الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1001/القصص

مجلة الرسالة/العدد 1001/القصص

بتاريخ: 08 - 09 - 1952


وفاء زوجه

عن الإنكليزية

كان يعيش في العاصمة منذ عدة قرون رجل فيلسوف اسمه شوانج. وكان معتكفا عن الناس لا يكاد يخرج من داره. وقد كانت زوجته الأولى في سن الشباب ولم يكن سعيدا معها؛ وكذلك كل الفلاسفة لا يسعدون بالزواج. فتزوج للمرة الثانية ولكنه طلق زوجته الأخرى منها إياها بسوء السلوك؛ وتزوج للمرة الثالثة بسيدة تدعى (تاين) فوجد معها من السعادة ما لم يجده في المرتين السالفتين.

وغير مسكنه بعد الزواج منها فأقام في ضاحية بالقرب من الجبال كان يتنزه في الخلاء، ففي يوم من الأيام وجد امرأة أمام قبر حديث البناء وفي يدها مروحة تحاول بها تجفيف بناءه. فكان ذلك الحادث داعياً إياه للتساؤل، فاقترب منها وسألها في رفق: (ما الذي تفعلين؟)

فأجابته: (في هذا القبر رفات زوجي. ولما كان رحمه الله غبيا فقد استحلفني إلا أتزوج بعده حتى يجف بناء قبره وقد زرت القبر أياما متوالية فلم أجد بناءه جف ولذلك استعجلت تجفيفه بهذه المروحة).

قالت ذلك ونظرت إلى الفيلسوف نظرة حملته على أن يؤدي لها خدمة. فقال: (إن يديك ليستا قويتين فدعيني أساعدك) فقالت: (شكرا! وهذه هي المروحة وستؤدي لي أعظم خدمة إذا عملت في تجفيف القبر).

فجلس يروح بقوته السحرية فجفف القبر بعد لحظات قليلة. وسرت السيدة بنجاحه فابتسمت له ابتسامة مشرقة وجعلت علامة شكرها إياه أن أهدت إليه مروحة أخرى ثمينة كانت تحتفظ بها بين ثيابها: وأهدت إليه كذلك دبوساً غاليا كان في طيات شعرها فقبل الهدية الأولى ورفض الهدية الثانية، ثم ذهب إلى منزله فتذكر الحادث وهو جالس مع زوجته فتنهد؛ فلما سألته عن سبب تنهده أخبرها بما سمعه، فبدا عليها الغضب وثارت على تلك الأرملة التي فضحت بنات جنسها. فردد شوانج المثل القائل: إن رؤية وجوه أناس شيء، ورؤية وجوههم شيء آخر؛ فقالت زوجته: (إنك تظلم النساء إن زعمت أنهن جميعا مث تلك الأرملة التي لا تخجل).

فقال الزوج: (علام هذا الاهتمام؟ أخريني، إذا مت وكنت لا تزالين صغيرة جميلة، أترضين بالترمل خمسة أعوام أو ثلاثة؟).

قالت: (إن الوزير الأمين لا يخدم سيدين، والزوجة الفاضلة لا تتزوج من رجلين؛ فإذا قدر الله أنك تموت قبلي فلن يقتصر وفائي على الترمل ثلاثة أعوام أو خمسة، ولكنني سألبس ثياب الحداد حتى الموت).

قال شوانج: (هذا كلام يصعب تصديقه) فقالت: (هل تظن أن النساء كالرجال المجردين من الإنصاف والوفاء؟ أن الزوجة متى ماتت بحث عن غيرها، وقد يطلقها لأنه اختار غيرها فلا تستمر في حديثك الذي أزعجني).

فعندما سمع الزوج هذه الكلمات مزق المروحة التي أهديت إليه عند المقبرة. وقال: (هدئي من روعك وأرجو أن يكون عملك في المستقبل مطابقا لقولك الآن).

بعد أيام كثيرة من هذا الحديث مرض شوانج مرضا خطرا فلزم الفراش. ولما بدت عليه علائم الموت قال لزوجته: (أشعر الآن بقرب منيتي فأستودعك الله. ولكنني آسف على تمزيق تلك المروحة، فقد كانت تنفعك في تجفيف قبري).

فقالت الزوجة وهي تبكي: (أرجو يا زوجي العزيز ألا تكون هذه الساعة الأخيرة ساعة ريبة تشعر بها نحوي. إنني قرأت كتاب السنن وتعلمت منه أن المرأة الفاضلة لا تتزوج إلا من رجل واحد. فإذا كنت لا تزال ترتاب في فإني أقتل نفسي بين يديك لأبرهن على وفائي).

فأجابها شوانج: (إنني لا أريد شيئا بعد الذي سمعته منك).

ثم اشتدت وطأة المرض عليه فقال: (هاأنذا أعالج سكرة الموت. إن الدنيا تظلم في نظري).

