مجلة الرسالة/العدد 1001/الكتب
→ خطاب مفتوح | مجلة الرسالة - العدد 1001 الكتب [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 08 - 09 - 1952 |
الزعيم أحمد عرابي
الأستاذ عبد الرحمن الرافعي
الأستاذ محمود عبد المنعم محرم
الأستاذ عبد الرحمن الرافعي هو مؤرخ التاريخ المصري الحديث، وكتبه التي أخرجها هي في دقتها وصدقها مثال رائع لما يجب أن يقوم به المؤرخ المنصف. وكتابه الذي بين يدي الآن (الزعيم أحمد عرابي) انتهى الأستاذ الرافعي من كتابه في يناير مفتتح هذا العالم. وكان مقدراً لهذا الكتاب أن يرى النور في مارس من العام الحالي، غير أن الطغيان والظلم جالا دون ذلك، فبقى الكتاب حبيسا حتى خلى سبيله أخيرا يحمل الدعوة إلى التضحية والدعوة الإصلاحية إلى أبناء الوطن.
ومن تصاريف القدر أن الزعيم أحمد عرابي ظلم ظلما متواترا أثناء حياته وبعد مماته. وهذا الذي وقع لسيرته الرافعية ما هو إلا حلقة من سلسلة الاضطهادات المادية والمعنوية التي أصيب بها بطلنا الكبير. ولئن كان الأولون الذين ظلموه قد اتخذوا باطن الثرى مضاجع لهم، فإن هؤلاء الذين وقع ظلمهم عليه الآن، قد خرجوا من الديار يجوبون الآفاق طريدي العدالة والأنصاف، وراحوا مشيعين بما فعلوا من سوء وما قدموا من بغي وخذلان.
وأحمد عرابي زعيم فلاح نشأ في القرية، ودرس في الأزهر فترة وجيزة. وكتب علية أن يترقى في مناصب الجندية من ابسطها إلى أعلاها حتى كان زعيم مصر في عهد من احلك العهود التي مرت ببلادنا العزيزة. وكانت نهاية هذا البطل المخلص، أن ائتلفت ضده قوى الاستخذاء والاستعمار والأنانية والطغيان، وحاربيه في ميدانه الوطني، وأخرجته من وطنه الحبيب وبلاده التي جاهد لها.
وإن العدالة الإلهية تقتص لهذا الوطن البائس، ولأبنائه الفلاحين الفقراء العراة ولجنوده المظلومين من الطواغيت المستبد التي أخذت عليه مسالك الحرية والأمن والصعود إلى مصاف الدول القوية والشعوب المستنيرة. وغير خفي أن أحمد عرابي هب يطالب بحقوق الوطن، وأبنائه، في عهد الخديوي توفيق، الذي كان يمثل العقلية التركية القذرة غرورها الغبي وزهوها المخبول. وكانت الخاتمة أن يطرد ابن الوطن البار من بلاده، ويبقى الدخلاء المترفون يتمتعون بالخيرات والنعم التي يلتهمونها من أفواه المساكين. ثم على تعاقب الأيام، قلم بطل جديد ينادي بحق الشعب مرة أخرى وكانت النتيجة، أن ثبت الحق على يد أربابه وفي قلوب المؤمنين به، وطرد الغشوم الذي أساء إلى نفسه وأبعد في التنكيل بها، وراح ينسل بنفسه الآبق وشذوذ المتغطرس.
وإن ثمة وجوه شبه بين الثورتين، ثورة أحمد عرابي، وثورة محمد نجيب. من وجوه الشبه هذا المطالبة بحقوق الشعب. ومنها أن الثورة وجهت أول ما وجهت إلى الجالس على العرش الذي يمثل الظلم الصارخ والكبرياء الحقير. ومنها أن قائدي الثورتين من أبناء الاعتماد على العنصر الديني والإنابة إلى الله ومنها أن القائمين بهما من رجال الجيش. وغير ذلك من العوامل السياسية الأخرى التي تكاد تكون واحدة في مغزاها على عهد الثورتين كلتيهما.
