مجلة الرسالة/العدد 1006/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 1006 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 13 - 10 - 1952 |
العش الخالي
عن الإنكليزية
انتهى يوم العرس وسافرت آخر بنت كانت في الأسرة مع عريسها الجديد، وذهب آخر فريق من المدعوين وهم يضحكون ويمرحون فرحا بالعرس، وأصبح المنزل هادئاً هدوءا فوق العادة كأنه خال. فالأب والأم وحدهما في منزلهما الكبير، وكان كل منهما يتجنب النزر إلى وجه الآخر وينظر إلى الموائد التي عليها بقايا الوليمة، فمن زجاجات الشمبانيا إلى أطباق الفاكهة فأنواع الحلوى المختلفة.
وقال الزوج لزوجته: (أليس بالمنزل غرفة لم يدخلها هؤلاء الضيوف؟) فقالت: (غرفة مكتبك).
قال: (تعالي نذهب إليها) ثم نظر إلى الساعة وقال: جاء وقت العشاء فلنبدل ثيابنا للمائدة).
قم أبدل وإياها ثيابهما، وتذكر وهو خجلان أنه منذ سنوات كان ينتظر هذا اليوم؛ يوم تتزوج بناته وتركن له المنزل وأمهن معه.
وقد كان بغار من بناته فقد كن يشغلنها عنه بمطالبهن الكثيرة ولم يجرؤ على الاعتراف حتى أمام نفسه بغيرته منهن، وإنما كان يشعر بذلك ويخجل من شعوره، ولكي يكفر عن هذا الشعور كان يقوم بواجباته نحو أبنائه خير قيام فلم يهمل قط واحداً من هذه الواجبات، ولكنه كان دائماً يشعر بتلك الغيرة من كل شيء يحول بينه وبين زوجته. وقد ظل كذلك إلى هذا اليوم. ففي العام السالف تزوجت بنتاه (كتلين) و (كلير) وفي بداية هذا العام تزوجت جيرالد واليوم تزوجت الأخيرة وهي فرانسين، وقد كان يحبهن ولكنهن كن عقبة في سبيله.
واليوم لن تحدث بالمنزل الضجة التي كان يثيرها البنات وصاحبهن، وكانت الأم تصرف كل وقتها في خدمتهن ومرضاتهن وزوجها لا يثق بأنهن السبب في ابتعادها عنه؛ بل كان يخطر له في اكثر الأحيان أنها تجعلهن ستاراً لتخفي وراءه منه، وكانت تفتنه بجمالها ويزيده شغفا بها اشتغالها عنه، وقد تزوج منها ولكنه لم يأنس بزواجها فقد كانت دائما في حالة تشبه العزلة، وكانت تهرب منه فلما رزق منها ببناته الأربع زاد ابتعادها عنه واستمرت حياتها الزوجية خمسة وعشرين عاماً وهو ينتظر، وكان ينظر إلى المرآة ويبتسم ابتسامة مرة حينما يذكر أنه تزوج منذ ربع قرن، وهو مع ذلك لا يتقدن إلى زوجته إلا كما يتقدم الشاب إلى فتاة صغيرة.
وكان جميلا قوي البنية، وكانت زوجته لا تزيد معي مرور الأيام إلا جمالا. وكانت شجاعتها تزيد مه هذا الجمال.
نظرت إليه الآن وقالت وهي تشير إلى زجاجات الخمر والأطباق التي على المائدة: (ما هذه الفوضى التي تركت لنا يا برانينو)
وكان هذا الاسم هو الذي ينادى به في الطفولة، فنظر إليها وقال بهدوء: (إن اسمي هو جون)
فابتسمت أمام هذا التقريع الهادئ. وتناولت معه الطعام العشاء؛ فقال وهو يتنهد تنهد الرضى: (منذ كم سنة لم نتعش وحدنا؟) فقالت: (منذ سنوات طويلة. مسكينة فرانسين! لقد كان التعب الشديد بادياً عليها).
قال: (ولكن من أجمل المصادفات أنها تزوجت في هذا التاريخ)
فقالت: (لماذا)
ونظرت إليه بعينيها الجميلتين الزرقاوين فأجاب (إلا تذكرين أن هذا هو تاريخ زواجنا؟)
قالت: (آه! لقد تذكرت. إنني كنت ناسية)
فعض شفته وبدا عليه الغضب لنسيانها ذلك اليوم. ثم ملك روعه. وشعر بخيبة الأمل في السعادة التي كان يرجوها لأن زوجته لا تشعر بمثل شعوره هذا. وذهبا إلى غرفة المكتب بعد العشاء وكانا يسمعان من الغرفة حركة الخدم وهم ينقلون ما على الموائد من الأطباق، وكانت الزوجة واقفة بجانب النافذة تنظر في الظلام إلى أعالي الأشجار وما عليها من أعشاش العصافير وعلى الممرات المظلمة في الحديقة الجميلة التنسيق. وكان الزوج جالساً أمام مكتبه، وقد أسند ذقنه أصابعه.
