الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1004/زعماء الحركة القومية السيد محمد كريم

مجلة الرسالة/العدد 1004/زعماء الحركة القومية السيد محمد كريم

مجلة الرسالة - العدد 1004
زعماء الحركة القومية السيد محمد كريم
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 29 - 09 - 1952


للأستاذ عبد الباسط محمد حسن

(3)

بعد أن انتهى الفرنسيون من احتلال مدينة الإسكندرية أمر نابليون بإبقاء (السيد محمد كريم) حاكماً لها حتى يخلد الأهالي إلى الهدوء والسكينة، وينصرف الجميع إلى أعمالهم

وكان نابليون يعلم تماماً أن الأهالي وعلى رأسهم (السيد محمد كريم) لم يخضعوا له إلا إذعانا للقوة المسلحة، وأنهم يتحينون الفرص للثورة على الحكم الجديد، ولذلك عمل على التقرب إليهم لينال عطفهم، ويكسب مودتهم

وقد بين لهم أنه ما جاء إلى مصر - إلا ليحارب المماليك الذين استبدوا بحكم البلاد وحرموا الفلاح المصري ثمرة خيراته، واعتدوا على التجارة وأساءوا إلى أهل البلاد بما ارتكبوا من مظالم

وأخذ نابليون يذيع منشوراته على الأهالي، ليثبت هذه المعاني في نفوسهم، ويضمن ولاءهم للجمهورية الفرنسية، كما طلب أعيان الثغر وألزمهم بجمع السلاح، وإحضاره إليه حتى لا يفكر الأهالي في المقامة المسلحة

(لقد أخذتك والسلاح في يدك، وكان لي أن أعاملك معاملة الأسير ولكنك استبسلت في الدفاع؛ لذلك أعيد إليك سلاحك وآمل أن تبدي للجمهورية الفرنسية من الإخلاص ما كنت تبديه لحكومة سيئة)

ولم يكن هذا القول من جانب نابليون إلا تقديراً منه لجهود (السيد محمد كريم) وعلمه بما يشعر به الشعب نحوه من محبة وإكبار وتقدير

وقبل أن يترك نابليون مدينة الإسكندرية، عين الجنرال (كليبر) حاكما لدائرة الإسكندرية وضواحيها) وأوصاه بأن يعمل كل ما في وسعه لاستبقاء العلاقات الحسنة مع الأهالي وإبداء كل أنواع الاحترام للعلماء ورؤساء المشايخ في المدينة)

بهذا نرى أن (السيد محمد كريم) بقي في منصبه بناء على رغبة نابليون، ولكن هذا الحاكم الوطني المحب لبلاده، المخلص للسلطان العثماني خليفة المسلمين وظل الله في أرضه، كان يشعر بالكراهية والمقت لهؤلاء الحكام الأوربيين وقد زاد من نفوره منهم وحقده عليهم أنهم فرضوا على الأهالي غرامة قدرها ستة آلاف جنيه تقريباً في الوقت الذي حل فيه الكساد محل الرخاء. . وانتشرت الفاقة والضيق بالأهالي بعد أن كانوا أوفر ثورة، وأحسن حالاً

وقد زاد من سوء الحالة أن الجنود الفرنسيين بدءوا يشكون من البلاد المصرية بعد أن ذاقوا ملذات المدن الإيطالية؛ وبعد أن وجدوا أن الأماني التي وعدهم بها نابليون لم تكن إلا مجرد وهم وخداع، وظهرت روح التمرد بين الجنود، فأخذوا يغتصبون ثمر الأشجار ويقطعون النخيل من جذوعه، ويعتدون على الأهالي المسالمين. .

ولقد ظلت روح التمرد والعصيان كامنة في نفوس الأهالي حتى أشعلها (السيد محمد كريم) وأوقد نارها من جديد

فاعتدى الأهالي على أحد جنود مدفعية الأسطول، وألقه جثته في الطريق، كما القوا في البحر خادم أحد الضباط فمات غرقاً وقد ثارت ثائرة (كليبر) وأراد أن ينتقم من الجناة. . ولكن لم يعثر لهم على أثر، كما تأكد لديه أن الجندي الفرنسي قد تعرض للقتل نتيجة لاعتدائه على الأهالي

ولذلك أصدر منشوراً إلى جنوده، طالباً منهم أن يحافظوا أنفسهم بحماية الأهالي والمحافظة عليهم، ومهدداً بالإعدام كل جندي يعتدي على حقوق المسلمين الدينية أو المدنية

ولم يقتصر السيد محمد كريم على إثارة روح الكراهية والثورة في نفوس الأهالي، بل جعل يتصل بجميع المدن والقرى التي يمر رجال الحملة الفرنسية ليعدوا للأمر عدته، وليقاوم نابليون وجنوده بكل ما استطاعوا من وسائل المقاومة

وقد حدث أن إحدى الكتائب الفرنسية خرجت من الإسكندرية لتقوم بحملة تفتيشية في بعض الجهات المجاورة - فلما علم السيد محمد كريم بما يعتزمه الفرنسيون، اتصل بالمدن والقرى القريبة، وطلب منها أن تقاوم الكتيبة، وتمنع الماء عن رجالها