وحرب فلسطين ليست بعيدة عنا بآثارها ونتائجها. ولعلك سمعت ما قيل حولها من خيانة وائتمار بالجيش، ومحاربة للشجعان المخلصين من أبنائه، وتقريب الذين كانوا سبب الهزيمة وعوامل الاندحار، مع جهلهم أو فسادهم أو خيانتهم، وهذا يشبه ما حدث في عهد إسماعيل. وهو فريب مما حدث على عهد توفيق أيضاً (ولا مراء في أن إسماعيل كان يميز الضباط والرؤساء الشراكسة والترك على الوطنيين في المعاملة، يرغم ما بدا منهم من العجز والجهل وعدم الكفاية، مما ظهر أثره جليا في الهزائم التي حاقت بالجيش سنة 1875 - 1876 في حرب الحبشة. وعلى ما كان لهذه الهزائم من أسوأ الأثر، فإن إسماعيل لم يحاسب أولئك القواد والضباط على ما وقع منهم من الإهمال والتقصير، وقيل أنه اعتزم محاكمة راتب باشا قائد هذه الحملة، ولكنه ما لبث أن رجل عن ذلك فقربه إليه وجعله من بطانته. وهذا يدلك على شديد ميله إلى تلك الفئة. فكانت لها الخطوة لديه ثم لدى الخديوي توفيق).
وإن الحكم النيابي قد عطل في عهدنا هذا. وكان الملك يستبد بالأمر، ولم يكد يدع للوزراء حرية يتصرفون بمقتضاها. حتى كان يولي من يشاء ويعزل من يشاء تبعا لأهوائه ونزواته. وهذا مثل ما حدث في عهد الخديوي توفيق. فقد كان الآخر يستبد بالأمر ويملي إرادته على وزرائه. وإلا عمل إعفائهم من الحكم (وبينما كانت الطبقة المثقفة ترتقب إعلان الدستور على يد الخديوي توفيق؛ إذا بهم يرون شريف باشا يستقبل لمعارضة الخديوي يؤلف وزارة برياسته، مما ينم عن ميوله الاستبدادية، ثم يكلف رياض باشا تأليف وزارة من مبادئها الأساسية حكم البلاد حكما مطلقا، وحرمانها أي نظام دستوري. . حتى مجلس شورى النواب القديم على ما كان عليه من ضعف السلطة، فقد ظل معطلا سنتين، طوال عهد وزارة رياض باشا).
وقد كانت الصحافة تلاقي العنت والمشقة. ولا تزال تذكر قانون تقييد الصحافة الذي أطل برأسه من مدة، غير أن الصحف ومن ورائها أبناء الأمة، تنادوا حتى وأدوا هذا القانون الرجعي في مهده. والرقيب لا زال صرير قلمه يدوي في آذاننا إلى وقت قريب. وفي عهد توفيق استهدفت الصحف المعارضة للاضطهاد في عهد وزارته، ثم في عهد وزارة رياض، واستخدمت الحكومة اللائحة القديمة المسماة لائحة المطبوعات لإنذار الصحف أو تعطيلها. وقد عطلت الحكومة في عهد وزارة توفيق جريدة (مرآة الشرق) مرة لمدة شهر ومرة لمدة خمسة أشهر، وأنذرت جريدة (التجارة). وفي عهد وزارة رياض أنذرت الحكومة جريدتي (مصر) و (التجارة)، وأنذرت جريدة (مصر الفتاة)، وأنذرت جريدة (الإسكندرية) ثم عطلتها شهرا، وعطلت جريدة (المحروسة) لمدة خمسة عشر يوما، ومنعت جرائد (النحلة) و (أبو نضارة) و (أبو صفارة) و (القاهرة) و (الشرق) من دخول القطر المصري.
ولم يكن حظ المخلصين والوطنيين في عهدنا هذا بأحسن منه في عهد توفيق، فإنهم قد أوذوا في كلا العهدين، ونابهم رزء شديد وتجن بالغ، لا لشيء إلا لأنهم يخلصون لوطنهم ويعملون لإخوانهم أبناء الشعب، فكان جزاؤهم الإقصاء والحرمان، وتقديم العملاء والأصهار والمحاسيب والمرتشين، وبذلك تتعطل مصالح العامة، ولا يتقدم إلا كل خب مخادع مستغل، لا يخدم وطنه، وأن كان على استعداد لأن يتمرغ تحت أقدام وسادته وأولياء أمره، الذين لا يختلفون عنه في أنانيته واستغلاله ونكوصه عن قواعد الشرف والمروءة. وقد أرغم الخديوي توفيق محمود سامي البارودي على تقديم استقالته من وزارة الحربية لمشايعة العرابيين ولأسباب أخرى، وعين صهره داود باشا الدرة مللي محافظ القاهرة، لما كان معروفا عنه من مشايعة حركة عرابي، وتعيين عبد القادر باشا حلمي مكانه، وكان مكروها من العرابيين، وبث محافظ العاصمة الجديد العيون والجواسيس لينقلوا أخبارهم، ويتعرفوا على جركاتهم وسكناتهم.
