الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1003/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 1003/الكتب

بتاريخ: 22 - 09 - 1952


الأخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية الحديثة

تأليف الدكتور إسحاق موسى الحسيني

217 صفحة من الطع المتوسط - نشر دار بيروت 1952

للأستاذ عودة الخطيب

هذا الكتاب يجيء في أوانه، لأن لحركة الإخوان أثراً كبيراً في كثير من الحركات التي شملت الشرق الإسلامي في السنين الأخيرة، ولا يستطيع المؤرخ المنصف أن يغفل هذا الأثر الذي سجلته الأعمال الجسام والأحداث العظام، ولذا يجدر بالمثقفين أن يغيروا هذا الكتاب عنايتهم، وبالنقاد أن يعرضوا له بالنقد والتحليل

أما مؤلفه الدكتور إسحاق موسى الحسيني، فهو أحد أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت، ومثقف واسع الإطلاع، وأديب مشرق الأسلوب، وهو جدير بأن يتناول هذا الموضوع الدقيق بقلمه الحر المنصف، وأن يحلل هذه الحركة الجبارة بعقله الخصب الواعي، بعد أن كتب في موضوع الإخوان كثير من الكتاب، وهم بين أنصار يقومون بواجب الدعاية والدفاع، وبين خصوم يتناولون الحركة بالتجريح والهجوم، وقد اصبح طالب الحقيقة الواضحة الصافية حائراً بين هؤلاء وأولئك، وبقيت هذه الثغرة مفتوحة لم يستطع الكثيرون سدها، حتى جاء الدكتور الحسيني بمؤلفه الجديد وجعل رائدة أن يبحث عن الحقيقة بحياد وإنصاف، ولذا فهو لا يألوا جهداً في تتبع كلام الخصوم والأنصار، فيؤيد هؤلاء تارة، ويميل مع أولئك أخرى، بأسلوب مهذب لبق، برئ من التهجم، وخلا عن التعصب، وحاول أن يكون دائماً على الحياد، وقريباً من الصواب، بيد أنه - في سبيل هذا الحياد - سلك في بعض الأحيان طريقاً وعرة، وقيد قلمه بقيود ثقيلة، ما كان أغناه عنها! ولذا وقع في بعض الأخطاء، ذلك لأنه يريد أن يقرر في ذهن القارئ بعده عن التحيز لهذه الدعوة، خشية أن يتهمه أحد بالانتصار لها

وأكبر أخطائه - على ندرتها - وأكثرها شيوعا في كتابه، رأيه في الحكومة الدينية التي يقول إن الإخوان يعملون لها. ولا غضاضة على الإخوان - في رأينا - أن يسعوا إليها، ويبذلوا الغالي والرخيص في سبيلها، لأنها أمنية كل مسلم يقظ، يعرف ما في الحكومة الإسلامية من خير وسعادة للفرد والمجتمع والإنسانية عامة، ولكن المؤلف في حديثه عن الحكومة الدينية يقف موقف المعارض لها بأسلوب فيه كثير من ألف والدوران يقول: (لا شك في أن الإخوان لم يطالبوا بالحكومة الدينية عبثاً. لقد رأوا بعض القوانين في مصر تبيح ما نهى عنه الدين، رأوا قانوناً يبيح الزنا وآخر يبيح الخمر، وهما محرمان ديناً فثاروا وطالبوا بتطبيق التشريع الديني في جميع الأحوال بلا استثناء، كما كان الحال في صدر الإسلام، وهذا هو موطن الدقة في الموضوع، هل جميع القوانين المدنية أدت إلى ما أدى إليه هذان القانونان؟ هل كل تشريع مدني فاسد؟ لو كان الأمر كذلك لكان التشريع الغربي بل تشريع العالم أجمع؛ عدا القسم من العالم الإسلامي الذي يطبق التشريع الديني فاسداً، وهو قول سخيف، فالتشريع يستوحى المصلحة العامة في كل الأمم قاطبة، والمصلحة العامة تلتقي مع الغرض الأسمى من الدين، ولا يجوز عقلاً أن يختلفا) ص 165 وموضع الخطر والخطأ في هذا الكلام أن الأخوان بنوا فكرة دعوتهم للحكومة الإسلامية حين رأوا قانوناً يبيح الزنا وآخر يبيح الخمر، والحقيقة غير ذلك، لأن كل من يدعو إلى الحكومة الإسلامية سواء أكان الإخوان أم غيرهم، يستطيع أن يجعل قانون الزنا والخمر مثلاً سبيلاً لقيام الحكومة الإسلامية، لأن مثل هذا السبب لا يصح أن يكون وحده أساساً لمثل هذه الدعوة، وإلا كانت هذه الدولة أخلاقية روحية فحسب، لا شأن لها في تنظيم المجتمع، وتنمية الثروة، والعلاقات الدولية. نعم إن من أهداف الحكومة الإسلامية، إقامة حدود الله ومنها حد الزنا والخمر. . . ولكن ليست هذه وحدها أيضاً مما تقول به دولة الإسلام

