الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1005/شلر

مجلة الرسالة/العدد 1005/شلر

بتاريخ: 06 - 10 - 1952


دراسة تحليلية

(للكاتب الإنجليزي الكبير توماس كارليل)

ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت

لا شك أن دارسي الأدب الألماني أو الأدب بصورة عامة سيقابلون بكل ترحيب الكشف عن العلاقات الخصوصية بين أديبين عظيمين في هذا الحقل بذَّ أقرانهما في عصرهما وكانت لهما اليد الطولي في إعلاء شأن الأدب، لأن كل ما كتبه جوته أوشلر في أي موضوع كان له أهميته الخاصة. والذي سنقدمه في هذا الشأن هو الرسائل الخصوصية التي تبودلت بين الأديبين العظيمين. هذه الرسائل التي لها علاقة وثقي بهذه الفترة الهامة من التاريخ الروحي ليس للفرقاء المعنيين بالأمور وحسب بل وببلادهما كذلك. هذه البلاد التي كانت تعج بالبحوث الصغيرة منها والكبيرة، وعلى الرغم من أن الذين عالجوا هذه البحوث كانوا أناساً أحط موهبة وأقل قدراً من الأديبين الكبيرين، إلا أن هذه المعالجات كانت ذات أهمية غير يسيرة. (لأنها كشف النقاب عن الحوادث التي اعتورت البلاد في تلك الفترة)