ما أشبه الليلة بالبارحة، وإن التاريخ يعيد نفسه. ولكن الذين يعتبرون به هم القليلون. وهذا الذي ذكرته من قبل كان من أسباب ثورة أحمد عرابي. وهو ذاته من أسباب ثورة محمد نجيب. الاستبداد بالأمر! تقييد الأذناب والمفسدين! فضائح الاستغلال والارتشاء! الغطرسة والتنكر لحقوق الشعب! كل هذا دروس بالغة كان يجب أن تؤتي ثمارها، غير أن الناس غافلون عما تقدمه لهم يد الزمان من ألوان العظة والاعتبار. ولو اعتبروا، ولو اتعظوا، لما وقع المتأخرون في مثل ما وقع فيه المتقدمون من عوامل الإفساد والأثرة، فانقلبت عليهم شعوبهم طالبة العدل والإنصاف!
أنا لم أر الأستاذ الرافعي، ولكن كتابه ينم عنه، فهو كتاب دقيق واضح عادل. ومعنى هذا أن مؤلف الكتاب يتمتع بصفات نادرة هذه الأيام من العدل والنظافة والإخلاص. وهي ذات الصفات التي قد تكون وفقت في سبيله، وغبنته حقه، فتقدم عليه من هو دونه. وإنه لأثر قبيح من آثار هذا الزمان الذي كنا نعيش فيه - والذي أرجو أن ينقشع - أن تكون الصفات النبيلة والكفايات الخلقية النادرة من أسباب تعويق الإنسان عن أن يصل إلى ما يستحق من تقديم وتكريم.
وأظن أنه كان من الخير أن حرم كتابه (الزعيم أحمد عرابي) النور إثر انتهائه من كتابته ولم يظهر في وقته المحدد. ذلك أن الظرف الذي ظهر فيه فيما بعد هو انسب الظروف لاستقباله مثل هذا الكتاب. فالكتاب عن جهاد زعيم ثائر - والثورة كانت للظفر بحق الشعب. ونحن الآن، وبقراءته، يجب أن نقارن بين الثورتين في دوافعهما وأسبابهما، وفي أغراضهما، وفي طبيعتهما. ويجب أن نعرف الدواعي التي أدت إلى إخفاق الثورة الأولى، لنتحاشاها ونحصن أنفسنا وثورتنا ضدها، ولئلا نقع فيما وقع فيه العرابيون.
يذكر الأستاذ الرافعي بحق أن الثورة العرابية مرحلتين: المرحلة الأولى كانت الثورة فيها مسددة موفقة، والمرحلة الثانية حادت الثورة فيها عن الطريق الإصلاح المنشود. والفارق بين المرحلتين هو عمل العرابيين على تنحية محمد شريف باشا كان بلا نزاع أقدر من البارودي على حسني تدبير الأمور في تلك الأوقات العصيبة، إذ له من ماضيه السياسي، وثقافته، واختباره، ما يجعل له كفاية ممتازة في الاضطلاع بالمهام السياسية. أما البارودي فقد كانت نشأته أدبية حربية فحسب، وهذه مزايا ليست هي المطلوبة لتصريف سياسة مصر، وخاصة في هذا الظرف المضطرب. زد على ذلك أن رجال الجرب والشعر لا يعالجون المشكل علاجا واقعيا، بل يعالجونه بالحمية القلبية والخيال الذهني، لا بعقلية الحكيم المتبصر.
وهذا درس يجب أن يصغي إليه القائمون بأمرنا الآن عنايتهم، ويرعوه حق الرعاية. فإننا الآن عرضه - قدر الله - لمقل هذه المزالق التي تعثر فيها الآراء. ولو استمعنا إلى الماضي، وأحسنا التلقي عنه، لجنبنا ذلك كثيرا من الصعوبات السياسية الكثيرة، تلك الصعوبات التي ينقب عنها كل لحظة أعداء الحركة في الداخل والخارج.