فلما غادر الفرنسيون الإسكندرية، تابعوا سيرهم حتى وصلوا إلى دمنهور، وكانوا يجدون مقاومة شديدة من جانب الأهالي، كما قتل منهم ما يقرب من ثلاثين جندياً، ولذلك عادوا إلى الإسكندرية وهم في حالة سيئة، وقد ثبت لديهم أن الأهالي لم يخضعوا - بعد - للحكم الفرنسي، وأن هناك اتصالاً مستمراً بين الإسكندرية وغيرها من المدن والقرى ولما علم الجنرال (كليبر) بما لاقته الكتيبة من مقاومة ومشقة، أراد أن يقضي على حركة المقاومة - ويقوم بعمل حاسميستعيد به هيبة الجيش الفرنسي، ويسترجع مكانته في نفوس الشعب، فأمر بالقبض على (السيد محمد كريم) وبعث به إلى أبي قير، تمهيداً لتوصيله إلى القاهرة، حيث يقابل نابليون، ويدفع عن نفسه التهم الموجهة إليه، وفي نفس الوقت، أرسل الجنرال كليبر كتاباً إلى نابليون يعرض فيه أمر السيد محمد كريم، ويطلب منه ألا يأمر بعودته إلى الإسكندرية حتى لا تعظم مكانته ويستفحل أمره - ويزداد نفوذه في نفوس الأهالي

وقد مكث (السيد محمد) في أبي قير أياماً. . طلب بعدها من الأميرال (بردي) قائد الأسطول أن يأمر بتوصيله إلى القاهرة. فأرسله الأميرال بدوره إلى رشيد. . ليبعث به الجنرال مينو إلى القاهرة. . .

ومما هو جدير بالذكر. . أن (السيد محمد كريم) على الرغم من أن دائرة حكمه لم تكن تتعدى الإسكندرية. . إلا أن شهرته قد انتشرت في جميع أجزاء مصر. . وأصبح المصريون - على اختلاف طبقاتهم - ينظرون إليه على اعتباره محور المقاومة للنظام الجديد. . وعلى اعتباره زعيمهم المعبر عن أمانيهم. . والمفصح عن آمالهم. . .

يقول الأستاذ عبد الرحمن الرافعي:

(وصل السيد محمد كريم. . إلى رشيد. . مطلق السراح، وكانت منزلته من نفوس المصريين قد عظمت بسبب اعتقاله. . وانتشرت محبته في كل مكان. . فلم يكد يعلم أهالي رشيد بمقدمه حتى سارعوا إلى ملاقاته بالحفاوة والتكريم. . ما اضطر الجنرال مينو إلى القبض عليه. . والإسراع بإرساله إلى مصر. . .)

وما كان السيد محمد كريم يصل إلى مصر. . حتى أصدر نابليون أوامره إلى الجنرال (ديبوي) حاكم القاهرة: بالتحقيق معه. . كما طلب منه أن يحاول إثبات التهمة عليه بمختلف الوسائل

ولم تكن هناك حاجة إلى التحقيق، فسرعان ما انتهى بثبوت التهمة عليه. . وإعلان خيانته للجمهورية الفرنسية

(وأصدر نابليون أمراً بإعدامه رميا بالرصاص. . ومصادرة جميع أملاكه وأمواله. . وسمح له أن يفتدي نفسه بدفع ثلاثين ألف ريال في أربع وعشرين ساعة)

فرفض السيد محمد أن يدفع له هذا المبلغ. . لم يكن ذلك منه عجزاً. . أو حرصاً على المال. . وإنما كان إيماناً بالله. . . وإيماناً بأن الموت مصير كل إنسان. . ونهاة كل مخلوق

فليكن موته إذن على أيدي أعدائه. . وأعداء بلاده. . حتى يكون ذلك وقوداً جديداً للثورة. . . وباعثاً للمصريين على مواصلة الكفاح والنضال لتحرير بلادهم من أيدي أعداء الدين والوطن

ولقد نصحه أحد تراجمة الحملة بأن يدفع الغرامة. . وقال له:

(إنك رجل غني. . فماذا يضيرك أن تفتدي نفسك بهذا المبلغ. .

فأجابه السيد محمد كريم:

(إذا كان مقدراً عليّ أن أموت، فلا يعصمني من الموت أن أدفع هذا المبلغ. . وإذا كان مقدراً لي الحياة. . فعلام أدفعه؟؟)

وظل على رأيه. . إلى أن نفذ فيه حكم الإعدام. . وبذلك أصبح (السيد محمد كريم) بجانب زعامته للشعب، أول شهيد من شهداء الحرية، في عهد الحملة الفرنسية

هذه خلاصة موجزة، لسيرة ذلك البطل المصري، الذي استطاع أن ينفخ من روحه القوية، في نفوس مواطنيه، معنى الحياة الحرة الكريمة، والذي استطاع أن يثبت بكفاحه وجهاده أن مصر لم تكن تفتح أبوابها لكل طارق، وأن شعب مصر، لم يكن يتنازل عن حريته. . أو يفرط في كرامته. . لأي فاتح، مهما بلغت قوته، أو زادت سطوته. .

كما اثبت سجل النهضة المصرية، ملئ بآيات الشجاعة والمجد، حافل بصور الكفاح والتضحية. . . زاخر بضروب البسالة والإقدام. . .

عبد الباسط محمد حسن