لقد سمعنا وعرفنا كثيراً عن هذين الأديبين الفذين، وعن صداقتهما وتعاونهما في أعمال نبيلة عديدة، وكانت ثمرة ذلك لكل إنسان. ونستطيع في معرض بحثنا هذا - على الظروف الخافية التكوينية لكل هذا ونتتبع أثر النتيجة (المثالية) ونشرح علاقتها بجذورها الأصلية، وكيف كانا يعيشان ويعملان سوية في هذا المحيط التافه من العالم وكيف كان يكتب (فاوست) و (وليم تيل) على الورق المتهري كما تكتب ورايات منيرفا أو أغنيات رجل ينتسب إلى خاصة الناس! إن المختصين في الأدبيات لهم ولعهم المعروف في البحث والتنقيب والتمحيص. . ولكن دعنا نبتعد قليلاً عن الاختصاص أو أي موضوع شكلي آخر. . فليس لهذه الأشياء أي تأثير في حي الاستطلاع الذي يجمعنا كلا شاملا في صعيد واحد كبشر. والدليل على أن عطفنا فيما بيننا غير محدود هو هذا البحر الهائل من توافه الشائعات التي تجعلنا نشعر بالرابطة الشائعات إلا ترجمة غير كاملة). ولا ريب أن الجنس البشري يستوعب ويلفظ يومياً هذه الشائعات بصورة استمرارية، وإذا كان حب الاستطلاع مسيطراً علينا هذه السيطرة التامة فيما يخص الشائعات العادية، فكم بالأحرى تكون لأحاديث حوته وشلر أهميتها الكبرى التي تغارينا النزاهة نفسها على الإنصات إليهما فيما لو كنا عائشين في عصرهما، ولكن من سوء الطالع أن تمر هذه الأحاديث لتوها في الساعة التي شهدتها. ولنعد الآن إلى الرسائل والردود المتبادلة بينمها، فإنها على ما هي عليه من حيوية وصراحة ومحبة، لم تتركا غير الرموز والخلاصات المقتضبة. . فالحركة الدراماتيكية التي كانت تمثل على مسرح الحياة لا تخلف شيئاً غير النتائج التاريخية الباهتة وهي كل ما يتبقى لدينا. . ومن الحق القول أن كل رسالة خصوصية تبين نوعا مت شخصية الكاتب، ولكن التصوير عاجز كل العجز عن تشخيص الطبيعة الروحية. فالهرم يمكن قياسه ورسمه من قبل مهندس بارع بحيث يصبح واضحاً للعيان، وكذلك يمكن رسم جبل (مونت بلانك) بألوانه وأشكاله وفي متاحفنا صور طبق الأصل لكل ذلك. أما تشخيص الرجال العظام وتصوير هذا الطراز من الرجال، وهكذا. . فالصور التي في حوزتنا تظهر من خلال سجف التاريخ باهتة ضعيفة غير واضحة المعالم، وهي بعيدة كل البعد عن سحرها الذي امتازت به، وقوتنا كلها عاجزة عن تجسيدهم كما هم رجالاً أحياء ينبضون بالقوة والحيوية الدافقة وكل الذي نتمكن أن نفعله الآن لا يتعدى تصوير أشخاص أشبه شيء بأشباح أوسيان في ظلال الغبش، فسقراطنا ولو ثرنا - بعد كل هذا الذي قيل عنهما - ليسا في الحقيقة سوى شخصين غير مرئيين، فليس حكيم أثبنا ولا راخب ايسلبين شخصين بالمعنى المعروف وإنما هما لقب ليس إلا. ومع ذلك فهؤلاء الرجال، وليس الألب أو (الكوليسيوم) هم من عجائب الدنيا وهؤلاء أنفسهم هم الذين نسعى جاهدين لطبع أفكارهم في ذاكرتنا. إن الرجال العظام هم أعمدة النار التي تقود حجيج الإنسانية، والتي تنتصب كبشائر سماوية وشواهد على ما حدث وأدلة ناطقة على ما سيحدث من شؤون تقرر مصير العالم بأجمعه، وهم في الوقت نفسه الإمكانيات المتجمدة الظاهرية للطبيعة الإنسانية المغلقة بالألغاز والأحاجي، وهم بهذا الاعتبار يمثلون العظمة غير المنظورة وغير المدركة عقلا حتى من قبل أنفسهم كبشر. على الرغم من أنهم يحبونها أشد الحب ويحترمونها أكبر الاحترام، ولكنهم يضطرون، تحت الظروف القاهرة، على أن يظلوا غير مدركين لهذه العظمة في هذه الحياة. كم من الأسباب الوجيهة وكم من المغريات البريئة تجتذب حي استطلاعنا إلى مثل هؤلاء الأشخاص الأفذاذ. سنحاول التعرف عليهم ورؤيتهم عيانا كما نرى أنفسنا، فكل ملاحظة وكل إشارة تخصهم تهمنا بالغ الأهمية. . . والنفوس العظيمة التي مضت لحال سبيلهم لم يبق منها صور مجردة، أما مميزاتها الخارجية، لا. . بل وحتى الداخلية - في بعض الأحوال - والتي كانت تتصف بها فقد ذهبت إلى العالم الثاني هي الأخرى، ولم يبق إلا أن نعتمد على التاريخ في تصوير بعد الذكريات البسيطة التي لها أقل علاقة بها ومع ذلك فهذا التاريخ - على ما فيه من نواقص وعيوب - هو الكنانة التي احتفظت ببعض الذكريات والتي لو لاها لأضحت في خبر مكان. إن الرسائل المتبادلة بين شلر وجوته تمتاز بميزة ثمينة للغاية وهذه الميزة هي الحقيقة بالذات، وهي تتجلى في كل الظروف والأحوال، سواء كان ذلك من جهة أصالة الحقيقة الواقعة أو الرأي الخاص بهذه الحقيقة، أما الإخلاص فبين بكل وضوح في مثل هذه الأسلوب، واللطف الطبيعي لا يمكن أن يعرقل حق حرية الكلام أو الفكرة في مثل هذه الأحوال، ولم تكن الغايات إلا غايات شريفة. وكان الإخلاص المتبادل بين الطرفين من الوضوح لدرجة أنه كان يتعذر على أي ستار مهما بلغ سمكه على إخفائه، وعلى هذا فكلا الصورتين الذاتيتين تشبه الحقيقة الأصلية وتماثلها أحسن المماثلة. وقد يرغب بعض القراء أن يرى مزيجا مما يمكن أن ندعوه بالشؤون المنزلية مختلطاً بالآمال والمخاوف والمشاعر التي كانت تساور الشاعرين العظيمين، لما للأول من علاقة متينة بالحياة الإنسانية الاعتيادية، ولكن بالرغم من بحثنا المرهق الطويل لم نعثر على شيء من ذلك، مع علمنا الأكيد أن هذا النقص نادراً ما يحدث في المراسلات الحديثة، وعلى هذا فإنه يتبق لدينا في هذا الخضم الواسع في الخير والشر والحالة المعاشية والعاطفية كالفقر والغنى والفرح والحزن، قلنا لم يتبق لدينا إلا النزر اليسير وإلا ما شح وقل، ولعل رغبة القراء الذين يعيشون في بلاد هذين الشاعرين في ذلك أقل لأنهم؛ على اتصال بالحياة اليومية التي واكبت حياة الشاعرين، مع اختلاف في الزمن وبعض العادات التي تغيرت تبعاً للتطور بخلاف الأجانب الذين يرغبون رغبة ملحة في استطلاع شؤون البلد الذي ترعرع فيه الكاتب والشاعر والأديب، وهذا جلي وواضح، وعلى أي حال يجب ألا ننسى أن شلر وجته أديبان، وأن حياتهما الاجتماعية ما هي إلا هيكل الوجود الفاني، وليس لهذا الهيكل علاقة بالوجود الروحي إلا كما تكون علاقة الخضوع والتبعية، وهذا بحد ذاته لا يحتاج إلى ذكر مستفيض. زد على ذلك أن الناس المثقفين - نظراً لمزاجهم الطبيعي - ينفرون من الخضوع للعواطف الهائجة، ولا يظهرون ما يعالج في نفوسهم حتى إلى أقرب المقربين إليهم. وهذا ما يخفف من حرارة المراسلات ولكنه في الوقت نفسه يزيد من سعادتهم الخاصة، لأن من يحمل قلبه في ردته لا يأمن عليه من نقر الغربان كما يقول المثل السائر، وعلى الرغم من أننا لا نبحث اعترافات رو سو حقها في الإفصاح عن مكونات قلب الكاتب؛ إلا أننا لا نجد شيئاً من هذه لاعترافات الجريئة في هذه المراسلات موضوع البحث

