مجلة الرسالة/العدد 1006/من سير الخالدين
→ الداء والدواء | مجلة الرسالة - العدد 1006 من سير الخالدين [[مؤلف:|]] |
شلر ← |
بتاريخ: 13 - 10 - 1952 |
نابليون. . وجنوده. . وقواده. .!
للأستاذ عبد القادر حميدة
شرع الكتاب في هذه الأيام أقلامهم. . بعد أن غمسوها في مراجع التاريخ. . ينقلون عن صفحاته وسطوره سيرا ملوثة لملوك غابرين. . فيعددون مساوئ هذا. . ويرددون هفوات ذاك. . وعلى الجملة فهم يقدمون إلى القراء حياة تضج بالشهوة. . وتزخر بالفسق. . وتحفل بالفجور. .!! حياة لا تهدف إلا للمتعة. . ولا تنشد إلا البعث. . وفي اعتقادي أن مثل هذه النقائض المنتقاة من كتب التاريخ. . التي تعرض اليوم على الأعين. . وتلقي على الآذان. . لا تحط إطلاقا من قيمة الملك السابق. . ولا تصيب منه مرمى. . لأنه سيشعر - على الأقل - بأنه لن يقترف هذا الجرم وحده. . بل سبقه ملوك سالفون. . لم يبلغوا ما بلغه من الترف والأبهة. . وتلك لعمري مؤهلات العربدة. .!! كان الأحرى بالكتاب. . أن يتخذوا من صفحات الجرائد لوحات يسيطرون عليها أمثلة من. . الشرف. . والعفة. . والكرامة. . والنزاهة. . وكراهية. . الذات. . والحنو على الشعب.!! لأناس دستورهم هذا، ولدينا كتب التاريخ حافلة، وبهذا يدرك الملك السابق كما يطمئن جمهرة الناس إلى أنه طرق باب النزاوت وحده، وسلك دروب الشيطان بمفرده، وانساق أمام تيار جارف من النشوة الزائلة، لا تحوطه إلا حاشية لم تكن تريد إلا تحقيق أطماعهم الشخصية. . ولو على حساب تلويث صفحة تاريخية.!
وحين يدرك فاروق أنه وحده نشز عن طبيعة الخلق - بعد أن يدرك القراء أيضا - سيتضاعف شعوره بالألم - إن كان لديه بقية من ضمير - ويحس بالوخز أشد إيلاما، وأحد نصلا! وإني إذ أقدم اليوم إلى قراء الرسالة جانيا من حياة نابليون إنما آمل أن ينهج إخواننا الأدباء هذا النهج، ويسيروا على ذلك الدرب:
. . . كان نابليون شديد الانتباه إلى أصاغر جنوده لاعتقاده أن الجندي الصغير قد يكون ذا قلب كبير، وأن حسن المعاملة مدعاة لزيادة الإخلاص، قال دوق فيسالس (إن تلك الشوارب القديمة (يعني رجال الحرس) لم يكونوا يجسرون على مخاطبة أصغر ملازم في الجيش بمثل ما كانوا يخاطبون ذلك القائد الأكبر الذي كانت هيبته تملأ نفس الجيش كله)، وق دون باسانو: (إني رأيت الإمبراطور مائة مرة ينتقل ليلا من معسكر إلى آخر، ويقف هنا وهناك لدى النيران ويسأل عما يغلي في القدر ثم يقهقه من الأجوبة المضحكة التي كان يسمعها من الجنود)، وقال القومندان كلود بزجيه في تاريخه (يا الله، ما أعرف نابليون بالجندي الفرنسي، وما أقدره في مخاطبته والضرب على أشد الأوتار تأثرا في قلبه أعني وتر الشرف) ولقد وصف نابليون نفسه الجندي الفرنسي في صفحة جميلة قال فيها: (إن الجندي الفرنسي رجل مفكر قاسي الحكم فيما يتعلق بشجاعة ضباطه ومواهب رؤسائه، وهو يجادل رفيقه في شأن الخطط والأساليب الحربية، ويستطيع القيام بأي عمل من الأعمال إذا كان لرؤسائه حرمة في نفسه وإذا كان هو يستحسن مجرى الأحوال الحربية، أما إذا كان الأمر على العكس فلا يمكن الاعتماد على الفوز. وابن فرنسا هو الجندي الوحيد بين جنود أوروبا الذي يستطيع القتال ويقوم بجليل الأعمال وهو ضامر البطن مطوي الأحشاء على الطوى، ومهما طال زمن المعركة فهو ينسى الأكل في سبيل الفوز، حتى إذا انتهى القتال صارت مطالبه أكثر من مطالب غيره. والجندي الصغير من الفرنسيين أشد اهتماما بإحراز النصر من ضابط بروسي، وهو يدعي أن الفضل الكبر في كل نصر يرجع إلى فيلقه، وجملة القول أن جنود الأمم الأخرى تصبر يوم الوغى بحكم الواجب، والجندي الفرنسي يحارب إجابة لصوت الشرف. . فإذا أصابه فشل شعر بأن نفسه ذليلة. . وإذا فشلت الجنود الأخرى عادت غير مكترثة).