وقد كان لكل من إنجلترا، وفرنسا، وتركيا، موقف مشهود في الحركة العربية، أما فرنسا وإنجلترا فكانتا تتدخلان في شؤون مصر الداخلية، وتعملان على إحباط الحياة النيابية، وتوسيع شقة الخلاف بين الثائرين والخديوي. وكان لهما ما أرادتا. ثم انسحبت فرنسا من الميدان وخلت إنجلترا وحدها فيه تتصرف بمحض جشعها واستغلالها ومصالحها الخاصة، ولا لمصالح العرابيين، ولا لمصالح الخديوي الذي تدعي أنها تحميه وتعمل على استقرار عرشه. وأما السياسة التركية فكانت تتسم بقصر النظر، والغرور الأحمق، والعمل على تسوئ سمعة مصر، وإعلان سيطرتها الوهمية على البلاد. وهذا شبيه بموقفها الذي الآن من الدول العربية عامة ومصر خاصة، فهو موقف الحقود الذي يتربص بنا الدوائر، فلا تنصر قضية عربية، وموقفها من مرور ناقلات البترول بقناة السويس لحساب اليهود معروف، وكذا موقفها من قضية تونس الذبيحة معروف أيضا.
والأستاذ الرافعي كتب كتابه بأسلوب المجتهد، إذ المعروف أن مصادر التاريخ المصري ملوثة، وان الكاتب يجد حرجا كبيرا، خاصة إذا كان من الوطنيين المخلصين أمثال الأستاذ الرافعي، فهو يكتب للوطن، لا لحساب دولة معينة ولا ناحية ما، بل إرضاء للحقيقة والواقع وتسجيلا لفترة من ماضي هذا الوطن المنكوب، حتى يفيد من يرجو الخير لبلاده، وحتى يشيح بوجهه من يشاء.
وهو مستقل في أحكامه على أحداث الثورة العرابية ووقائعها. وهو لا يعفي العرابيين من اللوم والتقريع. ولا يعفي الخديوي ولا أوليائه من المؤاخذة العنيفة والصفع الدراك. فقد نقد موقف العرابيين من وزارة شريف باشا التي جاءت على أثرها وزارة البارودي باختيارهم. ونقدهم على عدم ردمهم قناة السويس اعتمادا على قول فرديناندي ليسبس. ونقد موقف إنجلترا من وزارة إسماعيل راغب التي جاءت بعد وزارة البارودي. واغلب الظن أن إنجلترا لم تكن تبغي تأليف وزارة في مصر لكي تبدو البلاد في حالة غير اعتيادية وتتخذ من ذلك ذريعة إلى التدخل في شؤون البلاد. فلما تألفت وزارة إسماعيل راغب قابلتها السياسة الإنجليزية بالجفاء وعدم الثقة والغض من قدرتها على إعادة الأمن إلى نصابه وأخذت تتخلق لها العقبات والعراقيل. ونقد موقف تركيا، فبينما كانت تتظاهر بتأييد سلطة الخديوي، إذ بالسلطان عبد الحميد يعلن عطفه على عرابي ويمنحه نيشانا رفيع الشان، ثم إذا جد الجد ونشبت الحرب بين عرابي والإنجليز طعنه السلطان في الصميم بإعلانه عصيانه، فكان هذا الإعلان من أكبر أسباب هزيمة عرابي وخذلانه. هذا التناقض والاضطراب، مضافا إليهما قصر نظر تركيا وسوء نيتها نحو مصر، ورغبتها في إنقاص استقلالها، ثم ما جلبت عليه من الدس والوقيعة، وتأثر وزرائها بالمال والرشا، وجعل السياسة التركية عامل فساد استخدمته بريطانيا لتحقيق أطماعها في مصر.
إني أدعو إلى كتابة التاريخ المصري الحديث من جديد، على هذا النحو الذي يكتب به الأستاذ الرافعي، لأننا بحاجة لأن نعرف بلادنا وتاريخنا على الوجه الصحيح في هذه الفترات المظلمات، ولنكون على بينة من مصالح الوطن وأمانيه ومطالبه في السنوات الخوالي.
محمود عبد العزيز محرم