وفي الوقت ذاته هناك بعض الآثار ذات الطابع المنزلي منتشرة هنا وهناك نتقبلها ونحن مسرورين ولا نؤاخذها بشيء غير ندرتها، ولكن هذه المراسلات تحتفظ بصورة ذات أهمية قصوى، إذا اعتبرناها حق اعتبارها، وهي التي تشغل بالنا أكثر من تلك القسمات المنزلية. فهي تظهر لنا عقليتين مبدعتين شاعريتين، تنميان ثقافتهما بصورة منظورة، وتتقدمان من درجة إلى أخرى في القوة والجلاء والاستعلاء، وهما لا يسيران في طريق واحدة بل في اتجاه واحد. ومن هذا التقدم يمكن لكل شخص - مهما بلغت درجة ثقافته - أن يستفيد فائدة نفسية كبرى من هذه الدروس الغنية بمحتواها الأدبي. والقيمة الكامنة في هذه الدروس تزداد كلما تقدمت المراسلات، مع اختلاف في التطور، وتظهر على الخصوص على سيماء شلر، الذي يختلف عن صاحبه بصغر سنه وتأثره به، وهذه السنوات الإحدى عشرة تعبر أهم فترة من حياة شلر الروحية. وفي الحقيقة إن هذه الفترة يمكن اعتبارها التأريخ التقدمي منذ عثوره على الطريق المستقيم الذي نهجه في مستقبل أيامه