وربما كان رأس الأمور التي حملت نابليون على تسمية الوسام الذي أحدثه (بوسام جوقة الشرف) ما كان يعرفه من رسوخ ذاك الشعور في نفس الفرنسي، وإذا رجعت إلى الأوامر العسكرية وخطب التحريض التي كان يلقيها عليهم أبصرته يحاول فيها كلها أو جلها أن يظهر للجندي ما يحرزه من الشرف والفخر هو وآله إذا عاد وإكليل النصر يزين جبينه، ولقد كان الأعداء أنفسهم يعرفون أن قوة الجندي الفرنسي إنما هي بعواطفه ومشاعره، لا بقوة ساعديه وعرض كتفيه، قال أحد القواد البروسيين بعد معركة يانا: (لو كان علينا أن نقاتل الفرنسيين بسواعدنا فقط لأدركنا النصر في وقت قريب، لأن الجندي الفرنسي صغير ضئيل يستطيع أملاني واحد أن يتغلب على أربعة مثله، ولكن هؤلاء الجنود الصغار ينقلبون إلى طبقة فوق طبقة البشر تحت النيران ويندفعون بنخوة لا نستطيع إيضاحها ولا نرى لها مثيلا في جنودنا) ولا شك في أن هذا الإقرار من ضابط بروسي كان من أجمل الشهادات التي تسطر للجنود الفرنسيين.
وكان نابليون لا يكتفي بإظهار الاحترام والميل إليهم من أجل تلك الفضيلة، بل كان يحبهم حبا صادقا، قال بعض المؤرخين: إن جنوده كانوا أولادا له بالمعنى الصحيح؛ يشرف على أمورهم ويسهر عليهم كما يسهر الأب على بنيه ويحضر توزيع المأكل عليهم ويتناول الحساء معهم.! وكان نابليون يضع اللين في محله والقسوة في موضعها، فيعفو عن الجندي المذنب إذا رأى وجها لعذره أو ما يخفف ذنبه، ولا يتسامح إذا وجد التسامح مضرا بالمصلحة الحيوية، وإليك أقصوصة تدلك على شيء من خلقه:
حدث أيام المعارك بروسيا أن الجنود الفرنسيين ضربت مضاربها لتستريح بعد السهر المضني ثلاث ليال متتالية، ولما جاءت العتمة خرج نابليون يتفقد أحوال الحراس في أطراف المعسكر جريا على عادته في كثير من الأحيان ولا سيما في الأوقات العصيبة، فاتفق أنه رأى حراسا برج به الوصب وتسلط عليه الكرى بعد السهر الطويل فهوى إلى الأرض، ونام، تاركا بندقيته إلى جانبه، فأراد نابليون أن يوقظه ولكنه أبصر في تلك الدقيقة طوافة من الضباط قادمة نحوه فأخذ بندقية الحارس النائم ووقف مكانه حتى لا يدع الضباط يبصرون به ويعاقبونه، ولما طلب الطوافة سر الليل أجابها نابليون فسارت في طريقها لإتمام التفتيش، وفي تلك الأثناء استيقظ الحارس النائم فوجد بندقيته بيد رجل غيره فأسرع نحوه فإذا هو قائده ومولاه، ولكن نابليون سرى عنه قائلا: لا تخف، ثم سأله: كم مضى عليك من الزمن بلا نوم؟