وكانت الزوجة تتذكر خلو المنزل من الموسيقى والغناء والضحك واللعب والحديث فقالت: (ألا يبدو المنزل كأنه غير مأهول؟)
فهز رأسه وعادت هي إلى الكلام فقالت: (أظن جيرالد ستأتي في العام المقبل) كانت دائماً تفكر في بناتها، ولم يستطيع حملها على التفكير فيه، فشعر الآن بخيبة أمله، لأنه حتى في هذا الوقت لم يستطع الوصول إلى قلبها. ولكنه سكت فلم يجبها وعادت إلى الكلام فقالت: (وأظن كلير تستطيبه أن تأتي شهراً في الخريف. . . مسكينة فرانسين! إنني أرجو لها السعادة).
عاد إليه شعوره بالغيرة من بناته ولكنه كتمه كعادته وسكت، فقالت: (لقد سمعت من بنت عمي دوليس في الأسبوع الماضي - ولم أستطيع إخبارك إلا بعد انتهاء العرس - سمعت أنها تدير الآن نادياً للفتيات في جنوب لوندار)
فخفق قلب جون وقال: (ثم ماذا)
قالت: (وقد اقترحت على أن أنضم إليها فهي في أشد الحاجة للمساعدة. وقالت إنني سأكون منفردة هنا مستوحشة بسبب غيبة البنات وهي ترى أن أقيم معها وآتي إلى هنا يوما في الأسبوع. وأنت تتغيب عن المنزل طول النهار وفي إمكانك قضاء بقية الأسبوع في غيبتي وحدك)
دارت الدنيا أمام عينيه وشعر بالذل. ولكمن عزته المجروحة أبت إظهار ذله فقال: (افعلي ما ترينه)
قالت: (وإذا كنت تريدني فإني مستعدة لأداء واجبي)
فقال: (الواجب لا دخل له هنا)
فقالت: (إننا سنقرر الرأي في هذا الموضوع فيما بعد) فرأى الزوج أن أي قرار خير من الشك وأن عليه أن يواجه الليلة مالا بد من واجهته فيما بعد. وهو يريدها ولكن على غير هذا الشرط فقال: (إنني أرى أن تقرري الرأي الآن).
فالتفتت ونظرت إليه في صمت. ولكنه لم يطق أن ينظر إليها. وارتكن على ظهر الكرسي وكانت أمامه رزمة من الخطابات فأخذ يقلبها بصورة آلية ويقرأ العنوانات فأجابته: (سأذهب إلا إذا كنت في حاجة إلى)
فكان رده المختصر: (لست في حاجة إليك)
فتركت الغرفة في الحال وتركته بين أنقاض أحلامه
وبعد أسبوع كان الزوج جالسا وحده. وكانت الزوجة قد ذهبت في اليوم التالي للعرس إلى بنت عمها. وكانت نفس الزوج لا تزال متألمة من جرح عزتها. وشعر بالتعاسة لاعتقاده أنه كان من الحماقة أن يتركها تذهب دون أن يقاوم، فهو يشعر بأن الحياة بدونها لا تطاق.
وقف أمام النافذة التي وقفت أمامها منذ أسبوع وفكر فيها وفيما تعمله الآن. وكانت صورتها المكبرة على الحائط فقال في نفسه: (ترى كيف حالتها الآن؟ لعلها في خطر!)
وإنما أتى بهذه الكلمة إلى ذهنه أن أعصابه كانت شديدة الاضطراب. ولم يكن يطيق النظر إلى صورتها.
وكانت الغرفة مملوءة بصور أخرى لبناته فنظر إلى تلك الصور وهو يبتسم ابتسامة مرة وقال: إنها انتصرت عليّ طول الخط وإنني هزمت على طول الخط كذلك.
ونظر إلى الساعة، وكان الليل قد انتصف وتشبثت بذهنه فكرة الخطر، وفكر في مقدار المسافة التي قطعها إذا أراد زيارتها، ولكنه شعر بأن ذهابه في مثل هذه الساعة ليسأل عن صحتها لا يمكن أن يكون إلا حماقة. واختصم في ذهنه العقل مع الغريزة فكانت الأخيرة هي الغالبة.
وكان الكل قد ناموا، ولكن فتحه جراج السيارة لا يستغرق إلا دقائق، ثم يخرج السيارة ويوقظ السائق، فيخبره بأنه ذاهب إلى جنوب لوندرا، وأنه ليس في حاجة إليه.
وفعل ذلك، واخترقت السيارة الطرق، وهو يزيد السرعة قبل فوات الوقت. ولم يكن قد زار من قبل النادي الذي تقيم فيه زوجته ولكنه كان يعرق عنوانه، وكانت الغريزة وحدها هي التي تقوده الآن. ثم تلاشى حكمها، وتحكم العقل فأسند ظهره إلى الكرسي، وأخذ يضحك من حماقته، وهو يخترق الشوارع الخالية. . إلى أين يذهب؟ لا إلى شيء!