والسبب الحقيقي في قيام الحكم الإسلامي إنما هو الإسلام نفسه. . . . فالإسلام وجد ليحكم، ويؤسس دولة، ونشئ أمة، ويقود عالما، والعبادة فيه وسيلة لتربية الضمير الإنساني، ليعدل إذا حكم، وينصح إذا استشير، ويخلص إذا عمل، ويسعى للمصلحة العامة، ويدفع أذى الأعداء، والتشريع الإسلامي الذي هو قانون الحكومة الإسلامية، ينظم شؤون الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهو صالح لكل زمان ومكان، لأنه قواعد عامة، وأصول مرنة، قابلة للتصور والاجتهاد. وقول المؤلف (بأن التشريع يستوحي المصلحة العامة في كل الأمم قاطبة، والمصلحة العامة تلتقي مع الغرض الأسمى من الدين، ولا يجوز عقلاً أن يختلفا) في هذا القول تأييد للتشريع المدني وأنه يلتقي بالغرض الأسمى من الدين. . . ولا يجوز عقلاً أن يختلفا، ونحن نعلم أن التشريع المدني يبيح الربا وأن الدين يحرمه، والتشريع المدني - في كثير من البلاد - يحمي الإقطاع والاستغلال، والإسلام حرب عليها. . . فكيف جاز عقلاً أن يختلفا؟!

إن فكرة فصل الإسلام عن الدولة، وإبعاده عن الحكم، وإقصائه عن التشريع انحراف به عن غايته السامية، وحبس له في الخلوة والزاوية، وجعله هيكلاً راهناً منحلاً، لا يقوى على رد عدوان، أو صد هجوم، وهذا هو ما آل إليه أمر الإسلام بعد أن تكالب عليه الأعداء، ورموه بالجمود والرجعية، ووصموا أتباعه بالتأخر والهمجية، وساموهم سوء العذاب بالاستعمار والطغيان. . ومن المؤسف أن كثيراً ممن شد طرفاً من الثقافة الغربية، وتأثر بالنهضة الأوربية التي قامت على أساس إبعاد الكنيسة عن الدولة، يدعون بهذه الدعوة، وينادون بهذه الفكرة، ناسين ما بين الإسلام والمسيحية من فروق شاسعة، وبون بعيد، وقد تصدى لرد هذه الفكرة الخاطئة الأستاذ السيد قطب في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) وكانت سياسية الإخوان، ونشاطهم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، رداً عملياً على هؤلاء الذين يتهمون الإسلام بالجمود، ويصمونه بالعجز عن تنظيم المجتمع الحديث، وهم كما قال فيهم الأستاذ الزيات (يحاولون أن يبعثوا في الهيكل الواهن المنحل روح الإسلام الفتية القوية، التي نقلت البدو الجفاة الحفاة من بوادي الجزيرة رعاة غنم، إلى حواضر الدنيا قادة أمم) و (هم هم وحدهم الذين يمثلون في هذا المجتمع الممسوخ، عقيدة الإسلام الخالص، وعقلية المسلم الحق، إنهم لا يفهمون الدين على أنه صومعة منعزلة، ولا الدنيا على أنها سوق منفصلة، وإنما يفهمون أن المسجد منارة السوق، وأن السوق عمارة المسجد، وكان للإخوان المسلمين في الإرشاد لسان، وفي الاقتصاد يد، وفي الجهاد سلاح، وفي السياسة رأي)