، فقال: ثلاثة أيام، ومع ذلك كنت لأنام لولا ما أصابني من الجروح! ثم أبصر نابليون أن الجندي كان مصابا بجرحين فأعجب به، ومنحه وساما، ثم قال وهو يبتعد عن ذاك البطل: (لا ريب أني أستطيع فتح العالم بهؤلاء الرجال. .) وكان نابليون يعرف وجه الضعف في رجاله، فيأخذهم به ويضرب على الوتر الحساس من أوتار قلوبهم، فمن شأنه المعروف أنه كان مع شدته في المحافظة على النظام العسكري يسمح لرجال الحرس القدماء الذين حضروا المعارك وأبلوا البلاء الحسن بأن يخاطبوه بصيغة المفرد بعكس ما يقضي به أدب الحديث في اللغة الفرنسية، ولاسيما إذا كان المخاطب كبيرا والمخاطب صغيرا، فإن استعمال صيغة الجمع في الكلام واجب لا يصح إغفاله، على أن نابليون كان يعلم أن عادة أولئك الأبطال التي تدل على انتفاء الكلفة صارت إليهم من روح الجمهورية، وأنها تنطوي على همة واحترام يسهل في سبيلها بذل المهج الغالية.
وكان نابليون قبيل عرض الجنود يدعو الكولونيل ويسأله عن أسماء الذين امتازوا في المعارك الماضية ويطلب بعض أخبار عن أهله، ثم يمر وقت العرض بأولئك الجنود الممتازين فيذكر لكل منهم اسم المعركة التي امتاز فيها والمكافأة التي أخذها ويسأله عن أمه العجوز إن كانت حية. . أو عن غيرها من آله الأقربين. . فيطير الجندي منهم فرحا وطربا حين يرى قائده الأعظم يتذكر خدمته ويعنى بأمره، ثم يصبح نابليون حديث النهار وسمر الليل بين الجنود كلهم. . فيأخذ كل منهم يحكي حكاية عن ذاكرته العجيبة ومعظم تلك الحكايات من بنات المخيلات!
وكان من أكبر العوامل في تفاني الجنود أن كل واحد منهم بات يحسب نابليون منصفا للشجعان وذوي الكفاءة الحربية، وكان كبار القواد أقوى البراهين الحية لديهم على صحة ذلك الاعتقاد، فإنهم خرجوا من الجيش وبعضهم استوى على العروش مثل المارشال مورات الذي عين ملكا لنابلي، وبرنادوت الذي استوى على سدة أسوج، ومعظم الجنود كانوا يرون الرقي إلى أحد العروش رتبة عالية من الرتب التي كان نابليون يمنحها لرجاله فيقولون مثلا، (فلان صار ملكا. . كما يقولون. . فلان رقي إلى رتبة كولونيل) مع مراعاة النسبة بين الرتبتين.! وهناك أمر آخر كان نابليون يعني به عناية خاصة وهو تعزيز ما يسمونه (روح الفيلق) في الجيش، ومعناه بعبارة أخرى أن يفرغ القائد جهده في زيادة التنافس بين فيالق جيشه. . فتتسابق في مضمار الشجاعة والبأس، ولقد نجح نابليون نجاحا باهرا في هذا السبيل حتى صار كل فيلق من فيالقه بل كل آلاي من آلاياته يعد نفسه في مقدمة الجيش. . ومما يذكر عن سمو الأساليب التي كان يتبعها نابليون لبلوغ المقصد أنه كان إذا رأى النصب والجوع ينهكان تلك الجنود الفولاذية كما كانوا يلقبونها، نزل هو وسار مع الجنود، فأخذ كل واحد من هؤلاء يقول (الإمبراطور. . الإمبراطور) وتغيرت مشية الفيلق كله كأنما تيار كهربي سرى إليه من أوله إلى آخره.! هكذا كان نابليون وهكذا كانت جنوده. وكل فريق منهم خليق بالآخر. .
