الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1007/الداء والدواء

مجلة الرسالة/العدد 1007/الداء والدواء

بتاريخ: 20 - 10 - 1952


للدكتور فضلو حيدر

محاضرة ألقاها في منتدى البردوني

بقية ما نشر في العدد الماضي

الشعب المزمن

كلنا نعلم أن العلم ضروري للحياة ونافه للجسد إذا لم يتعد حدود القوى الجسدية والعقلية والنفسانية. وكل تعب اعتيادي يجب أن يزول بعد راحة قصيرة وينبدل برغبة إلى العمل ثانية. ولذلك يحتاج العامل إلى الراحة. والنوم لا يكفي وحده لإعادة الراحة التامة؛ بل يحتاج الإنسان علاوة عليه إلى ما ندعوه التسلية والاستجمام. والتسلية تشمل كل الأفعال التي نصرف بها وقت الفراغ بلذة تؤدي غالبا إلى توازن العواطف وإزالة التعب الجسدي والضغط النفساني. فوقت التسلية ليس وقت (الفراغ) بل هو ثمين جدا فسويعاته تطيل العمر وتجدد القوى. أما إذا أسئ استعمالها فتنعكس الآية فتزهق القوى وتقصر العمر. ومن السبل المفيدة للاستجمام نذكر الرياضة الجسدية والمطالعة النافعة والموسيقى والرقص والفنون وتربية الحيوانات وغرس الجنائن والصيد وغيرها. وكم من المشاهير خلدوا اسمهم بأعمال كانت لهم نوعا من التسلية.

ومن أعراض التعب المزمن تهيج الأعصاب وقلة الشهية ونقص رغبة العمل بالرغم من الراحة الاعتيادية، فينهض المرء صباحا بدون نشاط. فالمتعب حاد المزاج، ضعيف المناعة للأمراض، يعيش تاعسا ويسئ إلى عيلته ورفاقه، شاذ السلوك، غير مرغوب به في الأعمال والمجتمعات.

ومن مسببات التعب المزمن الاحتكاكات النفسانية كالتردد في الرأي وعدم الثقة بالنفس وبالغير؛ فيستنزف المرء قواه في عراك داخلي بين الإقدام والإحجام وخوف الفشل. ومن أسباب ضعف الثقة بالنفس الجهل وإحجام الفرد عن بحث أعماله بأمانة كي يعلم أسباب الفشل والنجاح. ولو بحث المرء نتائج أعماله لبدل جهله بالمعرفة وخوفه بالثقة. كذلك إذا ساد الحسد والغضب ووخز الضمير والطمع وكثرة الطموح في سلوك الإنسان؛ ساد التعب المزمن.

ومن مسببات التعب المزمن أمراض القلب والشرايين والسكري وسوء الغذاء وقلة النوم وفقر الدم والقلق والأقدام المسطحة.

فعلى المرء أن يوزع وقته بحكمة بين العمل والتسلية واليقظة والنوم والكد والراحة وأن يصغي جيدا إلى إنذار التعب المزمن ويتلافاه.

ومن مسببات الشيخوخة الباكرة تدهن الأوعية الدموية أي ترسب المواد الدهنية في الأوردة قبل أوانه، ويعقب ذلك عادة ترسب الأملاح الكلسية فتعيق مجاري الدم ويقل غذاء الأنسجة فيحدث من جراء ذلك ضعف القوى جسديا وعقليا وأمراض التجلط في القلب والدماغ.

وبالإمكان أن نكتشف تدهن الأوعية الدموية قبل استفحاله أو لربما نتلافى حدوثه، أو نؤخر سيره. وذلك بفحص القلب والأوردة والدم والكليتين وبوزن مادة دهنية في الدم تدعى كولسترول يرجح بأنها السبب الأول في تدهن الشرايين. وإذا كان الكولسترول فوق المعدل نلجأ إلى الوقاية بتخفيف وزن الجسم وتحوير الغذاء فتمنع أو تحدد المآكل الغنية بالكولسترول كالبيض والزبدة والأدهان. وعلاوة على ذلك تعالج الأمراض التي تؤدي إلى التدهن إذا وجدت في الفرد وأهمها السكري والتهاب الكليتين المزمن وإدمان الكحول والمهيجات وباستئصال البؤر الصديدية في الجسم، وفوق كل هذا تقنن الحياة بتخفيف الأعمال الجسدية وتربية روح التفاؤل والسرور والاقتصاد في أشغال القلب والكليتين.

4 - الغذاء وطول الحياة

كلنا نعلم أهمية الغذاء في الحياة. فلا حياة بدون طعان. وإذا لم يكن كاملا فلا يكون النمو تاما ولا الجسم قويا ولا المناعة ضد الأمراض كافية.