وعند هذه الكلمات فقد الحركة والتنفس. فلما عرفت تاين أن زوجها مات علا صوتها بالبكاء وعانقت جثته مرة بعد مرة وبكته آناء الليل وأطراف النهار مفكرة في فضائله وحكمته، وجريا على العادات المتبعة في الصين لم يدخر جيرانها جهداً إلا بذلوه في سبيل مساعدتها.

وبعد أيام أقبل طالب وجهه كوجه الدمية من الحسن وشفتاه كالعقيق وعليه ثوب من الحرير البنفسجي وفوق رأسه قبعة سوداء مزركشة بالحرير وحذاءه قرمزيان ووراءه خادم.

وقال الطالب للسيدة أنه منذ بضعة أعوام أفضى للفيلسوف شوانج برغبته في أن يصير تلميذاً له فقبل، وإنه جاء من بلاده اليوم لأجل هذه الغاية، ولكن لسوء حظه لم يصل إليه بعد موت الأستاذ، وانه وفاء لعهده يريد أن يقيم في منزله حزينا عليه مائة يوم.

وبعد أن أبلغها ذلك سجد أربع سجدات وبلل الأرض بدموعه. ولما هدأت أعصابه قليلا طلب مقابلة تاين فرفضت ثلاث مرات، ولكنها رضيت أخيراً أن تراه بعد أن أخبرها الثقات بأنه لا حرج على أرامل العلماء من مقابلة تلاميذهم.

وتلقت تحياته بأهداب مسترخية فقد فتنها جمالة ورشاقته واختلج قلبها بمشاعر كثيرة وطلبت إليه أن يقيم بالمنزل. وأعد العشاء فتناوله معه، وكان تنهدها يمتزج بتنهده، وأهدت إليه علامة على تقديرها إياه نسخة من كتاب (نانهوا) وأخرى من كتاب (سوترا) وهما الكتابان اللذان يؤثرهما زوجها.

وكان هو أيضاً علامة على حزنه يصلي كل يوم بجانب القبر ساعة تجلس إليه لتبكي.

وفي إثناء هذه الجلسات كانت تدور أحاديث قصيرة ويتسارقان النظرات فنشا بينهما العطف فمال إليها كثيرا وأحبته اشد الحب.

ولما كانت راغبة في تعرف أحوال ضيفها استدعت خادمه وقدمت إليه النبيذ حتى سكر وسألته: (هل سيدة متزوج؟) فقال: (إنه لم يتزوج قط) فسألته الزوجة: (وما هي الصفات التي يشترطها فيمن يريدها زوجه). فقال وقد أثر فيه مثل جمالك يا سيدتي)

فسألته باهتمام: (هل قال ذلك حقا؟ أتخبرني بالصدق؟)

فأجابها الخادم: (إن رجلا في مثل سني لا يكذب)

قالت: (إذا كان الأمر كذلك فكن وسيطا في الزواج بيني وبينه)

فقال: (إن سيدي كلمني في ذلك قبل الآن، وإنه لولا احترمه لذكرى أستاذه لبادر بطلب الزواج)

قالت الزوجة: (الواقع أنه لم يكن قط تلميذا لزوجي، أما جيراننا فهم قليلون وليسوا من ذوي الاعتبار فلا يحسن أن تقيم وزناً لانتقادهم)

وهكذا ذللت العقبات وتعهد الخادم بان يكلم سيده. ولما ذهب الخادم شعرت السيدة بقلة الصبر شعوراً مضاعفا. وكانت تسير في منزلها ذهابا وجيئة وتنصت قرب النافذة علها تتسقط كلمة من حديثه وهي لا تفكر إلا في الزواج.

فلما دنت من القبر سمعت صوتا منه واضحا، وسمعت تنهدا فقالت: (هل من الممكن أن يعود الميت إلى الحياة في الدنيا؟).

ولكنها سرعان ما اطمأنت أما رأت الخادم السكران نائما بجانب القبر. ولو أنها لاحظت هذه الملاحظة في وقت عادي لأنبت الخادم وزجرته، ولكنها في هذا الوقت لم تجد خيرا من السكوت.

وفي صباح اليوم التالي قال لها الخادم أنه كلم سيده وإن السيد يجد في هذا السبيل ثلاث عقبات وهي:

أولاً: إن قبر الميت في وسط الدار، وذلك لا يجعله مسكنا صالحا للعروسين.

ثانياً: إن شوانج كان يحب زوجته حبا شديداً وإنها كانت كذلك تحبه، وهو يخشى إن تزوج منها ألا تستطيع حبه كما كانت تحب زوجها الأول؟

ثالثاً: أنه لم يأت معه من الثياب ولا من المال بما يلزم لإتمام الزواج

قالت الزوجة: إن هذه الأمور لا يصح أن تسمى عقبات في سبيل الزواج. . فقبر الميت ينقل من داخل المنزل إلى الحديقة التي خلفه. . أما من الوجهة الثانية، فقد كان شوانج محترما عظيم النفوذ ولكن به ضعفا من الوجهة الخلقية؛ فقد ماتت زوجته الأولى، وطلق زوجته الثانية، وكان قبل وفاته بقليل يغازل امرأة تروح على قبر زوجها ليجف، فلا يكن عند الطالب شك في أنه سينال من حبها إن تزوج منها أكثر مما ناله الزوج السابق! وأما من الوجهة الثالثة فإن لديها مالا كثيرا وستعطيه ثمن الثياب وتقوم بنفقات العرس!