كان نابليون ينظر إلى الجيش كما ينظر الصانع العالم إلى آلة عظيمة يقتضي تركيبها تدقيقا شديدا وفكرا سديدا، ولذلك كان يفكر في كل ما قل وجل من أموره حتى انتقاء الخيل وشراء المؤونة اللازمة لها كما تدلنا رسائله المدهشة، وليس بنا حاجة إلى القول أن اختيار قواده كان له الشأن الأكبر لأنهم القطع الرئيسية التي تتركب منها تلك الآلة العظيمة.! ولم يكن في وسع نابليون منذ مائة وثمان وستين سنة أن يختار قواده من الضباط الذين قضوا سنوات عديدة في درس القواعد العسكرية لأن التعليم العسكري لم يكن شيئاً مذكورا في ذاك الوقت، والفضل في كثير من القواعد الحربية الباقية حتى اليوم يرجع إلى نابليون نفسه، وما كانت عظمة هذا البطل الذي لم تحط مثله أصلاب البشر قائمة ببسالته وانتصاراته فقط. . بل كانت تقوم بها وبنظاماته ومبتكراته وعبقريته العجيبة الشاملة، وعليه فإن نابليون لم يكن له مندوحة - وتلك حالة التعليم العسكري في زمانه - من أخذ أولئك القواد الذين خلد التاريخ ذكرهم من صميم جيشه، أي أفراد الشعب الذين قاتلوا في سبيل الدفاع عن حريتهم وحرية وطنهم وصدوا دول أوروبا في سبيل التي هبت لإذلالهم. وكان نابليون قوي الفراسة صادق النظر في الرجال. . فاستطاع أن يقدر قدر كل واحد من الذين خدموا تحت إمرته ونوع الخدمة التي كان يمكنه أن يتفوق فيها. مثلا أنه رأى (مورات) فأدرك أنه خير رجل يقود كوكبات الفرسان ويقدم لها المثل الأعلى بنخوته وحميته وشجاعته، وقرأ على جبين (ناى) أنه الرجل الذي يطير إلى الحمام في صدر المشاة، وما أخطأ ظنه في أن (ناى) كان يسحر رجاله بالقدوة الحسنة وهو الذي أخذ بندقية في معركة (واترلو) وصاح (تعالوا انظروا كيف يموت مارشال من مارشالية فرنسا. .) وهو الذي قال فيه نابليون: (ما هذا رجل إن هو إلا أسد من الأسود. .) وليس مجال كاف لنذكر ما أبداه كل قائد من القواد العظام فحسبنا أن نذكر مع (مورات) و (ناى). . (بسيير) و (سول) و (لان) و (سوشيه) و (برتييه) و (دافو) و (جوفيون سان سير) و (أو جيرو) و (جونو) و (ماكدونالد) و (مسيينا) و (لازال) و (كولنكور). . فهؤلاء وعدة من الأبطال كانوا أسودا لا تقهر، ولكن نابليون كان يخضعهم بنظرة وهو في ذروة مجده الحربي!
وذكر نابليون خطة سلوكه مع قواده: (كنت أحر الرأس البارد. . وأبرد الرأس الحار) أو بعبارة أخرى أنه كان يكسر من حدة الحديد ويثير حماسة البليد مراعاة لمقتضى الحال، وهي خطة بسيطة في ذاتها ولكن تنفيذها مع قواد نابليون كان يقتضي عقلا كعقل نابليون.