وتقدر كمية الطعام تقريبا بحاسة الشبع ووزن الجسم. فلا تأكل أكثر من قابليتك اعتقادا بأن زيادة الأكل تؤدي إلى قوة الصحة. فالجسم يستهلك حاجته فقط وما نزدرده علاوة إما أنه يشوش الهضم أو يصبح عبثا على أعضاء الإفراز أو يترسب دهنا في الأنسجة، أو يعرض المرء إلى الصراع والدوخة وأمراض الجلد والألرجية والأوجاع العصبية.

والأفضل أن يكون الطعام منوعا لأن الجسم يحتاج لترميم أنسجته وللنمو إلى عناصر متعددة يصعب أن تتوفر في أنواع قليلة من الأطعمة.

والغذاء التام يحتوي على المواد الآتية:

(1) الزلاليات (اللحوم. الجبن. الحليب. الحبوب)

(2) الأدهان (الزبدة. الزيوت. الشحم)

(3) النشويات (الأرز. البطاطس. الحلويات)

(4) الأملاح المعدنية (مركبات الحديد والنحاس والفوسفور واليود والمنغنيز وملح الطعام).

(5) الفيتامينات على أنواعها (موجودة بكثرة في الحليب والزبدة والكبد والخضرة الطازجة والبيض).

(6) الماء.

والطعام المركب من الحليب والجبن والبيض والكبد والخضر الطازجة والفاكهة يحتوي على كل ما يحتاجه الجسم، وقد لقبت هذه المواد الغذائية المذكورة بالطعام الذي يطيل العمر لأنه تام غذائيا.

والفيتامينات والمعادن لا تغني عن الطعام ألبتة، ولكنها تتممه، فهي ضرورية ولا غنى للحياة، حتى أن الأرض الفقيرة بالمعادن تنتج نباتا فقيرا بقيمته الغذائية. يسبب نقص المعادن أمراضا عديدة. فنقص الكلس يسبب مرض الكساح وضعف الأعصاب ويعرض إلى أمراض التشنج، ونقص الحديد يولد فقر الدم، وقلة اليود تضعف الغدة الدرقية فيتأخر نمو الجسم والعقل. ونقص الفيتامينات تسبب أمراضا عديدة. فالفيتامين ضروري للنظر والنمو والمناعة، وللغذاء والنمو والأعصاب للعظام والنمو والأعصاب للكريات الحمراء والأوعية الدموية واللثة والمناعة للتناسل ومرض السكر وهلم جرا.

ولا لزوم لشراء الفيتامينات والأملاح المعدنية من الصيدليات إذا كان الغذاء كالا والصحة جيدة.

5 - وزن الجسم وطول العمر

ولوزن الجسم أهمية كبرى في إطالة الحياة. ومع أنه لا قانون تام لوزن الفرد الصحي فهو يساوي على التقريب كيلوات بعد السنتيمترات التي تزيد عن المتر في طول الشخص. ونقدر أن نقول إجمالا إن الوزن الأفضل لطول الممر هو ما كلن 10 كيلو فوق المعدل المذكور في الشبان اتقاء لأمراض الصدر، وما كان 5 - 10 كيلوات تحت المعدل في من جاوز الخمسين من السن اتقاء لأمراض القلب والأوردة والكليتين، وما كان ضمن المعدل المذكور في من تتراوح أعمارهم بين 25 - 50 من السنين.

6 - السلوك وطول الحياة

إن الإمراض التي ذكرتها - أي الميكروبية والسرطان والتعب المزمن والشيخوخة وتشوش الغذاء وزيادة أو نقص وزن الجسم ليست خاتمة الأسباب التي تفت من وقوانا وتهدم من عمرنا بل هي ضئيلة إذا قيست بعثراتنا اليومية أي هفواتنا السلوكية التي تدمي كل لحظة نفوسنا هما وغما وحسدا وندما.

لقد قيل (قبل الكسر الكبرياء وقبل الهبوط تشامخ الروح) وقال عنترة:

لا يبلغ الحقد من تعلو به الرتب ... ولا ينال العلى من طبعه الغضب

وقال المتنبي:

والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الشباب ويهرم

وكل منا يخاطب نفسه قائلا:

(كيف يجب أن اسلك في هذا العالم كلي أتبوأ مقامه مرموقا؟) أو (كيف أتغلب على معضلاتي اليومية كي أنجح اقتصاديا؟) أو (كيف أعدل وأصيب بين نوازع الإقدام وروادع الإحجام؟)

يرد سلوك المرء إلى ثلاثة أشكال رئيسية:

أولها السلوك البديهي وهو ما ربينا على علمه وتعودناه في أعمالنا اليومية والمواقف المألوفة. فهو إذن مرآة أخلاقنا وصورة شخصيتنا، هو حظنا وبختنا نراه في الرجل المهضموم أو الممقوت، في اللطيف أو الفظ، في الغيرى أو الأناني، في المتفائل أو المتشائم، في القدرى أو البحاثة. ولا بأس إذا أعدت مرارا وتكرار بأن مسؤولية الأبوين حيوية في تكوين سلوك أولادهم وخصوصا في السنوات الثلاث الأولى من العمر.