وأخذ يدق الجرس. . فلو رآه حد في الطرق الخالية لخاله سكران!
ووصل إلى النادي، فنزل من السيارة ونظر إلى النوافذ فلم ير إلا دخانا يتصاعد. وأصغى فسمع أصواتا ندل على وجود حريق في النادي، فوضع يده في فمه، وصفر ليدعو الجنود، وأخذ يحاول كسر النافذة بالآلات التي يصلح بها السيارة. وفي الوقت الذي كان يصيح فيه باستدعاء المطافئ استطاع الدخول من الفتحة التي أوجدها في النافذة فجرح رأسه ويداه، وكاد الدخان يخنقه فتراجع حتى تمكن من وضع منديل في فمه، ثم دخل مقتحما وأخذ يصيح (يا هيلين! يا هيلين!) فخرجت إليه سيدة قال لها: (إن المكان يحترق! أين زوجتي؟) قالت: (أنها نائمة في الطابق الأعلى).
ثم صعدت معه وصاح باسمها فخرجت ودهشت وقالت (لماذا جئت ياجون؟)
فقال: (أسرعي بقليل من الماء)
فأسرعت وعند عودتها تذكر أنه لم يشرح لها سبب مجيئه فقال: (إن النار في البناء! لا ينبغي أن نضيع الوقت) ثم وضع منديلا مبلولا آخر حول فمها وبل المنديل الذي حول فمه ونزل معها في وسط الدخان المتصاعد، فلما رآها يكاد يغمى عليها حملها بين يديه، وكانت الحرارة شديدة حتى يكاد يغمى عليه أيضا، وخرج بها من النافذة.
كانت الساعة الثالثة صباحاً عندما عاد الزوجان إلى منزلهما ولم يتبادلا إلا كلمات قليلة وكانت الزوجة شديدة الشحوب وقالت: (لقد جئت إلى هنا يوم العطلة السالفة. ولكنك لم تجئ فيه).
قال: (نعم هذا هو الواجب علي في الظروف)
قالت: (أي ظروف؟) فلم يجب. وقالت
(ما الذي جعلك تأتي في هذه الساعة وكيف علمت؟)
قال: (لا أعلم ولكن كان مستوليا على شعور غريب بأنك في خطر فأتيت وأنا أعرف أن إطاعة هذا الشعور حماقة، ولكني لم أستطيع منع نفسي. وما كنت أصدق القصص التي من هذا القبيل وكنت أسمع صوتا يقول لي إن زوجتك المحبوبة في خطر).
فسكتت مدة طويلة ثم قالت: (لم أكن أعلم أنك تحبني إلى هذا الحد)
قال: (إنني رجل محتجز يا عزيزتي وقد كنت أعتقد أنك تدركين حبي لك. ولكنني لم اكن أستطيع الوصول إليك لأنك تهربين مني).
فقالت: (نعم لأني خائفة)
قال: (خائفة!! من أي شيء؟)
فقال: (خائفة من إظهار محبة أكبر من المنزلة التي وضعتني فيها. إن لي عزة نفس وذلك كنت أجعل بناتي ساترا حتى لا تراني)
قال: (وكيف عرفت المنزلة التي أضعك فيها)
فقالت: (عرفتها من ذهابك بعد العشاء مباشرة إلى مكتبك كأنك لا تريد أن تكون معنا) قال: (إنني كنت أفعل لأني لا أريد أن أرى صواحب بناتي ولا تلك الضجة التي تحول بيني وبينك)
فقالت: (وكيف لا تسر عندما أكلمك عن بناتنا؟)
قال: (كيف عرفت ذلك؟)
فقالت: (إنك خير من يقوم بواجبات الأب. ولكني عرفت ذلك من ملاحظتي ما يبدو على وجهك أثناء الحديث عنهن. وفي يوم الأربعاء الماضي أردت أن أمتحن شعورك وكان الخطاب بنت عمي قد وصل إلى. ولكنني لم أعره عناية. وقد جربتك بالتكلم عنه وقلت في نفسي إنك إذا سمحت بذهابي فإن ذلك سيسحق قلبي. وأنا لم أكن أريد الذهاب إلى بنت عمي)
فقطب حاجبيه وقال: (إنك تذكرت عزة نفسك ولم تتذكري عزة نفسي! وقولك دلني على أنك تريدين الذهاب. وقد كنت في غيابك تعسا للغاية) ثم وقف فجأة وقال: (لقد كنا مغفلين)
وتناول كفها بين كفيه وقال: (أظنني وجدت نفسك بعد هذه السنوات ولن أتركك تفلتين بعد الآن).
فقالت هامسة: (إنني أحبك كما لم أحب أحدا في الوجود)
ثم وضع ثغره فوق شعرها الناعم اللامع وقال: (لك أن تتكلمي عن بناتنا الآن فما دمت أنك كنت تتخذينهن ساترا بيني وبينك. فإني لا أغار منهن).
فابتسمت وقالت: (لقد أدركت نفسك أيها الطفل الكبير)
ع. ن