2 - في بلاد الأحرار مجلة الرسالة/العدد 1002/في بلاد الأحرار للكاتب التركي الأستاذ أغا أغلو أحمد بقلم الأستاذ أحمد مصطفى الخطيب عكفت على مطالعة السفر في الحال، وكانت صفحته الأولى تحمل هذا العنوان: (القواعد الأساسية لبلاد الأحرار). وعندما قلبت الصفحة الأولى منه وقعت نظرتي على هذا العنوان: (الأسس العامة) ثم تلا هذه المواد: (1) الحرية منحة سامية. . . ولكيما يكون المرء حرا، يجب أن يجوز منزلة كبيرة من السمو والرفعة. . . نزاهة الفكر. . نزاهة القول. . . نزاهة الحركة. . . تلك هي الأسس اللازمة للحرية. (2) لا يستطيع نيل الحرية أولئك الذين لا يتمكنون من التحكم في نفوسهم. (3) سذاجة القول. . . سذاجة المعيشة هما شرطا الحرية. . وبعد أن أقرأت هذه المواد التي بدت لي غريبة جدا لفت نظري هذا العنوان: (القانون الأساسي لبلاد الأحرار). كان هذا القانون يتضمن المواد التالية: (1) الحرية تقوم على الصدق والجرأة (2) الكذب ممنوع منعاً باتا في بلاد الأحرار ومن يبتل بهذا الداء يطرد من البلاد. (3) الرياء والتزلف يعدان من أكبر الجرائم، ومرتكبهما يرجمه بالأحجار أفراد هذا الشعب كافة. (4) لا يجوز للجواسيس أن ينتسبوا إلى رعوية (بلاد الأحرار). (5) لا يجتمع الجبن وتوطن بلاد الأحرار على صعيد واحد. (6) إن من يعتدي على غيره قولا أو عملا يقذف به إلى خارج البلاد. (7) الاحتيال والنميمة يورثان مرتكبهما عقوبة إسقاط رعوية بلاد الأحرار عنه. (8) الدفاع عن الحق واجب. . . ومن لم يقم بهذا الواجب يطرد من البلاد. (9) العمل واجب. . . ومن تحدثه نفسه بالبقاء بغير عمل يستكره على العمل لحساب البلاد بغير أجر. (10) التساند واجب. . . والذين لا يقومون بتأدية هذا الواجب يفقدون رعوية البلاد. (11) إن القيام بإدارة شؤون بلاد الأحرار لهو من حق ذوي التجارب والاختصاص فحسب. (12) إن كل وطني مكلف بأن يراقب موظفي البلاد. (13) على كل موظف أو فرد في المملكة أن يؤدي الحساب في أي وقت كان، عن أعماله التي يقوم بها، أو ثروته التي يمتلكها. . . والذين يحاولون الهرب من تأدية مثل هذا الحساب يحكم عليهم بعقوبات قاسية ويفقدون صفة الاستيطان. (14) على كل وطني استظهار المواد المدرجة في أعلاه والعمل بمقتضاها. قرأت هذه المواد، ثم أخذت أفكر. . ما أعجب هذه البلاد؟ إنها نقيض ما رأيته أو سمعته أو تعلمته حتى الآن. ليت شعري! هل أستطيع آلفة هذه الحياة الجديدة؟ داخلتني الشكوك وساورني الإحجام. . . حتى خيل إلى لحظة وأنا في غمرة تفكير عميق أن من الأفضل أن أهرب من هذا المكان. . . . ولكن غروري وكبرياء نفسي قد حالا بيني وبين ذلك. وقد قلت لنفسي: - (. . إذ قد أتيت. . وطلبت أن أكون (مواطناً) في بلاد الأحرار فالعمل في سبيل التعلم قضية كرامة شخصية ليس إلا. . نعم! أنا أعرف أن لي عادات كثيرة، وسجايا اكتسبتها من جدودي وعهود التاريخ، وإنه من الصعوبة بمكان. . . على أن أفارقها وأنبذها نبذ النواة دفعة واحدة. . . ولكن مهما يكن من شيء فالواجب يقضي على بالعمل وبذل كل الجهود المستطاعة). وهكذا صممت على تعلم الدستور، فأقبلت عليه بالدرس والبحث والتأمل. . . ولم تمر غير أيام معدودات حتى كنت في خلالها قد تمكنت من استظهار مواده وفهم مغازيها. . . على أنه كانت ثمة أيضاً بعض المواد لم أفهم الحكمة من وضعها، وأخرى داخلني الشك والارتياب فيها. . فلذا صممت على مكاشفة الأساتذة بالأمر، وطلب الشرح الوافي منهم. وبعد كل هذا أخذت أنظر ما حولي، وافحص الدار التي أسكنها، وأدرس الرجال الذين أتصل بهم. إن ما رأيته بحيط بي قد بعث في نفسي من الحيرة والدهش أضعاف ما بعثه فيهما ما كنت قد قرأته من المواد والنصوص. فقد علمت أن