والسلوك التقليدي أو الإيحائي أو سلوك القطيع هو الشكل السلوكي الثاني. تسمع كل دقيق من يقول: (حط رأسك بين الروس ونادي يا قطاع الرءوس) أو (كل الناس تعمل هكذا) أو (اعمل مثل فلان تنجح).

ومعلوم عند الجميع أن الناس تسير كالقطعان في الموضة والعادات والتقاليد والحياة الاجتماعية؛ وهذا النوع من السلوك مفيد جدا إذا قلدنا المبرزين والصالحين وهو يمثل الشطر الأكبر من سلوك الإنسان في الحياة.

والثالث السلوك الواعي أو العقلي

تبرز أمامنا، في البيت والعمل والمجتمع، معضلات ومشاكل جديدة لم نتعودها ولا نعلمها، فالبت فيها على البديهة يؤدي اعتياديا إلى الفشل. فهي تستدعي إذن البحث والتفكير قبل الفصل.

فإذا نزلت بك كارثة، أو هبطت عليك ملمة، في صحتك أو أعمالك أو علاقاتك الاجتماعية، فماذا يجب أن تفعل؟

ابحث أولا معضلتك بحثا وافيا وأمينا. ومنى اكتشفت السبب فأزله مهما كلفك الأمر.

وإذا لم يكن بالإمكان إزالة السبب، ولم يكن من بد لوقوع المصيبة، وافق نفسك مع الحالة الجديدة مهما كانت بدون وجل أو هم أو حسد. فالانتصار لك يا أخي إذا رضيت بالواقع فعشت في الحقيقة دون أن تفقد صحتك ولذة عشيك تحرقا على ما فات، لأن لديك دائما متسعا من الزمن ومجالا للعمل وحافزا من الأمل.

ولكن إذا أظلمت الدنيا في عينيك، فاستحال عليك الفصل، واستوى لديك العقل والجهل، فخشيت الهبوط والاضمحلال فلا تنس عند لك ثلاثة تفزع إليهم في الملمات:

أولهم صديقك الصدوق - وما أثمنه - ولربما تجده بين رفاقك وذويك، أو بين كتبك، أو في عالم مجرب، فأصغ إليه بانتباه فلربما يكون في قوله السبيل السوي.

وثانيهم طبيبك، ليس كمستشار صحي فقط بل كرجل تثق به إلى أبعد حدود الثقة، تسر غليه المكتوم، وتفشي له الكروب وتلقي على عاتقه همومك.

وثالثهم عند اشتداد الملمات، وتلبد الظلمات وسيادة اليأس هو طب النفس، فإما أن تصغي إلى صوت الفلسفة يقول لك إن أشد همومك لا بل كلها من عبادة ذاتك. فأنت ذرة من ذرات هذا الكون تتمشى عليك نظاماته من مسيئة أو سار كما تتمشى على سائر أجزائه. فإنس بأنك من شعب الله الخاص وانظر إلى معضلاتك بعين البحث العلمي والتفسير الفلسفي وهكذا تخرج من عذاب أنانيتك، أو فاتبع الدين فتجد فرجك بالإيمان. فكم من المرات فرج الإيمان عن المحزون والمغبون وشفى المقعد والأعمى وفتح قلب اليائس بالأمل فأنار ظلمات النفس بقبس قصر عن أدائه العلم.

وخلاصة القول أن العلل التي تقصر العمر تأتي إما من أسباب خارجية كالمكروبات والغذاء والفواعل الطبيعية، أو من أسباب داخلية كالسرطان والشيخوخة وأمراض السلوك.

وعلاجها مركب من ثلاثة عناصر - التربية والمعرفة والأمل - ومن ثلاثة نظائر لتلك العناصر - المحبة والحكمة والإيمان.

وسعيد من حظي بالتربية الصحيحة والعواطف السامية

ومن حاز المعرفة العالية والحكمة المبدعة

ومن نصب في وجدانه هدفا ساميا يؤمن به

فضلو حيدر