وكان من مزايا الرجل أن يزن حسنات كل قائد؛ فإذا رجحت سيئاته حاول أن يصلحه بحذق ومهارة فمن الحوادث المعدودة من هذا الطراز أنه شرع يوما في تعنيف ضابط في رتبة كولونيل لأن جنوده أضروا بمصالح إحدى الدساكر. . فشق على الضابط أن يسمع الكلام المر من قائده وأراد أن ينفصل. . فقال نابليون همسا: (أنا صدقتك فاسكت) وفي اليوم التالي دعا نابليون الكولونيل وقال له: (كن مستريح الفكر فقد كنت أعنف في شخصك بعض الجنرالية الذين كانوا بجانبك. . لو وجهت إليهم التعنيف مباشرة لأوقفتهم في موقف يستحقون في التحقير أو ما هو أبلغ منه. .) وإذا اتفق أنه جرح في حديثه قائد كبيراً. . حاول بعد الحديث أن يضمد جرحه. . فمن ذلك أنه انتقد انتقادا شديدا الجنرال (مارمون) على بعض الأعمال الحربية في معركة (واجرام) فسخط (مارمون) من هذا الكلام وعاد إلى منزله كسير القلب. . شديد الكرب. . فما وصل حتى جاءه رسول إمبراطوري يحمل إليه البشرى. . بترقيته إلى رتبة. . مارشال!
ولما أخذ العدو بلدة مونترو سنة 1814 رأى نابليون أن تأخر المارشال فيكتور كان السبب في ضياعها وأصدر إليه إذنا في ترك الجيش. . ومعلوم من هذا الإذن أنه لم يكن له من معنى إلا سخط الإمبراطور عليه. فجاء المارشال فيكتور وعيناه مغروقتان بالدموع فقابله نابليون وهو يتميز من الغيظ وعيره بالخطأ الذي ارتكبه واستحق من أجله الإبعاد عن الجيش. . فلم يتمالك المارشال أن رفع عقيرته وأكد إخلاصه وذكر خدماته في إيطاليا فسكن غضب نابليون لذكر تلك الخدمات ثم صافحه قائلا: (لا بأس من أن تبقى في الجيش يا فكتور ولكني لا أستطيع أن أعيد إليك فيلقك بعد أن عقدة لواءه (لجيرار) وإنما يمكنني أن أولئك قيادة فرقتين من الحرس فاذهب واستلم قيادتهما ولا تذكر بعد اليوم شيئا مما جرى. .)
ولو شئنا أن نذكر ما لدينا من هذا الطراز لاستغرق مجالا واسعا وتجاوز بنا الغاية المقصودة في هذا المقال. . فحسبنا أن نقول - ومذكرات (مارمون) الذي خان نابليون في أواخر عهده - خير شاهد. . أن نابليون كان في معظم الأوقات يجرح باليمين ويضمد باليسار. . ومما قاله الخصوم في تفسير هذا السلوك الحميد (أن مصلحته الخاصة. . وقلة الرجال الأكفاء حملتا نابليون على مداراة رجاله) وهو تفسير لا يذهب بفضل نابليون. . ولا يحد من قدر سلوكه. . بل هو يدل على حسن سياسته وأصالة رأيه، وليس بمنكر على الرجل أن يفعل الخير ويحسن الصنع لأنه يتفق مع مصلحته. . أو لأن مصلحته كانت تدفعه إليه. . فإنما الأمور بنتائجها. . وكل من يذم هذا المنهج يكون مثله مثل من يطعن على رجل ينقذ آخر من الغرق لأنه أراد الحصول على وسام الإنقاذ أو مكافأة أخرى. .!!
وإذا طالعنا المذكرات الخاصة وجدنا فيها ما يدل على شدة حبه لقواده. قال (كونستان) بعد النصر الباهر الذي أحرزه نابليون في مارنجو: (إنه مع النصر الفاصل الذي أوتيه القنصل الأكبر (أي نابليون) كنت أرى الحزن يملأ نفسه وأسمعه يردد (إن فرنسا فقدت بفقد (دسكيس) فتى من خيرة أبنائها. . وفقدت أنا صديقا من أبر الأصدقاء)
ولما استوى نابليون على العرش الإمبراطوري لم يتغير شيء من عواطفه نحو قواده، بل لبث يسمح للمارشال (لان) بأن يخاطبه بصيغة المفرد. . ولما بلغ نابليون خبر إصابته بجرح قاتل تولاه حزن عظيم وأخذ يزوره صباحا ومساء. . واتفق أنه وصل في عيادته الأخيرة بعد أن لفظ المارشال روحه الطيبة. . فتقدم نابليون وقبله وبكى ثم أخذ يهمهم (يا لخسارة فرنسا. . يا لخسارتي) ولما حاول (برتييه) أن يبعده عن رؤية ذلك المنظر الأليم قاومه نابليون نحوا من ساعة.