وهناك أمر آخر وثيق الصلة بموضوع الحكومة الدينية، وهو اشتراك الجمعية في السياسة، يخطئ فيه المؤلف فيقول: (وأثرت هذه الإجراءات الصارمة - يعني بطش إبراهيم عبد الهادي - في البنا الذي رأى البيت الذي بناه بيده في عشرين عاماً قد انهار بين ليلة وضحاها، ويبدو أنه ندم على اشتراك الجمعية في السياسة ص 36، وأحب أن أؤكد للمؤلف أن البنا لم يندم على اشتراك الجمعية في السياسة) لأن السياسة - في عقيدته - جزء لا ينفصل من الإسلام، ولو فرضنا أن هذه الإجراءات القاسية الرهيبة، أثرت في نفسه، فلا يمكن أن يبلغ أثرها حداً يجعله يتخلى عن جزء من عقيدته التي هي عقيدة الإسلام الخالص. على أني شهدت له موقفاً خالداً مع مندوب الحكومة في دار جمعية الشبان المسلمين قبل استشهاده بأيام. . . سمعته - رحمه الله - يقول لمندوب الحكومة المفاوض (قل لمن وراءك: إذا كان ملك البلاد، ومن ورائه حكومته الرشيدة وعلماء الأنام، كل هؤلاء حرب على الإخوان المسلمين، فلا أقول عندي مليون أو ثلاثة ملايين. . . بل عندي خمسون، لا يضع الواحد منهم أنفه في الرغام، حتى يحطم خمسين من هذه الأصنام) وفي هذا الكلام - بلا ريب - تهديد خطير، وهو لا يدل على نفس نادمة، أو عزيمة خائرة، بل يعني أن هذه المحنة لم تنل من نفسه ولم تغير من عقيدته، وكيف؟! وهو الذي كان يسمي تلك المحنة العصيبة محنة يمحص الله بها الصادقين المخلصين

ثم أراد المؤلف أن يعلل اهتمام الإخوان بالصناعة والشركات، فعجب من أن يغرق الدين بطوفان من الظواهر غير الروحية ص 145 وقال (إن كانوا يقصدون أن الدين يشرع لهذه المظاهر الدنيوية، ويفرض سلطانه عليها، ويحدد سلوك الفرد فيها، فقد غالوا في مفهوم الدين، ووضعوا أمام السائرين في الدنيا مزالق لا يؤمن فيها العثار) ص 146، ويبدو أن المؤلف الذي يعجب من هذا الطوفان غير الروحي، لا يريد أن يتخلى عن نظرته إلى الإسلام، على أنه عبادة وروح وأخلاق، وأود أن أذكره أن في كتب الفقه الإسلامي قسماً كبيراً للمعاملات، فيه فصول مسهبة دقيقة تنظم البيع والسلم، والقرض والرهن، والتفليس والحجر، والصلح والحوالة، والضمان والشركة، والوكالة والشفعة، والمزارعة والمساقاة، ولهذه الأحكام الفقهية أدلة قوية، من القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، بذل الفقهاء جهداً كبيراً في استنباطها وترتيبها. . . وليس مرد هذا الاهتمام إذا إلى ممارسة البنا لصناعة إصلاح الساعات كما يقول المؤلف (أما الاهتمام بالنصاعة والشركات فربما مرده الأول إلى صناعة إصلاح الساعات، التي أتقنها الوالد، وأولع بها الفتى، ومارسها كذلك) ص 44، ولا أجد داعياً إلى اتهام الإخوان بالمغالاة في الدين، كما لا أجد حاجة لأن يتساءل المؤلف هذا التساؤل العجيب فيقول: (وما الذي حمل الإخوان على مط الدين على هذا النحو؟) ص 146، فليطمئن على أن الدين لم يمط، ولن يمط، لأن فيه إمكانية واسعة لتنظيم شؤون الدين والدنيا

هذه ملاحظات يسيرة، لا تغض من شأن هذا المؤلف القيم الذي يحوي بيد دفتيه حقائق ناصعة، وآراء صحيحة، وتحليلاً ناجحاً لهذه الحركة. فضلاً عن ذلك الإحصاء الدقيق لكل ما يتعلق بالإخوان، وقد ذيل المؤلف كتابه بالمراجع والشروح التي اعتمدها، ونقل عنها، فلا يكاد يترك كتابا أو رسالة أو صحيفة أو مقالة فيها حديث عن الحركة، إلا ذكرها وأوجز ما فيها، وقد بذل - ولا شك - في هذا السبيل جهداً كبيراً، يستحق أن يسجل بآيات الشكر والثناء

محمود عودة الخطيب