ولا يعنينا الآن التطرق إلى صفات عذع الوسائل ولا إلى محاسنها سواء كان منها العرضية أو الجوهرية، على ما هي عليه من قيمة كبيرة. أما العلاقة المتقابلة الشريفة الصريحة التي تظهر بين المراسلين وأسلوبهما وأهمية كل ذلك وما يتصف به هذا العمل من وجهة النظر الفلسفية والبيوغرافية، فنأمل أن نوفيها حقها جميعا في مناسبة مقبلة. ومع ذلك فبعض التأملات المجردة والاستنتاجات الأخرى ستبرز من تلقاء نفسها، وستظهر في بحثنا هذا، على الرغم من أن القراء الإنجليز لا يهتمون بالرسائل قدر اهتمامهم بشخصية الكاتبين الشاعرين. فالرأي العام له بعض الإلمام بجوته، ولكن غبته في التعرف على شلر أكبر؛ لأن معرفته به قليلة جداً، وعلى هذا فإن رغبتنا الآنية تتلخص في تقريب شلر على نفوس القراء. كان يجب أن نذكر شيئاً عن شلر في مجلتنا، ليس لأهميته في الآداب الألمانية وحسب؛ بل في الآداب الأوربية كذلك، وهذه خطيئة نأمل أن نكفر عنها الآن وفي بحثنا هذا. أثبت الرجل عبقريته الشعرية والفلسفية بسلوكه وبسلسلة كتاباته التي أبانت ذلك للجميع، يتجلى ذلك في إعجاب أمته به في أثناء حياته وشهرته التي طبقت الخافقين خلال الخمسة والعشرين سنة التي أعقبت وفاته، هذه الشهرة التي استمرت في النمو والتوسع وتثبيت نفسها، وهذا ما لم ينله إلا ذو حظ عظيم. وليس بخاف أن عدم ذكرنا له ليس مرده إلى عدم إعجابنا به، بل لأن هناك كثيراً من الآداب الأجنبية تحتاج إلى الشرح والتفسير بخلاف شلر الذي يفسر نفسه بنفسه. تمتاز عظمة شلر ببساطتها، وأسلوبه في عرض هذه العظمة مفهوم من قبل كل شخص. ومن بين الكتاب الألمان الذين يمكن اعتبارهم من درجته، باستثناء كلوبستوك، يعتبر شلر أبعد ما يكون عن الوطنية بمعناها الضيق، اللهم إلا إذا اعتبرنا كلمة ألماني بما تعنيه من صدق وإخلاص ونبل وشهامة. أما أسلوبه في التفكير والنقاش فهو أوربي ما في ذلك ريب. وعليه فليس غريباً أن نلاحظ أن أي كاتب ألماني آخر لم يقابل بمثل هذا القبول الحسن لدى الأجانب، ولم يحظ بمثل ما حظى به بصورة دائمة. فجعله الفرنسيون قبلة أنظارهم ومطمح مقاصدهم، يتبين ذلك من ترجمتهم لمؤلفاته وشرحهم لها وتمثيلهم لرواياته على المسرح، واحترام أكثر النقاد له احتراما بالغاً. وهكذا أصبح شلر لدى الرومانيين الأستاذ الأكبر والمثل الأعلى والسفير الوسيط بين المدرستين القديمة والحديثة، وغدت مؤلفاته جسراً ذهبياً يصل حدائق فرسايل بأرض العجائب. وكذلك الحال معنا، نحن الذين لا نعير أهمية للرومانسية ولا للكلاسيكية، وخصوصاً بعد أن ذهبت ريح المشادة التي أثارها (باولز) بخصوص الشاعر بوب، على أن ذلك لا يمنعنا مطلقاً من أن نشعر بالاحترام العميق له؛ واحترامنا هذا لا يقتصر علينا وحدنا؛ بل يتعدانا إلى كل شخص له اقل ميل شعري. فقراء الألمانية، وهؤلاء يزدادون باطراد مستمر يعتبروت شلر باكورة الدراسات، وحتى ثقلاء الفهم منهم مجبرون على الاستمتاع بجمال كتاباته. أما الأشخاص الذين لا يعرفون الألمانية فعندنا لهم تراجم كثيرة ومتعددة، ولو أن هذه التراجم تفقد كثيراً من رونق الأصل، إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون سدا حائلا بينهم وبين التمتع بأشعة نور الشمس الأصلية. وهذه التراجم ستوقظ الحب في القلوب الحساسة والنفوس المرهفة مما سيدفعها حتماً على الإدراك المباشر. . .

وأهم جزء من واجبنا الآن هو الدفاع عن شلر وتوكيد قيمته ووضعه في المكانة اللائقة به. إن التعريف بكتاباته مستمر بسرعة وبالطريقة الصائبة التي يمكن إحرازها بالدراسة القريبة للقلب وبالمحبة التي تعمر قلوب الذين أوتوا الفهم النزيه وروح التطلع التي لا تني تبحث وتفكر وتعمل على الحصول على أعلى درجات الكمال. أضف إلى ذلك أن مؤلفات شلر لا تحتاج إلى أقل الشروح، فهي تشرح نفسها بنفسها كما ذكرنا سابقاً. فقيمة مثل هذا النوع من العظمة وشاعرية من هذا الطراز تظهران سافرتين مكشوفتين، فكتاباته لا يمكن أن يصل إلى مستواها أحد لما تمتاز به من صراحة قل أمثالها وعزت على منال الكثيرين

وما من شك أن واجب النقد يقتضينا أن نوفي حق مثل هذا الشاعر الذي فسر مداهمات المجهول. وكل شاعر يجد نفسه مولوداً في محيط تافه، وعليه أن يجادل ويناضل للتخلص من قيود صغار العالم الواقعي إلى حرية العالم المثالي اللامحدود. . وتأريخ مثل هذا النضال يعتبر في الوقت ذاته تأريخ حياته نفسها، ومن هذا يمكننا أن نستمد عبراً ذات أهمية كبرى. ولم يجز سعيه الشاق هذا - على سموه - أي جزاء اللهم إلا إذا اعتبرنا الجزاء ذاتيا. ولكن قانون وجوده بحد ذاته، اضطره إلى قبول مثل هذه العمل الشاق والاستمرار في أدائه وتحمل أعبائه، وإلا كان البديل لذلك التعاسة بعينها، وقد تخلق التعاسة نفسها مواهب وكفايات، وكثيراً ما كان الأمر كذلك في معظم الأشخاص الذين ابتلوا بهذه التعاسة. . .

