وصل إلى غرفته الحقيرة حيث تطرح على سريره أملا زيارة طيف الحبيبة في منامه.
وعاد الفتى في المساء التالي إلى مكان الملتقى، وبات ينتظر موافاة الحبيبة فأخفقت آماله؛ وعاود الكرة مرارا فما رأى في جنة غرامه غير أزهارها، وما نشق غير عبيرها. ومرت الليالي فتيقن العاشق أن سره قد افتضح، وتأكد أن الحبيبة قد غادرت الدير وعبثا فتش عنها فما عثر لها على أثر.
- 2 -
ومرت على العاشق أيام ساعاتها أعوام، وهو يشغل نفسه بالتمثيل على المسارح، وفي قلبه غصص من تذكارات الفتاة المجهولة وفي ذات ليلة كان فوريدور يقوم بتمثيل دور مؤثر فحانت منه التفاته إلى مقاعد الطبقة العالية، فرأى حبيبته شاخصة إليه وقد ارتسم الحزن العميق على ملامحها وتساقطت من عينيها الدموع. وقف الممثل مشدوها إلى أن نبهه صوت الملقن الذي حسب أنه نسي دوره، فعاد إلى التمثيل بلهجة ملأها الحب روعة وهو يتبع على ملامح من يهوى تأثير إلقائه وإيمائه. وما انتهى من التمثيل حتى هرع إلى غرفته مغيرا أثوابه واندفع إلى مدخل المسرح لعله يرى خالبة لبه. فلم يوفق إلى لقائها؛ وتكررت هذه الحادثة والممثل يحاول عبثا مقابلة الفتاة عند نهاية عمله، إلى أن دخل عليه يوما وهو في لجج ن الأحزان شيخ مهيب تدل أثوابه على أنه من علية القوم، فاستقبله الممثل مستغربا هذه الزيارة، ولكن الشيخ مد يده مصافحا وقال: عفوا أيها الشيد؛ إنني أتيتك ولا معرفة بيننا، ولكن من الأمور ما يجيز تجاوز المألوف؛ ولدي مسألة هامة يتوقف عليها شرفي وسعادتي. أنا نبيل وأنت من كرام الناس فسوف أتناول الموضوع بلا توطئة.
- تكلم يا سيدي، فأنا مصغ
- هب أنك أمير ولك ابنة جميلة في ريعان الصبا وهي وارثة اسمك الوحيدة، وقد وجدت لها عريسا من أعاظم الدولة تحسده الملوك على أمجاده فلم تقبل ابنتك ما أعددته لها من سعادة فماذا تفعل؟
- أترك لها الحرية، وأجتهد أن أكتشف سر قلبها، إذا لعلها وهبت قلبها لمن امتلكها حبه فلا تستطيع مقاومة قضاء الله فيها.
- وإذا عرفت أنها عاشقة؟
- أطاوعها في إرادتها وأساعدها على الاقتران بمن تهوى، فليس بغير الحب من سعادة على الأرض.
- وإذا كان ما تشير به يفوت الإمكان؟
- ولماذا؟
- لأن الفتاة التي أتكلم عنها هي وحيدة الدوق بارسلان أحد نبلاء القصر، وهذا الدوق واقف أمامك الآن، ولأن الذي تهواه ابنتي رجل شريف ولا ريب، ولكنه ممثل.
- فهمت يا مولاي. إن في تنازل ابنة الدوق بارسلان إلى عشق من هو دونها نسباً لعارا تأباه الطبقة المميزة بالألقاب، ولكن ما تعني بهذا الكلام؟ - إذا كان الأمر لا يتضح لديك، فهاأنذا أصرح. إن الممثل الذي امتلك فؤاد وحيدتي هو أنت، أيها السيد فلوريدور.