وفي اليوم التالي كتب نابليون إلى أرملته يقول: (أيتها النسيبة مات المارشال على أثر الجروح التي أصابته في ساحة الشرف فخلف لي من الحزن ما يضارع حزنك. . ولا غرو. . فإني فقدت بفقده أفضل قائد للجيش وخير رفيق وصديق لزمني منذ ست عشر سنة. . إن أسرته وأولاده لم كل حق في طلب حمايتي ورعايتي) ثم كتب إلى الإمبراطورة (إذا أمكنك أن تساعدي في تعزية أرملة المارشال فافعلي) ولما أصيب (ديروك) بقنبلة عند (درسد) ذهب إليه الإمبراطور نابليون وضمه إلى قلبه مرارا ثم عاد خائر القوى لفرد الأسى. . هو يقول: (يا للهول. . أيها العزيز ديروك ما أعظم خسارتي فيك) وكانت دموعه تسيل على خديه وتسقط على ملابسه
ثم أمر الإمبراطور بشراء أرض وبإقامة تمثال لذلك القائد العظيم وبكتابة العبارة الآتية تحت التمثال (هنا يرقد الجنرال ديروك دون فريول وأحد مارشالية نابليون العظام أصابته قنبلة فمات ميتة مجيدة بين ذراعي الإمبراطور). . ولم يكتف نابليون بإكرام هذا الفقيد بل صرف عناية كبيرة على عائلة ديروك ومنح أرملته وابنته دوقية فريول (وكان ريعها وقتذاك لا يقل عن مائتي ألف فرنك).
على أن هذا الشعور الجميل الذي كان يبديه نابليون في مثل تلك الظروف لم يكن يحول دون استقلال فكره وإرادته، فقد كان عند الضرورة شديدا قاسيا. . وثبت أنه كان في إيطاليا ومصر حين كان جنرالا كبير المطامع. . أشد وأقسى في معاملة القواد والجنود مما كان عليه بعد استوائه على السدة الإمبراطورية واستلامه مقاليد الحكم المطلق واتساع شهرته وسطوته في العالمين. . قال خصوم نابليون أنفسهم في مذكراتهم: (إن هذا الجنرال الصغير كان يخيف قوادا مثل) (أوجيرو) (وماسينا) وغيرهما سنة 1796 ولما جاءه الجنرال (ديبنوا) سنة 1797 بقصد التملق والتزلف قال له نابليون: (عرفتك لما كنت قائدا في لومبارديا وعرفت أنك قليل النزاهة. . عاشقا للمال. . على أنب كنت أجهل أنك جبان) فاخرج من الجيش ولا تظهر أمامي مرة أخرى. . وكتب نابليون إلى (برتييه) يقول: (اكتب إلى الجنرال (جاردان) أن شكاوي عديدة انتهتا إلى من إحراجه لأهل البلاد وأن الواجب عليه أن يسلك سلوكا يتفق مع كرامة الجيش فلا يسمعني بعد اليوم شكوى واحدة من تصرفه) وكتب إلى الأميرال (تروجيه): يحق لي أن أنتظر محاسن الأفعال بدلا من المواعيد والأقوال).
وكان نابليون لا يحابي الوزراء. . ولا الكبراء. . حتى في سنة 1814 أي بعد أن مال نجمه إلى الأفول. . وهذا يدلنا على صحة ما قاله أحد المؤرخين وهو: أن نابليون لم يكن ذئبا ولا خروفا. . بقي أن نعرف أن نابليون. . نشأ من أعماق الشعب. .
عبد القادر حميدة