الدار التي أسكنها دار ضيافة، وأن هناك عدة دور أخرى مماثلة لها في المدينة خاصة بالذين يلجئون إلى بلاد الأحرار. وكان معي في الدار ضيوف آخرون يبلغ تعدادهم عشرين ضيفاً بينهم نسوة. وفي اليوم التالي أفضى بي الشيخ الذي فتح لي الباب إلى قاعة الطعام العمومية، ثم قدمني إلى الضيوف الذين كانوا قد اجتمعوا هناك؛ قائلا: - ضيف جديد! رحب بي القوم جميعاً بوجوه تطفح بشراً وإيناسا، ونظرات تفيض رقة وحنانا، ثم قال الجميع بصوت واحد: - هنيئا لك!. . كان الطعام وافراً ساذجا. . وبعد انتهائنا من تناوله، انتقلنا إلى البهو، وهنا جلست إحدى السيدات إلى المعزف، وأخذت توقع ألحانا مؤثرة نهض الضيوف جميعا، وأخذوا ينشدون بصوت واحد نشيدا أشبه شيء بالدعاء. . . فنفذ لحن هذا النشيد إلى شغاف قلبي، وشعرت شعورا غامضا لا سبيل لي الإفصاح عنه وهنا خاطبني الشيخ قائلا: - يجب أن تحفظ هذا النشيد! ثم ناولني ورقة مكتوبة فإذا أنا أقرأ فيها: (ما أصعب أن يكون المرء حرا) لست بمتذكر نفس الأقوال التي كانت قد وردت في ذلك النشيد، ولكنني أستطيع أن أقول إن خلاصتها كانت لا تعود ما يلي: (الإنسان شعور الكون) (نعبده ونقدسه) (الحرية جوهر الشعور المقدس) (نحبها ولا نتخلى عنها) (بلاد الأحرار هيكل الشعور والحرية) (نلجأ إليها ونعتز بها) إنه ليس بوسعي أن أصف لكم مبلغ ما أحدثه هذا النشيد من الأثر البالغ في نفسي. . . فقد أصغت صوابي لعدة دقائق. . . وعندما عاد إلى رشدي وجدت الضيوف قد انقسموا إلى جماعات والكل يتحدثون. جاءني جماعة منهم وأخذوا يجاذبونني أطراف الحديث كما لو كانوا من معارفي منذ مدة طويلة. . . فعلمت أن هؤلاء أيضاً مثلي قدموا هذه الديار عند بحثهم عن الحرية. وبعد هنيهة أخذت أطوف الأقسام الأخرى أيضاً من البناية. . كانت الغرف والقاعات قد فرشت بفرش ساذجة، ولكنها تلمع من شدة النظافة. . والجدران مزدانة بعدد كبير من الصور الفنية الغالية والألواح النفسية. وعلى معظم هذه الألواح دونت مواد دستور بلاد الأحرار بخط رائع جذاب. . . كانت ثمة كتابات أخرى أيضاً لفت نظري منها. (الحريص يكتوي بنار حرصه ويحرق ما حوله) (الكلام أول صوت إلهي شعر به الكون) (الاستبداد معرة متوارثة من عهود الهمجية) (العدل ميزة تثير غبطة الملائكة للإنسان) (التضحية من أسمى مظاهر النفس البشرية) (نكران الذات والتواضع خلتان يختص بهما ذوو الأرواح السامية) (الغرور والعجرفة دليلان على سقوط النفس وضعة القدر) كان ثمة بهور رحيب في ركن من البناية يضم في أرجائه الفسيحة مكتبة الدار. . وعلى منضدة تمتد على طول البهو صفت أشتات من الجرائد والمجلات والكتب، كما أن الرفوف كانت عامرة بآلاف المجلدات. كان أغلب الضيوف حاضرين هنا. . . وكانوا جميعا مكبين على المطالعة والتأمل. واقتربت أنا أيضاً من المنضدة. . فوقع نظري على كتاب عليه هذا العنوان: (فذلكة من تأريخ بلاد الأحرار) حرك ذلك مني الرغبة فعكفت على مطالعته في الحال لم يكن هذا تأريخا. . . بل مأساة دامية أي أيام سود كانت قد مرت على هذه البلاد؟ يا لقسوة القدر! كافحت هذه البلاد في سبيل الحرية عصورا طويلة واغلة في القدم جرت الدماء جداول وأنهارا في هذه الشوارع التي تفيض بالهدوء والوداعة اليوم فتارة يتخاصم الأهلون ويتقاتلون فيما بينهم، فيهدمون ويخربون؛ وتارة تجتمع كلمة الكل وتتحد غاياتهم فيهبون هبة واحدة لمحاربة الطغاة المستبدين، والحرب في كل ذلك سجال بين الفريقين. . إلى أن أتى يوم رسخت فيه دعائم الحرية، وتنفست البلاد الصعداء، وأخذت تعيش في كنف الهدوء والاطمئنان، وكل ذلك منذ قرنين من الزمان. وإذ أنا أتأمل هذا الكتاب قلن بغير إرادة. (ما أصعب أن يكون المرء حرا) يتبع