وصعق الممثل وهتف قائلا - أنا؟
- عفوا، إن في هذا التصريح ما يمس عزة نفسك، ولكنني ألجأ إليك فلا تخيب أملي، فإنك على ما أرى لا تعرف ابنتي وما اجتمعت بها؛ فإذا ما تقدمت إليك بطلب ظاهره مستغرب يؤدي إلى إلزامك بتضحية فلن يصعب الأمر عليك، وعليه يتوقف الإيفاء على شرف اسمي وحياة وحيدتي وهي تعلن أنها لا تريد أن تقترن بغيرك.
- وما هي هذه التضحية؟
- إنك قادر على اقتلاع جراثيم حبك من قلبها
- وبأية طريقة أقتلع ما تسميه جراثيم حبي؟
- أصغ إلي. . . إن وحيدتي لم ترك إلا عن بعد وأنت على المسرح مرتديا أثواب الأبطال تنشد أجمل الأشعار، فمن السهل عليك أن تبدد أوهامها إذا أنت رضيت بالظهور إليها في مظهر الرجل العادي، بل الرجل المتهتك السكير البعيد عن كل تهذيب وثقافة، فتتأكد عندئذ أنها عشقت ثوبا، وأعجبت بما ليس منك بل من أقوال الشعراء. إن ما أكلفك به هو الظهور بهذا المظهر فتحتقرك وتشفى من دائها العقام؛ وهل من قاتل للحب غير الاحتقار؟
استغرق فلوريدور في التفكير. لو كان ما يعتقده الدوق صحيحا من أنه لم يجتمع بالفتاة وما عرفها، لكان هنالك واجب يسهل القيام به، ولكن أنى للقلب الذي ضم المحبوب إليه أن يستهل انسلاخه عنه: ولاحت الفتاة الشريفة الرفيعة المحتد لخيال الممثل واقفة من حبه على شفا جرف تكاد تنزلق عليه هازئة بقلب أبيها واعتقادات من تنتمي إليهم. وطال تفكيره وهو يقابل بين ضحيتها والتضحية التي يعرضها أبوها عليه، فإذا بصوت الشيخ والوقور يرتفع قائلا: لا تتردد، أيها السيد الكريم! إن ما يوجه إليك الآن إنما هو رجاء والد حصر في وحيدته كل ما في الحياة من سعادة ومجد وآمال؛ فما أنا إلا شيخ هاو ضعيف، بل أنا أحد أشراف وطنك أضرع إليك أن تحفظ اسم سلالتي من العار، فلا تدعني أذهب بواجبي إلى القسوة على ابنتي التي لم يترك لي الدهر سواها.
وأدمى كلام الشيخ قلب الفتى، فوعد بالقيام بما يطلب منه لاستئصال حبه من قلب الفتاة الوحيدة التي ملكت لبه وملأت جوانب نفسه.
- 3 -
وفي اليوم التالي عند الظهر أعلن خادم القصر لسيده الدوق قدوم الممثل فلوريدور. فقال الدوق أدخله إلى البهو الكبير وهاأنذا آت إليه.
دخل فلوريدور البهو وجاء الدوق يصافحه؛ ثم ظهرت الغادة فقال الدوق:
أقدم إليك، يا ابنتي، الممثل فلوريدور الذي أعجبت بتمثيله وهو من كبار أهل الفن، ولذلك دعوته إلى مائدتنا ولعلك تسرين بذلك.
وطأطأ فلوريدور رأسه مفكرا بأية فظاظة يجب عليه أن يبتدئ بتمثيل دوره الذي عاهد الدوق على القيام له؛ ولكنه ما رفع بصره وشهد خالبة لبه حتى علا وجهه الاصفرار، وما مدت يدها لتصافحه وهي ترتجف من الشوق خيل إليه أنه يلصق شفتيه بشفتيها، ويغرق نور عينيه بأنوار عينيها. والتفت إلى ما حوله فارتعش أمام مظاهر الأبهة والبذخ في هذه القاعة تقف بينها فتاة حديقة الدير التي أقسمت له بالله ألا تحول عن حبه ولا ترضى بغيره رفيقا لحياتها، فرأى هاوية سحيقة تنفتح بين رجليه ولاحت له الحبيبة في معتصم من جبل لا قبل له ببلوغه، وتذكر وعده للأب الشيخ المتوسل الضعيف. فتمالك عواطفه وفيها ثورة وسعير.