أما اضطراب شبابه فهو (اضطراب العبقرية) التي كانت تظهر أحياناً وكأنها سجية جامحة. . وكأنها تكهن بالرسالة الخفية القوية التي أرادته لها السماء، لكي يطهر نفسه من أدران الحياة ويستعد لما أريد له من واجب مقدس وأمر عظيم، هذا الأمر الذي يندر من ينفذه أو حتى يلتفت إليه، أما ما يخص المتحذلقين ومن لف لفهم فأمر عبث لا طائل تحته. . وأما أصوات ضجيجهم وعجيجهم فتذهب مع الساعة التي يقضون فيها. . وطبيعي ألا يعنى الكمال الروحي لعامة الناس شيئاً إلا كما تعني الهمسة العابرة الغارقة في ضجيج العالم

والحال كذلك حتى مع (بايرون) و (برنز) اللذين أوتيا أذناً حساسة لالتقاط الرسالة السماوية (هؤلاء الذين ينطقهم الوحي السماوي) فيصعب عليهم التخلص من الارتباط بالجسد والدم، وبدلا من العيش والكتابة عن القوم الذين يحيون بين ظهر انهم يكتبون عن الخلود الذي يبقي على الزمن والذي يظل ملازماً لهم، وبدلاً من أن يعيشوا مرضيا عنهم (يعيشون في الكل في الخير وفي الحق) ولا شك أن هذه النفعية وهذا التأرجح بين الفكرتين والتوسط الفاشل المؤلم بين الحق والباطل هو الخطيئة المقلقة والشقاء الرئيس للإنسانية في كل أدوار حياتها. وتعمدت النصفية هذه في هذا الوقت تعميداً جديداً واتخذت اسماً غير اسمها وهو الاعتدال وأصبحت هذه فضيلة وطريقاً وسطاً. إن حالة كثير من المنصفين الذين وهبوا طبيعة شريفة وفاضلة لتدعو إلى الأسف المؤلم

والآن دعنا نفتش عن سفينتنا ذات الحمولة الغنية بن هذه السفن التي تحطمت في خضم الحياة ونسأل ربابنتها عن أحوال سفرتهم. وما من شك أن شلر يمثل في نظرنا هذه السفينة الناجية، وأنا نتساءل: كيف تمكن هذا الرجل من النجاة؟ ومن أية جهة حاول اختراق سر الطبيعة الروحية؟ ومن أية منطقة تمكن من التحليق في مساء الشعر؟ وتحت أي الظروف الخارجية وبأي القابليات الداخلية؟ وبأي الوسائل وأية نتيجة؟ بديهي أنه ليس في مكنتنا ولا مكنة الظروف المحيطة بالقراء في هذا الخصوص الإجابة الشاملة القطعية على مثل هذه الأسئلة. ومع ذلك فيجب أن نشرع بالبداية الناقصة حتى نتمكن من الحصول على النتيجة الكاملة. ونظرة شاملة على سلوك هذا الإنسان كما كان يظهر وكما كان يحيا، سواء كان ذلك في مجال العمل أو في الشعر، كافية لقبوله لدى من يعرف الشيء القليل عن شلر، وذلك يعتبر فتحاً في طريق المعرفة الحقة، أما الذين هم على اتصال به فينفعهم ذلك كشاهد على أحقية ما فكروا ويفكرون به، لدينا بيانات عديدة منتشرة هنا وهناك للتعرف على حياة شلر الشخصية، وهذا ما يجعلنا نغضي عن ذكر قصة حياته التي تعتبر معروفة الآن. والذي لا يزال حب الاستطلاع متمكناً منهم يمكنهم أن يشبعوا مثل هذه الرغبة بالاطلاع على كتاب (حياة شلر) المطبوع بالإنجليزية أو (حياة شلر) في مقدمة الطبعة الفرنسية لرواياته الدراماتيكية أو في مقدمة الطبعة الإنجليزية لمؤلفات (حرب الثلاثين سنة). وفي دراستنا هذه نرجو أن نوفق في شرح الناحتين العملية والتأملية من حياته، أما الوقائع التي تدخلت في تاريخه العرضي فستظهر في معرض هذه الدراسة

للكلام بقية

يوسف عبد المسيح ثروت