وقالت: أخبره أن اليوم أنسب يوم للزواج، فلا يتردد، ولا يرجئ الأمر! وأعطت الخادم مالا كثيرا فذهب إلى سيده الطالب.

ولم يكد يذهب، حتى أبدلت تاين ثياب الحداد بثياب العرس وأوقدت الشموع واستعدت لحفلة الزفاف، ولكن في الموعد المحدد جاء الطالب هائجا وعليه الجنون. فاستدعت تاين الخادم وسألته هل اعتاد سيده أن تنتابه هذه النوبات؟

قال: نعم، فإنه مدله بحب الإله (تسو) إله العلم، وكانوا يعالجونه من هذه الحالة بأن يطعموه مخ إنسان!

فقالت: وهل يصلح لذلك مخ إنسان مات موتا طبيعيا؟

قال: نعم على شرط ألا يكون مضى على وفاته تسعة وثلاثون يوما!

فقالت: (الأمر سهل فأنه لم يمض غير عشرين يوماً على موت زوجي الأول فلنفتح قبره، ولنطعمه مخه).

قال: (وهل توافقين على ذلك؟)

فقالت: (إنني وسيدك الآن زوج وزوجة، وعلى الزوجة أن تفعل من اجل زوجها كل شيء فكيف أرفض إطعامه من جثة إن تركناها قليلا استحالت إلى تراب؟).

فأحضر الخادم فأسا وذهب مع تاين إلى القبر فحفراه حتى بدا الصندوق فناولها الخادم الفأس، وكسرت الصندوق فظهرت الجثة، ورفعت الزوجة يدها بالفأس لتكسر الجمجمة وتستخرج المخ، ولكن الجثة تثاءبت ثم فتحت عينها.

فصاحت تاين مذعورة ووقع الفأس من يدها، وجلس الفيلسوف الميت في قبره وقال: (يا زوجتي العزيزة ساعديني على القيام).

فخافت الزوجة ولم يكن في وسعها إلا أن تطيع، فساعدته وقادته إلى غرفتها، وكانت غير ناسية النظر الذي سيؤلمه في هذه الغرفة، ولذلك ارتعشت وهي تقترب من الباب؛ ولكن كان من حسن حظها أن الطالب وأصحابه خرجوا من تلك الغرفة قبل ذلك.

فانتهزت هذه الفرصة وقامت بالخدمة التي تحسنها كل امرأة وأقسمت أنها لم تكف عن البكاء بالليل ولا بالنهار. وأنها لما سمعت صوتا من جانب القبر تذكرت القصص القديمة التي تدل على احتمال عودة الموتى إلى الحياة؛ فأخذت الفأس لتفتح له القبر؛ وحمدت الله أن جعل ظنها صحيحا فعاد زوجها إليها.

قال: (أشكرك يا زوجتي العزيزة ولكن هل لي أن أسألك لماذا ترتدين ثيابا مفرحة كثياب العرس؟)

فقالت: (لما سمعت الصوت من جانب القبر حدثتني نفسي بأنك عائد إلى الحياة فلم أرد استقبالك في ثياب الحداد).

فقال: (ولكن أمراً آخر يستدعي الإيضاح وهو لماذا لم يكن قبري في داخل المنزل كما هي العادة بل خلف المنزل في الحديقة؟)

فلم تستطع الزوجة مع ذكائها أن تجيب عن هذا السؤال.

ونظر شوانج إلى كؤوس الخمر والشموع الموقدة وموائد العرس، ولكنه لم يد ملاحظة أخرى بل طلب إلى الزوجة أن تناوله كأساً من النبيذ ففعلت وهي تهش في وجه زوجها وتبسم له. ولكن رفض أن يتناول الكأس، وقال: (انظري إلى الرجلين الواقفين خلفك).

فنظرت ورأت الطالب وخادمه فارتجفت. ولكنهما اختفيا في الحال فعادت إلى النظر إلى زوجها فوجدته اختفى كذلك. ثم عادت إلى النظر خلفها فلم تجدهما، والتفتت فرأت شوانج أمامها مرة أخرى فأدركت الحقيقة، وهي أن طالب وخادمه لم يكونا إلا طيفين خلقتهما روح شوانج، ووجدت من العبث إنكار الحقيقة عنه.

ولما اعترفت بها وضعها في الصندوق الذي كان مدفونا فيه ثم أضرم النار في منزله فلم يسلم منه شيء غير كتابي (نانهوا) و (سوترا).

ثم سافر شوانج متجهاً إلى ناحية الغرب ولا يعرف أحد إلى أين ذهب، ولكن شيئا واحدا هو الذي يوثق به وهو أنه لم يعد إلى التزوج مرة أخرى.

ع. ق