وجلس فلوريدور إلى المائدة بين الدوق وحبيبته؛ فلما قدم الخدم أول لون من الطعام كان قد ملأ كأسه وأفرغها في جوفه دفعة واحدة، ثم ألحقها بكأس وكأس؛ ثم أخذ يمثل دوره متكلما بلهجة عوام الناس منتخبا ألفاظه السمجة، وما مرت نصف ساعة حتى كان فلوريدور يحملق بعينيه ويقسم ويلعن متدحرجاً تحت المائدة وقد سحب غطاءها معه فتدحرجت الأواني تتحطم بفرقعة أخفت الزفرات التي كانت تندفع من فم شهيد المروءة بالرغم عنه.
ونهضت ابنة الدوق بإشارة من أبيها وقد علا وجهها اصفرار الموت، فتقدم الدوق إلى الفتى قائلا: إن مروءتك تفوق إبداعك في التمثيل، لقد جبرت فؤادي الكسير، دعني أسد إليك الشكر الذي تستحق. ولكن ماذا أرى. . ما هذا الدموع المتدفقة من عينيك أيها السيد؟
ووجم الدوق إذ لم يجبه فلوريدور بكلمة؛ بل اندفع إلى خارج القاعة كأنه فقد رشده مرسلا ما كبته من زفرات وعويل.
- 4 -
ومر فلوريدور بعد أيام قرب دير راهبات الكرمل، فرأى جمعا محتشدا في الأسواق المجاورة، وسمع رنين الأجراس مؤذنة باحتفال كبير، وإذا بعربة مذهبة موسومة بشارات الشرف ووراءها عدد من العربات الأخرى، وكلها فاخرة تجرها الجياد المطهمة. فسأل أحد المتفرجين عن هذا الاحتفال فقال له: هذه عربة الدوق بارسلان تحمله وامرأته لحضور حفلة ابنتهما. .
ولم يقف فلوريدور ليسمع تتمة الحديث؛ بل اندفع راكضا نحو مسكنه الحقير وهو يقول في نفسه: أواه، لقد نجحت في تمثيلي، وهذه الحبيبة تتزوج اليوم بشريف من طبقة أهلها. ويلاه من ظلم الأقدار!
وما آوى إلى غرفته حتى رأى على الخوان غلافا باسمه، فافتض ختمه وقرأ ما يأتي:
(بالرغم من محاولتك اقتلاع حبك من قلبي لم يزل شخصك نصب عيني، فلن أنظر إلى غيرك حتى يواريني رمسي. ما فاتني الجهد الذي بذلته لإرضاء والدي. فقد كنت أقرأ في قلبك حقيقة نفسك وأنت تسدل عليها ستار تمثيلك؛ ولهذا أقسمت ألا اسلم يدي إلى سواك، ولكنك لن تتسلم هذه اليد، فكل شيء يفصلني عنك حتى إرادتك. فهاأنذا أنخرط في سلك الرهبنة لأبر بقسم أقسمته أمام الله في الحديقة بين ذراعيك وأقسمته أيضاً وأنت تخنق زفراتك، وتقضي على كرامة نفسك.
(اليوم أتشح السواد، وأسدل على وجهي النقاب. وهذا الكتاب وهو آخر فكر أوجهه إلى هذه الحياة، وحتى تطلع عليه تكون حبيبتك مرغريت دي بارسلان قد ماتت عن هذا العالم لتحيى بالله. . .)
الراهبة إيناس
ف. ف